“72 ساعة حاسمة”، “الشعب يزعزع إمبراطورية السلطة”، “فرصة حقيقيّة للتغيير”، عناوين صحف لبنانية لخصت مشهد الحراك الأخير، واتخذت منحى مختلفاً إلى حد كبير، عن نظيرتها في دول عربية أبرزها مصر التي يعتبرها البعض مدرسة صحفية عريقة، مع أن كبريات صحفها تصدر بوجه متشابه مثل خبز الفران.
ففي مصر، انحدرت الصحف نحو تأييد السلطات بشكل فج، وتوجه المذيعون نحو الترهيب الذي يحذر من مصير مجهول، أثناء ثورات ما عرف بـ”الربيع العربي” 2011، أما في سوريا كمثال آخر، فقد ثبتت الرؤية، وانتهجت وسائل الإعلام دعم النظام، ثم نشأت متأخراً وسائل إعلام سورية “مهاجرة”، أنتجت ثورة جديدة في المفاهيم.
آخر حراك عربي، كان في لبنان، حيث لا يوجد وسيلة إعلام حرة مستقلة تعبّر عن هم مشترك، في بلد تتعدد فيه الأديان والطوائف والأحزاب، ويتعاطى إعلامه مع مختلف الأحداث والقضايا السياسية وغيرها، انطلاقاً من إقصاء الآخر واحتكار الحقيقة وتأجيج الصراع.
تهاوت أوراق الخريف هذه المرة، وقرر الإعلام اللبناني الابتعاد عن الخطاب الحزبي، فأمسك العصا من المنتصف، في محاولة لمعالجة أزمة سياسية كبرى تمثلت برفض الفساد والضرائب والواقع المعيشي، ومع أنه كان لكل وسيلة إعلامية منهجها دون تطابق، إلا أن بعض وسائل الإعلام وقعت في شرك التناقض خلال الـ72 ساعة التي طلب رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، من المتظاهرين أن يمنحوه إياها، “لتقديم حل يرضي الشارع والمجتمع الدولي”.
تغطية متناقضة
في المشهد السابق، تظهر مراسلة “MTV LEBANON”، وهي تلاحق زوجين مسافرين يحاولان الخروج من البلاد. في رسالة بديعة، حاولت أن تظهر من خلالها، الوضع الذي آلت إليه البلاد، حيث يسير أولئك السياح سيرًا على الأقدام لعدم وجود وسيلة أخرى في المكان الذي عج بالمتظاهرين والجيش على حد سواء، وتقول إن أمامهما ساعة من المشي للوصول إلى المطار.
التناقض ظهر بعد ساعات قليلة من المظاهرات، عندما غيرت القناة من أسلوبها، وتحديداً المراسلة جويس عقيقي، عندما ركزت في تغطيتها على تغير نوعية المتظاهرين بالقول “الموجودون يشربون السجائر، ويقودون دراجات نارية”، وسرعان ما بدأت تلف على المتظاهرين، وتسألهم “من أرسلك؟”، “من أرسلكم؟”، “من طلب منكم النزول إلى الشارع؟”، في استعادة فجة لما يركز عليه صحفيو الدولة في مصر مثلاً.
بينما ركزت قناة OTV التابعة للتيار الوطني الحر الذي ينتمي إليه الرئيس ميشال عون تغطيتها على مشعلي النيران في الإطارات، وحاولت الترويج لتحكم الطائفة الشيعية بالحراك، علماً أن القناة نفسها قطعت بثها، مساء أول يوم للمظاهرات، وأوقفت تغطيتها للحراك لتبثّ برنامج “على نار لطيفة” للطبخ.
وعن ذلك، يقول الصحفي والكاتب اللبناني علي مراد إن “تغطية الإعلام اللبناني تشبه الواقع السياسي هناك، فالأحزاب السياسية لديها محطات ومواقع إخبارية وإذاعات، كما أن السياسة الحزبية تنعكس على طبيعة التغطية الإخبارية والسياسة التحريرية لكل وسيلة، لكن الزخم الكبير الذي شهده الشارع في مرحلة معينة، أجبر كل المحطات بما فيها التابعة لأحزاب السلطة على تغطية الحراك”.
ويتابع أنه “في مرحلة معينة كانت القنوات التابعة للسلطة وأحزابها، محرجة من نقل الصورة كما هي، ولكن بعد حصول تطورات سياسية وأهمها عرض رئيس الوزراء سعد الحريري ورقته التي وصفها بالإصلاحية، تغيرت التغطية”.
والآن، تدفع وسائل الإعلام التابعة لأحزاب السلطة باتجاه إنهاء الحراك “لأن قرارات الحكومة التي تتكون من هذه الأحزاب يراد لها بأن تمر ويعود المتظاهرون أو يخف الزخم بالشارع”، وفق مراد.
مصالح وأجندات
وكمثال على تغطية الصحف، رصدنا تغطية صحف الجمعة 18 أكتوبر، حيث وضعت جريدة الأخبار القريبة من “حزب الله”، في صفحتها الأولى، صورة لشاب كتب على ظهره “أقاتل كي أعيش”، بينما انحازت صحيفة الديار لزعيم “حزب الله” حسن نصر الله، وقالت إن مضمون رسائله “أنهى الأزمة وحدد المسؤوليات والعواقب”، وأكدت أن تصريحاته الأخيرة حذرت من يتهرب من المسؤولية.
وكان من الغريب أن تكتب صحيفة الشرق المحلية القريبة من تيار المستقبل المؤيد لرئيس الحكومة سعد الحريري: “الضرائب تلهب الشارع ودعوات إلى العصيان، موجة الغضب الشعبي تتعاظم ككرة ثلج مرشحة للانفجار”.
في حين بدت صحيفة “النهار” أكثر رومانسية، حيث ركزت على وصف الساحات، وتحدثت عن “أبهى حالات بيروت”، و”التظاهر على وقع الأغاني”، و”التنفس بحرية”.
تعدى أمر التغطية، إلى تقييم الصحافة اللبنانية نفسها بنفسها، حيث كتبت صحيفة المدن مقالاً عن تغطية قناة “الجديد”، بعنوان “حين ترضخ السلطة للإعلام!”.
أما صحيفة “الجمهورية” التي تصنف نفسها على أنها مستقلة، فكانت أكثر اتزانًا من ناحية انتقاد الحريري، فكتبت “السلطة تُشعل الشارع ودعوات إلى استقالة الحكومة”، في حين كتبت صحيفة “نداء الوطن” المدعومة خليجيا “حزب الله يركب الموجة”.
والنقطة الأبرز هنا، بحسب علي مراد أن الإعلام غير المحزب وغير التابع للسلطة بشكل مباشر، كان له ارتباطات خارجية، ومعروف أنه “من خلال سياسته في نقل الحدث يحاول تلميع صور وشخصيات معينىة في خارج لبنان، وهذه الأحزاب كان لها السهم الأكبر بالحضور في الشارع”.
ويقول مراد إن بعض القنوات غير المحسوبة على أحزاب موجودة بالحكومة، كانت تغطيتها تحظى بحضور كبير، وعلى سبيل المثال قناة الجديد وlbc وmtv، وسعت هذه القنوات لإبقاء الحالة الثورية بالشارع.
أداء الإعلام
وتعدى أمر التغطية، إلى تقييم ونقد الصحافة اللبنانية نفسها بنفسها، حيث كتبت صحيفة المدن مقالاً عن تغطية قناة “الجديد”، بعنوان “حين ترضخ السلطة للإعلام!”.
وقالت الصحيفة: “ما يهمنا كمشاهدين هو قياس أداء الإعلام في نقل الصورة بخصوص ما يجري على الأرض، وهو ما ظهر جلياً في التغطية التي قامت بها قناة الجديد للتطورات في مدينة صور، والتي يُبنى عليها الكثير بوصفها تغيراً في المزاج الشعبي لسكان جنوب لبنان حيث تنقسم معظم الولاءات السياسية لحزب الله وحركة أمل”.
وحسب المقال، نجح مراسلو القناة في نقل تظاهرات مدينة “صور” إلى متظاهري بقية المناطق وإلى شنّ حملة “ناعمة” قوامها التعدّيات والممارسات العنيفة التي ارتكبتها العناصر المسلحة.
وتقول الإعلامية فاطمة زين الدين إن عددًًا من القنوات لم تتابع الحراك منذ البداية، ومنها OTV التابعة لرئيس الجمهورية، لكنها استدركت باليوم التالي وواكبت التغطية، أما تلفزيون لبنان التابع للدولة، فعمل على تغطية الحراك في اليوم السادس له، ومن خلال وجود ضيف، حيث لم يكن هناك تغطية ميدانية، في حين أن قناة NBN التابعة لرئيس مجلس النواب غطت الحراك بموضوعية.
أما الشيء الإيجابي، والحديث لـ”زين الدين” أن “الكل حاليا ينقل نبض الشارع، وجميع القنوات في الميدان، ضمن تنافس جيد”، وعلى الرغم أنها لم تخف أن لكل وسيلة إعلامية أجندتها الخاصة، إلا أنها أكدت وجود رفض كبير لتجيير الحراك واستخدامه لمصالح حزبية.
ولم تخل التغطية اللبنانية عموما من الأخطاء، فخرج عدد من القنوات في بث مفتوح من دون رقابة ولا تقطيع، وجرى الاستماع للمرة الأولى إلى تدفّق الشتائم التي وجّهها المواطنون إلى المسؤولين.
وسلطت صحيفة “العربي الجديد” (يوجد لها مقر في لبنان) في مقال لها، الضوء على تلك الحوادث وقالت: “شتائم بالجملة عجز المراسلون أو المسؤولون عن البث المباشر عن اللحاق بها لقطعها أو منعها”.
تحشيد إعلامي
في مقال نشرته صحيفة الأخبار، تقول الصحفية زينت حاوي إن قناة ” LBCI Lebanon” حاولت التغطية على عمليات البطش والقمع وضرب المتظاهرين من قبل القوى الأمنية، وغضت النظر عما يحصل على الأرض من اعتقالات، وتجنبت الحديث عن الممارسات الأمنية المنتهكة لحقوق الإنسان، مع تركيز أكثر على أعمال الشغب وتكسير واجهات المحال في وسط العاصمة.
يظهر من هذه الاختلافات مجتمعة، اعتماد غالبية وسائل الإعلام اللبنانية على التمويل السياسي وتكريس عملها المهني ومنتجاتها لتأدية وظائفها السياسية في خدمة الممولين من الداخل والخارج، عبر الحشد والتعبئة
ومن باب التأكيد والتكرار، تابعت: “عتّمت القناة على بطش القوى الأمنية، وعادت صباحاً لتركز على الخسائر المادية التي ألحقت بالمحال التجارية، في ظلّ حديث عن ملايين الدولارات لإعادة إصلاحها”، وهو ما قد يظهر محاولة لحرف التغطية عن مسارها.
وفي الأزمات الكبرى كالتي يعيشها لبنان، لا سيما مع تغير أجندات القنوات الإعلامية بين ساعة وأخرى، أو التعتيم على مفاصل هامة من الحدث، فالحل يكمن في لجوء الناشطين إلى الشبكة العنكبوتية للتحشيد، كما تقول حاوي.
لكن في هذا الصدد، تحدثت الإعلامية زين الدين عن مشكلة كبيرة في وسائل التواصل، تتمثل في تركيزها على السلبيات والمشاهد الفاضحة في الشارع، وتحميل الأزمة السياسية إلى فئة دون أخرى، بينما وصفت تغطية وسائل الإعلام عموماً بالمتزنة والإيجابية.
ويظهر من هذه الاختلافات مجتمعة، اعتماد غالبية وسائل الإعلام اللبنانية على التمويل السياسي وتكريس عملها المهني ومنتجاتها لتأدية وظائفها السياسية في خدمة المموّلين من الداخل والخارج، عبر الحشد والتعبئة.
ومع ذلك، يبقى الإعلام اللبناني واحة متنوعة تحظى ببعض الحرية وتعرض وجهات نظر متباينة تبيح بعض المحظورات، في وقت تتحول التغطية والبرامج السياسية في دول عربية أخرى إلى دعاية مباشرة فجّة للسلطة، يحكمها الخوف والارتهان، وتجاهل مواثيق الشرف الإعلامية.