ما سر المطالبات بإقامة ولايات فيدرالية في السودان؟ وهل أصبحت الفيدرالية النظام الأفضل لتقاسم السلطة والثروة والموارد بشكل عادل بين الأقاليم، للتغلب على النزعات الانفصالية ودمج الحركات المسلحة في جسد الدولة أم ثقافة الفيدرالية لا تناسب العقلية العربية والإفريقية؟!
على مدار الأشهر الماضية، وخاصة بعد التوصل إلى حل تاريخي وتشكيل مؤسسات حكم في السودان تصلح لبناء ديمقراطية مؤسسية، والاجتهادات بشأن شكل الدولة السودانية لم تنته، مشاورات وابتكارات عن الطريقة التي يجب اتباعها بعد نهاية المرحلة الانتقالية، لنظام حكم يتقاسم السلطة والثروة والموارد ويتغلب على النزعات الانفصالية المسلحة، لذا تظهر في الصورة بقوة “الدولة الفيدرالية”.
الفيدرالية والسودان.. ماذا بينهما؟
قبل أيام، أصدر تحالف القوى الثورية، المؤمن بمشروع بناء السودان على أسس جديدة معاصرة، بيانًا يوضح كيفية إعداد صيغة مثالية لديمقراطية مؤسسية، بعد فشل كل تجارب الحكم التي شهدها السودان لأكثر من ستة عقود.
أشارت القوى الثورية إلى ضرورة بناء دولة فيدرالية حقيقية، تلبي تطلعات الجماهير في دولة مدنية تلتزم ـ وفق تعبيرات البيان – باستكمال نضالات الشعب وقطع الطريق على من أسموهم القوى الظلامية والانتهازية المعادية لبناء دولة وطنية حديثة، واعتبرت القوى الثورية أن مشروع الفيدرالية الأمل في تمثيل حقيقي لإرادة الشعب، لا سيما الفقراء والكادحين في كل أقاليم السودان الذين عانوا من فشل التجارب السياسية بمختلف توجهاتها.
بيان القوى الثورية تفوح من بين سطوره كل تعقيدات الماضي في السودان، فالمؤامرات والانقلابات والصراعات الداخلية، كانت دائمًا أهم أسبابها، تهميش سياسي واقتصادي، انتهى إلى تمكين ثقافة الميليشا المسلحة من بلد متعدد الأعراق والمعتقدات والثقافات واللغات، وهو ما يجعل البعض الآن، يطالبون بنظام حكم مثالي فيدرالي، يُمكن أهل الأقاليم من حكم أنفسهم بأنفسهم وإدارة شؤونهم على أسس المواطنة ووفق آليات دستورية حديثة لا مجال فيها لاستغلال الدين أو الفتن الجهوية والعرقية في المناورات السياسية.
ما النظام الفيدرالي؟
أحد أنماط التنظيم السياسي والمؤسساتي للدول، وبموجبه تتحد مجموعة وحدات سياسية مستقلة “دول ـ ولايات ـ كانتونات ـ إلخ” في دولة واحدة، على أن تتمتع هذه الوحدات السياسية باستقلالية واسعة في تدبير شؤونها، وبهياكل مؤسساتية مستقلة تمامًا عن الحكومة الفيدرالية، تدشن على مبدأ تقاسم السلطة والسيادة.
في النظام الفيدرالي، تختص الحكومات المركزية بالسياسة الخارجية والدفاع، كما تتولى جميع الشؤون المالية كتحصيل الضرائب ووضع الميزانية الفيدرالية، على أن يكون للوحدات السياسية نصيب من عائدات الضرائب والنشاط الاقتصادي والاستثماري الذي يتم على أراضيها.
يعتبر الفيلسوف الألماني جوهان ألتيزيوس، أول من وضع أسسًا واضحة وآليات تنظيمية لدولة ضمن إطار اتحادي تضامني، في القرن السابع الميلادي، وسطر الرجل خلاصة أفكاره في كتاب صدر له عام 1603 بعنوان “السياسة – عرض منهجي ومعزز بنماذج شاهدة ومقارنة”.
رغم وجاهة الفكرة، فإن مشكلات الهوية والصراع الوجودي الشرس بين التيارات المدنية والدينية الذي أعاد أغلب بلدان الربيع العربي عقودًا للخلف ودمر مكتسبات الثورات، قد تجعل من الفكرة شرًا مستطيرًا
عربيًا، نشطت الأصوات الراغبة في إقامة دولة فيدرالية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، مطلع عام 2011، فقدم البعض تصورات عن خطورة عدم تأسيس نظم حكم لامركزية في ظل تربة مشبعة بالشمولية والاستبداد، تتمرغ في المركزية المتطرفة منذ عقود مضت ولا تعرف مؤسساتها والقائمون عليها من سيادة وقوة الدولة إلا منطق الهيمنة على كل شيء، وهو أسلوب حكم يناقض الدولة الحديثة التي تفرق بين هيبة الدولة وهيمنة الدولة.
ورغم وجاهة الفكرة، فإن مشكلات الهوية والصراع الوجودي الشرس بين التيارات المدنية والدينية الذي أعاد أغلب بلدان الربيع العربي عقودًا للخلف ودمر مكتسبات الثورات، قد تجعل من الفكرة شرًا مستطيرًا، فالمجتمعات التي تفتقر إلى مؤسسات ديمقراطية راسخة وفهم مجتمعي واضح متفق عليه لمعنى الديمقراطية ومنظمات مجتمع مدني حيوية تملك رؤية موضوعية لحل مشكلات القضايا الجوهرية التي تخص أوطانها، قد تجعل الفيدرالية، طعنة قاتلة في جسد الدولة.
وما يجعل الفيدرالية حلاً صعبًا أيضًا للمنطقة العربية، الخلفيات الفكرية والجهوية والسياسية للأصوات التي تطالب بها، حيث يمكن تقسيمهم إلى فئتين: الأولى أصوات تعاني من ظلم تاريخي، كما هو الحال في اليمن وليبيا، والأخيرة كانت تحكم بنظام فيدرالي بالفعل حتى عام 1965، ما يجعل لهذه المطالبات شرعية تاريخية وتجربة يمكن الاستناد إليها في تأسيس شرعية جديدة تنقذ البلاد من أزمتها.
أما الأصوات الأخرى، وهي الأخطر، فهي التي تتبناها الأحزاب والقوى السياسية، دون طرح تنويري أو جهد تأطيري يوضح لعامة الناس ماذا تعني الفيدرالية، ولماذا هي الحل الأفضل، وآليات وشروط نجاحها، وتحصر النقاشات المصيرية على نخب الغرف المغلقة، رغم الحاجة إلى ظهير شعبي يدعم ويؤيد عملية بتر أسنان الشمولية ويرمم ثغرات الديمقراطية الناشئة، حتى لا يتمكن النظام القديم من العودة بشكل أكثر شراسة، وفق قواعد جديدة تمامًا، تنهي على أي مساحة للحوار وتؤسس لديكتاتورية قاسية لا تحكمها التزامات ولا عرف أو قانون.
في الحالة السودانية، يحدد الدكتور عمر عوض الله جعيد، ابن مدينة الأبيِّض من وسط غرب السودان، شروط إقامة نظام فيدرالي، ويلزمه بتوافّر ستة شروط: وجود إقليميْن أو ولايتين، فما أكثر، وتوافر دستور قومي يحدد سلطات هذه المستويات دستوريًا، حتى لا تصبح مجرد منحة تقدمها الحكومة المركزية، وتتراجع عنها متى أرادت، وكذلك توفير قدرة للولايات والأقاليم، في التأثير على آليات اتخاذ القرار على المستوى المركزي، خاصة فيما يكون له انعكاس على شؤون الأقاليم، ومحكمة دستورية عليا تفصل في النزاعات إذا حدثت بين الأقاليم والحكومية المركزية، وألا يستأثر مستوى من الحكم دون آخر بإمكانية تعديل الدستور، وتنظيم قانوني للعلاقات التنسيقية، ويعتبر جعيد هذه الشروط، المرتكزات الرئيسية لأي نظام فيدرالي ناجح.
الخوف من الفيدرالية.. لماذا؟
يطبق النظام الفيدرالي في هذا الحزام القريب من السودان، دولة جنوب السودان بعد انفصالها، التي استعانت به للتغلب على أوجاع الماضي، في تأسيس دولتها الوليدة منذ عام 2011، ولحق بها الصومال عام 2012، أما الجارة إثيوبيا فتطبقه منذ عام 1995 وجزر القمر 1975، وقبلهم نيجيريا التي تعتمده نظامًا للحكم منذ عام 1963، وكذلك الكاميرون.
المثير للدهشة أن شعبية هذا النظام لدى الأفارقة لم تجعله الحل الأمثل للتعامل مع التعددية الثقافية في البلد الواحد، فهو في نظر الكثير من الخبراء محل قلق دائم، لا سيما أنه يضمن فتح جروح بلدان غير مستقرة تعيش ضمن حزام إقليمي، لا تعرف أغلب أنظمته السياسية إلا التآمر على بعضها البعض، مما يجعل هذه البلدان واحةً وأرضًا خصبة للصراعات التي قد تتطور في أي لحظة، إلى حروب أهلية مدمرة في أبشع مستوياتها.
لم يضع النظام الفيدرالي في البلدان التي تعتمده حدًا لمشكلات الهوية، والغريب أن الخبرة التراكمية لهذه الأنظمة لم تنجح في حل هذه المعضلة حتى الآن، فالكاميرون ينقسم شعبها إلى تكتلين ضمن منطقتين فيدراليتين، تقومان على أسس لغوية مختلفة، واحدة غربي البلاد ناطقة بالإنجليزية، وأخرى في الشرق، فرانكفونية ناطقة بالفرنسية، ولم تنجح الكاميرون في حسم هذه القضية وحدها حتى الآن.
كذلك الدول التي تعمل به ما زالت تجهل أساليب الانتقال الآمن للديمقراطية التي تقف عند حدود فهم الغالبية، في استحقاقات الصناديق دون غيرها، بعيدًا عن تجذير آليات الممارسة وشروطها الفكرية والثقافية والسياسية.
لم يمنع النظام الفيدرالي في هذه البلدان من شيوع ثقافة المعارضة المسلحة التي نجحت في وضع يدها على مناطق بعينها، وحيدتها عن الإدارة المركزية، كما لم يُسرع من تحديث هذه البلدان على جميع المستويات، لتدرك الفارق بين الفيدرالية والقبلية، كما هو الحال في نيجيريا التي تعاني من نزاعات بين شمالها وجنوبها، بسبب خلافات ودينية وعرقية انعكست على السياسة والاقتصاد، واستنزفت الثروة النفطية الهائلة للبلاد.
فالشمال المسلم والجنوب المسيحي والوثني في نيجيريا، لم ينجحا عبر هذا النظام، في إقامة فكر اجتماعي على أسس المواطنة، وهو ما أصاب السودان من قبل وأدى لانشطاره نصفين، بعض النظر عن شكل الحكم، فالأسباب قائمة ولا تزال.
على مستوى المنطقة العربية، يمكن القول إن البلدان العربية التي تطبقه حاليًّا، على شاكلة العراق والإمارات، تختلف جذريًا عن النموذج الأوروبي الذي يعتبر الفيدرالية، الحاضن الأنسب للتعايش، بعد أن استطاعت هذه المجتمعات حسم المسافة التاريخية بين مفهوم المواطنة والعرق والدين وانتصرت لحقوق الإنسان وأقرت دولها عقودًا اجتماعية وسياسية وأخلاقية لأبنائها، تنتصر لحرية الفرد وكرامته على حساب أي اعتبارات أخرى.
صنعت الفيدراليات العربية نظامًا خاصًا، يتأسى بالخصوصية الدينية والتاريخ والجغرافيا، ويمكن القول إن الأفضل حتى الآن هو النظام الفيدرالي الإماراتي الذي لم يجد الكثير من الإشكاليات، بل عبّد الطريق أمامه للنجاح، نظام الحكم الأشبه بالنظام الملكي الاتحادي والقومية الواحدة، والدين بل والمذهب الواحد، فالإماراتيون جميعًا من قبائل عربية متداخلة بالنسب والتزاوج والتاريخ المشترك، وربما عامل الاختلاف الوحيد يتمثل في توزيع الثروة والسلطة بين الأسر الحاكمة، بعكس السودان الذي يسعى إلى خلق ديمقراطية حديثة وحكم تعددي من رحم المعاناة!