قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير نشرته أمس على موقعها الإلكتروني إن الإصلاحات الاجتماعية المهمة التي نُفذت تحت حكم ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان ترافقت مع تشديد القمع وممارسات مسيئة تهدف إلى إسكات المعارضين والمنتقدين.
التقرير الصادر في 57 صفحة، بعنوان “الثمن الفادح للتغيير: تشديد القمع في عهد محمد بن سلمان يشوّه الإصلاحات“، أشار إلى أن المظاهر البراقة التي أحاطت بصورة ولي العهد منذ تعيينه في يونيو/حزيران 2017 بهدف تسويقه خارجيًا، والتقدم الظاهري الذي أحرزه لنساء المملكة وشبابها، تقف خلفها حقيقة مُظلمة، تتمحور حول سعي السلطات السعودية إزاحة أي شخص في البلاد يجرؤ على الوقوف في طريق صعود الأمير السياسي.
نائب مديرة قسم الشرق الأوسط لدى المنظمة، مايكل بَيْج، في تعليقه على التقرير قال: “أنشأ محمد بن سلمان قطاعا للترفيه وسمح للمرأة بالسفر والقيادة. لكن السلطات السعودية حبست العديد من المفكرين والنشطاء البارزين الإصلاحيين في المملكة خلال ولايته، والذين دعا بعضهم إلى تطبيق هذه الإصلاحات نفسها. إذا كانت السعودية تسعى إلى إصلاحات حقيقية، فعليها ألا تعرّض أبرز نشطائها إلى المضايقة، والاحتجاز، وسوء المعاملة”.
وارتكزت المنظمة في تقريرها على مقابلات مع نشطاء ومعارضين سعوديين منذ 2017، وبيانات حكومية ومستندات من المحكمة بالإضافة إلى مراجعات شاملة وتفصيلية لوسائل الإعلام المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي السعودية، مختتمة بحزمة من التوصيات لكل من الحكومة السعودية وحلفاء المملكة في الخارج.
حملة قمع ممنهجة
التقرير استعرض أبرز مظاهر انتهاك حقوق الإنسان التي قامت بها السلطات السعودية تحت ولاية ابن سلمان، مستهلا إياها بحملات الاعتقالات التي استهدفت فيها عشرات المنتقدين الحاليين والمحتملين للسياسات الحكومية السعودية، ومنهم رجال دين ومثقفين وأكاديميين ونشطاء حقوقيين بارزين في سبتمبر/أيلول 2017، وبعض كبار رجال الأعمال وأمراء بالعائلة المالكة المتهمين بالفساد في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، بالإضافة إلى مدافعات بارزات عن حقوق المرأة بالمملكة في مايو/أيار 2018. تزامنت موجات الاعتقال غالبا مع حملات تشهير بحق المعتقلين في الإعلام الموالي للحكومة بالمملكة.
المنظمة علقت على هذه الحملات بأن “مسألة اعتقال المواطنين جراء الانتقاد السلمي للسياسات الحكومية أو الدفاع عن الحقوق ليس بالظاهرة الجديدة في السعودية، لكن العدد الهائل والطيف الواسع للمستهدفين خلال فترة زمنية قصيرة جعل موجات اعتقال ما بعد 2017 ملحوظة ومختلفة، فضلا عن إطلاق ممارسات قمعية جديدة لم تشهدها المملكة في العهود السابقة”
من أساليب القمع التي استخدمتها السلطات السعودية ضد معارضيها ابتزاز الأصول المالية من المحتجزين مقابل إخلاء سبيلهم، بعيدا عن أية عملية قانونية
كما استعرضت مظاهر الانتهاك التي مورست ضد مواطنين، منها احتجاز الأفراد في أماكن احتجاز غير رسمية، مثل المحتجزين بسبب الفساد المزعوم، في فندق “ريتز كارلتون” (الريتز) الفخم بالرياض، من أواخر 2017 وحتى مطلع 2018، فضلا عن اعتقال ناشطات حقوقيات بارزات في “فندق” أو “دار ضيافة” خلال صيف 2018 أثناء التواجد بمراكز احتجاز غير رسمية.
هذا بخلاف ما تناقلته بعض المصادر بشأن تعرض المحتجزين والمحتجزات للتعذيب والمعاملة السيئة. مثلا، في 12 مارس/آذار 2018 أفادت “نيويورك تايمز” بأن 17 من محتجزي الريتز احتاجوا إلى دخول المستشفى جراء التعرض لاعتداءات بدنية، ومنهم رجل توفي لاحقا في الاحتجاز. كما تلقت “هيومن رايتس ووتش” في أواخر 2018 معلومات موثوقة من مصادر مطلعة بأن السلطات عذبت 4 ناشطات حقوقيات سعوديات بارزات أثناء تواجدهن بمركز احتجاز غير رسمي، بما يشمل تعريضهن للصعق بالكهرباء والجلد على الأفخاذ، والعناق والتقبيل والملامسة بشكل قسري.
ومن أساليب القمع التي استخدمتها السلطات السعودية ضد معارضيها ابتزاز الأصول المالية من المحتجزين مقابل إخلاء سبيلهم، بعيدا عن أية عملية قانونية، وطلب الإعدام لمحتجزين على أعمال لا ترقى إلى جرائم معترف بها. مثلا، تطالب النيابة العامة السعودية حاليا بإعدام المفكر الديني الإصلاحي حسن فرحان المالكي بتهم فضفاضة متصلة بتعبيره عن أفكاره الدينية السلمية، وإعدام رجل الدين المعروف سلمان العودة، لتهم ناجمة فقط عن تصريحاته السياسية السلمية ومعارفه ومواقفه. اعتقل كلاهما أثناء حملة سبتمبر/أيلول 2017.
وفي إطار استخدامها لتلك الأساليب استعانت السلطات بتقنيات وبرمجيات للمراقبة الإلكترونية، متوفرة تجاريا لقرصنة الحسابات الإلكترونية لمنتقدين ومعارضين للحكومة، حيث توصل “سيتيزن لاب”، وهو مركز بحثي أكاديمي مقره كندا، وبـ “ثقة كبيرة”، إلى أن الهاتف الخلوي الخاص بناشط سعودي كان مصابا ببرمجية تجسس في 2018، وأعلن نشطاء آخرون أنهم استُهدفوا بنفس برجمية التجسس.
التقرير كشف أن كل تلك الجرائم ما كانت تحظى بتسليم الضوء ولم تخضع الملمكة للتدقيق الدولي الذي تستحقه حتى أكتوبر/تشرين الأول 2018، عندما قُتل الصحفي والكاتب في “واشنطن بوست” جمال خاشقجي بشكل وحشي بالقنصلية السعودية في إسطنبول، ما صدم الرأي العام العالمي وأدى إلى تدقيق أوسع في وضع حقوق الإنسان بالمملكة.
وفي 14 فبراير/شباط 2019 مثلا، اعتمد “البرلمان الأوروبي” قرارا يطالب السعودية بالإفراج الفوري ودون شروط عن “المدافعات عن حقوق المرأة وكافة المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين والصحفيين وغيرهم من سجناء الضمير الذين سُجنوا وعوقبوا مجرد ممارستهم لحقهم في حرية التعبير.
طالبت هيومان رايتس ووتش بفرض عقوبات على المسؤولين السعوديين على أعلى المستويات الذين لعبوا أدوارا في مقتل جمال خاشقجي أو ارتكبوا أعمال تعذيب، وتقييد تصدير تراخيص تكنولوجيا المراقبة إلى السعودية.
وفي 7 مارس/آذار 2019، أصدرت 36 دولة في “مجلس حقوق الإنسان” التابع لـ “الأمم المتحدة” أول بيان مشترك على الإطلاق حول الانتهاكات الحقوقية السعودية، وطالبت المملكة بـ “إخلاء سبيل جميع الأفراد، ومنهم لجين الهذلول، وإيمان النفجان، وعزيزة اليوسف، ونسيمة السادة، وسمر بدوي، ونوف عبد العزيز، وهتون الفاسي، ومحمد البجادي، وأمل الحربي وشدن العنزي، الذين احتُجزوا بسبب ممارستهم لحرياتهم الأساسية”.
وأمام هذه الجرائم التي رافقتها حملة انتقادات قوية ضد المملكة، هددت مستقبل ابن سلمان في خلافة والده، استأنفت السلطات السعودية جهودها الرامية إلى تحسين سمعتها وتحوير الخطاب الدولي عن مقتل خاشقجي، وذلك جزئيا عبر إعلان إصلاحات كبرى بمجال حقوق المرأة.
ولكن رغم الإدعاءات التي قدمتها الرياض بشأن دعم حقوق المرأة بجانب الإصلاحات في المجالات الأخرى، تُبيّن الممارسات التعسفية والمسيئة بحق المعارضين والنشطاء منذ أواسط 2017، والغياب الكامل للمحاسبة، أن سيادة القانون بالمملكة لا تزال ضعيفة، ويمكن أن تتقوّض متى شاءت القيادة السياسية بالمملكة.
توصيات ثلاثية
قدمت المنظمة في نهاية تقريرها عددًا من التوصيات لعدة جهات وثيقة الصلة بحملة القمع التي مارستها المملكة ضد المعارضين لسياسات النظام الحاكم، أولها تلك الموجهة إلى الحكومة السعودية، حيث طالبت المنظمة بالإفراج فورا عن جميع المحتجزين المسجونين لمجرد ممارستهم سلميا لحقوقهم في حرية التعبير وتكوين الجمعيات، ومنهم السجناء المُدانين في جرائم مزعومة والخاضعين حاليا للمحاكمة والمحتجزين تعسفا.
كذلك التحقيق في مزاعم التعذيب وسوء المعاملة من قبل هيئة مستقلة، وضمان محاسبة جميع المرتكبين، وتحقيق الانتصاف للضحايا، والسماح للمراقبين الدوليين بدخول البلاد وإتاحة وصولهم دون عرقلة إلى المحتجزين، إضافة إلى نشر جميع المعلومات حول المحاكمة الجارية لـ11 شخصا اتهموا بقتل الصحفي جمال خاشقجي وتنفيذ توصيات مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحالات الإعدام خارج القضاء أو بإجراءات موجزة أو تعسفا، ضمن تقريرها الصادر في يونيو/حزيران 2019.
وفي السياق ذاته، طالبت بإيقاف جميع أعمال التهديد والمضايقات وحملات التشهير ضد النشطاء الحقوقيين وأفراد عائلاتهم، ومنها الحملات بحق الأفراد المناطة بهم سلطة دينية أو من يدعون ذلك، بجانب إيقاف فرض حظر السفر التعسفي دون مبرر أو إخطار، وتفعيل التغييرات على “نظام وثائق السفر” بما يضمن إمكانية الطعن أمام المحاكم بقرارات حظر السفر الصادرة عن وزارة الداخلية.
أما ثاني التوصيات فوجهت إلى حلفاء المملكة الأساسيين، حيث طالبت هيومان رايتس ووتش بفرض عقوبات على المسؤولين السعوديين على أعلى المستويات الذين لعبوا أدوارا في مقتل جمال خاشقجي أو ارتكبوا أعمال تعذيب، وتقييد تصدير تراخيص تكنولوجيا المراقبة إلى السعودية.
هذا بجانب التدقيق بشدة في صفقات الأسلحة التي يمكن استخدامها في تقييد الحقوق الأساسية، مثل حرية التجمع، والمطالبة بإخلاء سبيل المعارضين والنشطاء المحتجزين لمجرد انتقادهم سلميا للسلطات السعودية.
فيما تأتي الجهة الثالثة التي استهدفتها المنظمة بالتوصيات ممثلة في شركات التكنولوجيا، والتي طالبتها بوقف بيع تقنيات المراقبة إلى السعودية ووقف العقود الحالية التي تقدم التدريب والدعم التقني المستمرين، لضمان عدم مساهمة هذه الأنشطة في انتهاكات الحقوق؛ إتاحة الشفافية حول المبيعات السابقة لتقنيات المراقبة إلى المملكة.
علاوة على ضرورة التحقيق فيما إذا كانت تقنيات المراقبة التي بيعت للسعودية قد استُخدمت للتجسس على المعارضين داخل المملكة وخارجها، في خرق لشروط استخدامها ولمعايير حقوق الإنسان المنطبقة، والمطالبة بإخلاء سبيل المعارضين والنشطاء المحتجزين لمجرد انتقادهم السلمي للسلطات السعودية.
بعض من قُبض عليهم خلال موجات الاعتقال المتوالية كانوا مواطنين أميركيين، كما أن أحد المعتقلين المحليين كان من بين أكثر المستثمرين أهمية في العالم وهو الوليد بن طلال
نظام وحشي
وبالتزامن مع تقرير المنظمة الدولية حذرت صحيفة “واشنطن بوست” المستثمرين الأجانب من الاستثمار بشركة أرامكو السعودية التي اُعلن عن بدء الاكتتاب العام في أسهمها، قائلة إن كل مستثمر يشتري أسهما بالسعودية عليه أن يكون مستعدا للمغامرات المتهورة وتكتيكات الذراع القوية لولي العهد البالغ من العمر 34 عاما.
الصحيفة في افتتاحيتها اليوم الثلاثاء قالت إن “القمع واعتقال المنتقدين السلميين بالسعودية ليس بالجديد على المملكة، لكن ما يجعل عصر ولي العهد الحالي مختلفا عن كل العهود السابقة هو حجم أعداد المستهدفين واتساع انتماءاتهم وإدخال وسائل جديدة للقمع لم تشهدها فترات حكام السعودية السابقين. كما أشارت واشنطن بوست إلى اعتقال النساء في سجون سرية وتعذيبهن بالجلد والاعتداءات الجنسية”
وألمحت إلى أن المستثمرين الأجانب يجب أن يظنوا أنهم ليسوا ببعيد عن التعرض للمعاملة التي يُعامل بها السعوديون، كاشفة أن بعض من قُبض عليهم خلال موجات الاعتقال المتوالية كانوا مواطنين أميركيين، كما أن أحد المعتقلين المحليين كان من بين أكثر المستثمرين أهمية في العالم وهو الوليد بن طلال.
الصحيفة لم تغفل كذلك الإشارة إلى القبضة القوية للأمير بن سلمان على كل السلطات، ومن بينها سلطات الأمن والاستخبارات والقضاء، والتي أصبحت تحت سيطرته المباشرة منذ العام 2017، مختتمة افتتاحيتها بأن ولي العهد يظهر حاليا واثقا من أنه هزم ردة الفعل العنيفة من المجتمع الدولي عقب اغتيال الصحفي جمال خاشقجي قبل 13 شهرا.