تتميّز اليمن بغزارة ثقافتها وغناها، حيث تزخر بموروث ثقافي شعبي هام قلّ أن تجده في دولة أخرى، من رقصات وأغانٍ ولباس ومأكل، يطول الحديث عنه. في هذا التقرير سنتطرّق سويًا لأحد هذه الفنون الذي يعود تاريخه إلى العصور القديمة والذي ساهم بشكل كبير في تحديد معالم الهوية اليمنية، ونعني بذلك “الزامل اليمني” الذي يعدّ من أرقى الفنون الشعبية الأصيلة وأقدمها في البلاد.
شعر يردّده اليمني دون قيود القافية والوزن
استطاع أن يوحّد قبائل اليمن حوله لقرون عدّة، فقد سرت شهرته وكلماته البسيطة الضاربة في العامية لهجة ونطقًا، على كلّ لسان لما له من رسائل شعرية وقيمية توارثت الأجيال اليمنية جيلًا بعد جيل، فالمولود عند يرى الدنيا في تلك الربوع يأتي وقد سكن قلبه حبّ هذا الجنس الأدبي الشعبي.
أهميته، جعلته خالدًا وحاضرًا في طقوس الحياة اليومية فهو فن شعري يلحن وينشد جماعيًا للتعبير عن مناسبة ورفع معنويات وهمم منشديه، يردده اليمني دون قيود القافية والوزن للتعبير الفوري عن العاطفة الجمعية القبلية في مواقف السلم والحرب والمناسبات المفعمة بمشاعر الفخر والتعايش والكرم والحزن والشجاعة والنصر والتحدي .
يعتبر هذا الفنّ الشعبي، أقرب لقبائل الأرياف والبوادي اليمنية، وهي تاريخيا القبائل الكهلانية والقضاعية
يعني “الزامل” في لغتنا العربية الفصحى وفق كتاب “الزامل في الحرب والمناسبات” لمؤلفه صالح بن احمد بن ناصر الحارثي: “الصوت المختلط من عدة أصوات، وبمعنى آخر العدو المتمايل كسرعة الأعرج. وقد يتسع مدلول التمايل على التماوج كصوره للكثرة، وهو إنتاج جماعي روته أجيال عن أخرى، ولا يشكل البداع إلا أجزاءه في المناسبات الطارئة..”
فيما يعرف الأديب اليمني أحمد محمد الشامي الزامل في كتابه “قصة الأدب في اليمن“، بأنه ” نوع من الرجز يلجأ إليه أبناء اليمن عندما يكونون في حالة خصام أو حرب فيقف قائدهم وهو في الغالب يجيد نظم الزوامل، أو أي واحد منهم فيرتجز بضعة أبيات بلهجته العامية فيلتقفها القوم ويغمونها بأصواتهم، ثم ينشدونها جميعًا لإثارة الحماس وتحفيز الهمم. وكذلك إذا أرادت جماعة من الناس أو قبيلة من القبائل أن تحقق لها مطلبًا من مسؤول أو حاكم أو قبيلة أخرى فإنها توفد زمرة منها تمثلها وهم ينشدون الزامل الذي قد وضعوا فيه مطلبهم وأوجزوا فيه غرضهم”.
يعتبر هذا الفنّ الشعبي، أقرب لقبائل الأرياف والبوادي اليمنية، وهي تاريخيًا القبائل الكهلانية (معظم قبائل سبأ تفرعت من كهلان ما عدا حمير فهو أخ لكهلان) والقضاعية (قبيلة عربية قديمة أختلف النسابة في نسبها فنسبوهم لحمير ومنهم من نسبوهم إلى معد).
رغم عديد وجود محدّد لبداية هذا الفن الشعبي اليمني، فإن العديد من المراجع والمصادر التاريخية والحديثة ترجع بداية هذا الفنّ أوائل القرن السادس ميلادي، وهو فن ابتدعه اليمنيون لتصوير بعض اللحظات الإنسانية وعلاقتها بقيم الخير والشجاعة والقوة.
من الحرب إلى الترحيب والرثاء
في بداية ظهوره، كان هذا النوع من “الإنشاد” مخصّصًا للحروب والمعارك، فقد تعلّق اسمه قديمًا بالحرب والقتال وغرضه إخافة الأعداء وبثّ الرعب فيهم قصد التمكّن منهم نفسيًا وهزيمتهم شرّ هزيمة حتى قبل بداية المعركة، فعندما يسمعه المقاتل ينتابه شعور طاغ بأنه قادر على فعل المستحيل وألا شيء أمامه صعب.
حينها كان يقف قائد المعركة الذي يجيد نظم الزوامل ويطلق عليه “الزامل” فيرتجل بضعة أبيات بلهجته العامية، فيلتقطها أفراد القبيلة (الزمالة) وينغمونها بأصواتهم، ثم ينشدونها جميعًا لخلق الحماس وتحفيز الهمم فيتضاءل العدّو أمامهم، فللزامل قدرة تحشيدية هائلة في المجتمع القبلي اليمني.
عادة ما يكون الزامل وليد اللحظة، حيث يتم ارتجاله في الحال بصورة مباشرة وأبياته بليغة وعباراته مكثفة ومحكمة المبنى والمعنى
في كتابه، “اليمن من الباب الخلفي“، يشير المستشرق الألماني هانز هولفرتيز، إلى ان أهل اليمن يعتقدون بأن مجرد إنشاد هذا النشيد الذي يسمى “زامل” فذلك كفيل ببث الفزع في قلوب الأعداء، إذ يمتزج الإيقاع الصاخب والحاد للزامل، باحتدام القوة اللفظية في كلماته، ليهيّج في سامعيه الحماسة والحمية.
مع تقدّم الوقت، تطوّر الزامل ولم يعد ذا هدف واحد واستعمال وحيد، فقد ظهرت زوامل مثل زامل الترحيب والرثاء والأعراس والهجاء والتربيع (الانضمام في حلف لقبيلة أخرى) وغيرها، ومثلما يشعل الزامل الحرب فإنه يطفئ الغضب، فالمعنى واضح لا يحتمل لبسًا.
عادة ما يكون الزامل وليد اللحظة، حيث يتم ارتجاله في الحال بصورة مباشرة وأبياته بليغة وعباراته مكثفة ومحكمة المبنى والمعنى، ويصاحب الزامل رقصات البرع التي تؤدى بشكل جماعي على دقات الطبول والمرافع وأصوات الشبابة أو القصبة المزمار.
يعتبر الزامل لون جبليّ سريع الإيقاع كأنّما يعبّر من خلال ذلك وبتلقائيّة عمّا تفرضه الحركة من أعلى إلى أسفل، من تسارع في الخطو، وللزامل بحوره الخاصة منها البحر الطويل والبحر الخفيف أو السريع، ويتفاوت الزامل بين اثنين وثمانية أبيات.
الزامل في خدمة الحوثيين
نظرًا لقدرته الكبيرة على التحشييد في المجتمع القبلي اليمني، وأهمية الشعر عند اليمنيين لطبيعة الشعب القبلية وافتخار القبائل بشعرائها قديما وحديثا، عمل الحوثيين على تطويع هذا الفن الشعبي خدمة لهم، حتى أصبح للزامل دورًا محوريًا في إذكاء “حميّة” المعركة المسلحة، لدى الحوثيين وأنصارهم.
نتيجة ذلك، انتشرت زوامل الحوثيين من أجل شحن الفرد وهندسة المجتمع، من ذلك زامل “ما نبالي” الذي انتشر بكثافة في المجتمع القبلي اليمني، حتى بين الأطفال الصغار الذين كانوا يرددون مطلعه، لسهولة تأثير الإيقاع فيهم، ويقول المطلع: “ما نبالي ما نبالي ما نبالي… واجعلوها حرب كبرى عالمية.. حن قلبي للجرامل والأوالي... والله إن العيش ذا يحرم عليه.. في سبيل الله ذقنا المر حالي… مرحبا بالموت حيا بالمنية”.
كما انتشر بين اليمنيين زاملًا أخر للحوثيين بعنوان “حيا بداعي الموت” ويتضمن تمجيدًا لآل البيت وحثاً على الجهاد، وتقول كلمات هذا الزامل ” حيا بداعي الموت قل للمشرقي والمغربي.. إحنا جنود الله بعنا بيع ما حد يشفعه.. النفس له والروح والدم له مقربي.. والعز لي والفخر لي يوم اللقاء في مجمعه..”
استعمال الحوثيين القادمين من محافظة قبلية ذات مخزون مذهبي للزامل أعاد هذا الفن الشعبي إلى الساحة اليمنية بقوة، حيث أصبح عصب الجماعة وفنها القادر على استقطاب مزيد الأنصار وشحذ هممه لمقاتلة “العدو”، وهو المعوّض للأغاني التي منعوها حتى في الأعراس في المناطق التي تحت سيطرتهم.
كما أنشد الحوثيون زاملًا يهجوا الإماراتيين عقب مقتل نحو 54 من جنودها وضباطها في قصف صاروخي حوثي على معسكر بصافر في محافظة مأرب. وتقول كلمات مطلع الزامل الذي أدّاه مؤدّي الزوامل الحوثية الشهير، عيسى الليث: “عز الله أن الدرس كافي بمأرب بس الإماراتي غبي ما فهمها”.
نتيجة هذا الاستعمال المكثّف، طغى هذا الفن الشعبي على الأغنية الوطنية اليمنية التي كانت تدعو إلى الألفة ولمّ الشمل، وهو ما مثّل انعكاس طبيعي لواقع الحياة والصراع الحاصل بين أبناء البلد الواحد، فقد أصبح “الزامل” مجدّدًا عنوانًا للحرب بعد أن تحوّل في فترة ما إلى رمز للسلام.