تتواصل الاحتجاجات في لبنان لليوم العشرين على التوالي وسط دعوات للإضراب، ورغم استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، فإن الاحتجاجات التي تعم جميع أرجاء لبنان لم تهدأ، حيث واصل المحتجون قطع الطرق في الكثير من المناطق وذلك للضغط على النخبة السياسية ودفعها للاستقالة ثم تشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية تتجسد مهمتها في تحسين الخدمات ومكافحة الفساد، فلأول مرة يعيش لبنان حراكًا شعبيًا فريدًا من نوعه، إذ تخرج مظاهرات من مختلف طوائفه لتنادي برحيل النخبة السياسية ومكافحة الفساد وإنهاء المحاصصة الطائفية، رافعين شعار “كلن يعني كلن”.
ومنذ خروج حسن نصر الله زعيم “حزب الله” في خطابه الذي وصف فيه المحتجين بـ”صغار النفوس” ولوح من بعيد بالحرب الأهلية، خرج إعلام الثورة المضادة في لبنان لاتهام المتظاهرين بالتجمع لتعاطي المخدرات وممارسة الدعارة ووصل الأمر إلى اتهامهم بتلقي الطعام والشراب من ممولين، فكيف غطى إعلام الثورة المضادة الاحتجاجات اللبنانية؟
بداية الاحتجاجات
فور انطلاق الشرارة الأولى للاحتجاجات اللبنانية في 17 من أكتوبر على خلفية فرض ضرائب جديدة لسداد عجز الموازنة اللبنانية، قطع الإعلام اللبناني برامجه المعتادة وقرر فتح الهواء من أجل نقل المظاهرات لأكثر من 18 ساعة متواصلة حيث ألغت كل من قناة “الجديد” و”LBC” و”MTV” كل برامجها وفتحت الهواء لساحات التظاهرات من الساعة السابعة صباحًا وذلك حتى ما بعد منتصف الليل.
حين انتخب عون رئيسًا للجمهورية للبنان حصل أصحاب المؤسسات الإعلامية على قروض بملايين الدولارات مع إمكانية سداد لمدة 15 عامًا بفوائد قيمتها 1% فقط وفترات سماح مدتها 3 سنوات وذلك مقابل التركيز بقوة على شعار “العهد القوي”
فيما بعد تم تحويل المراسلين لإجراء المقابلات مع المتظاهرين، وعلى الرغم من أن بعض المراسلين صنفوا المحتجين من أجل الدفاع عن السلطة، فإن القرار الذي جمع تلك القنوات هو فتح الهواء للمتظاهرين فقط، ولكن بمرور الوقت تبدل هذا القرار وأُعيد بث البرامج المعتادة مقابل تخفيض ساعات بث المظاهرات، إذ تم تداول أخبار مفادها أن الرئيس اللبناني ميشال عون طلب من القنوات الفضائية تقليص تغطية الاحتجاجات، حيث ذكرت بعض المصادر أن رؤساء مجالس إدارات MTV وLBC والجديد تعرضوا للتهديد بطريقة غير مباشرة وذلك بفتح ملفات قديمة لهم بدفع غرامات مالية كبيرة جدًا إذا لم يسلطوا الضوء على إنجازات السلطة السياسية.
جدير بالذكر أنه منذ سنوات عديدة ساهم الإعلام اللبناني في الترويج لشعار “العهد القوي”، فحين انتخب عون رئيسًا للجمهورية في لبنان حصل أصحاب المؤسسات الإعلامية على قروض بملايين الدولارات مع إمكانية سداد لمدة 15 عامًا بفوائد قيمتها 1% فقط وفترات سماح مدتها 3 سنوات وذلك مقابل التركيز بقوة على شعار “العهد القوي”.
مؤامرة!
في الوقت الذي رضخت فيه قنوات MTV والجديد وLBC لمطالب رئيس الجمهورية ميشال عون بتخفيض ساعات تغطية الاحتجاجات، كانت قنوات الحلف الحاكم: OTV التابعة للتيار الوطني الحر وقناة المنار التابعة لحزب الله وقناة NBN المتحدثة عن حركة أمل تهاجم الاحتجاجات الشعبية وتحاول شيطنتها بكل الطرق الممكنة.
فقناة OTV على سبيل المثال حرضت على فئة واسعة من المتظاهرين اللبنانيين وعمدت إلى القول بأنهم يضربون اقتصاد البلاد عبر قطع الطرقات، كما دافعت القناة بشدة عن السلطة السياسية وتحديدًا وزير الخارجية جبران باسيل الذي له اليد العليا في القناة، ولم تكتف القناة بذلك، فكذبت المحتجين بسبب أكلهم وشرابهم حيث تساءلت كيف يكونون جياعًا ولديهم أزمة اقتصادية طاحنة في حين يمتلئ الميدان بالمأكولات غالية الثمن؟ كما بثت القناة نكاتًا سخيفة وغير محترمة عن المتظاهرين وبينها ما ذكرته الكاتبة اللبنانية سكارليت حداد على الهواء مباشرة عن ترقبها لحالات الحمل التي ستنجم عن المظاهرات، ومساء الأحد 27 من أكتوبر أعدت مراسلة القناة نانسي صعب تقريرًا للقناة يحمل عنوان “حقيقة الثورة ومحاولة الانقلاب: تدريب أمريكي وتحريض سعودي وانغماس سوري”.
أما قنوات “المنار” والميادين و”Press TV” فقد لجأت إلى استخدام الفبركة، إذ حضرت هذه المحطات إلى ساحة رياض الصلح رفقة مجموعة من مناصري “حزب الله” وذلك ليهتفوا تأييدًا لحسن نصر الله أمين الحزب ويهاجموا خصومه، كما حرضت قناة المنار ضد الجامعة الأمريكية في بيروت واتهمتها بالعمالة لصالح “إسرائيل” وذلك بعد خطاب حسن نصر الله.
ومن جانبها تحدثت صحيفة الأخبار عن أن الاحتجاجات ستؤدي إلى انقسام لبنان وصوبت كتابها نحو الحديث عن العملاء، متهمة المحتجين اللبنانين بالعمالة لـ”إسرائيل”، حيث كتبت الجريدة أن هناك خطفًا للحراك، معتبرة أن قطع الطرق سيؤثر على الاقتصاد بالسلب وسيشل حركة الحياة، واتهمت الجريدة بعض الدول الخليجية بتمويل المتظاهرين في إعادة استهلاكية لخطاب حسن نصر الله ولكن بعبارت مختلفة.
الإعلام البديل في مواجهة إعلام السلطة
منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في 2011 ومرورًا بالثورة السودانية ثم الاحتجاجات اللبنانية عولت الشعوب بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي بصفتها أداة تنظيمية لعبت دورًا كبيرًا في نقل المعلومات وتنظيم التحركات، في حالة الحراك الشعبي اللبناني تبنت صفحة “الإعلام البديل” عملية نقل أخبار التظاهرات بكل شفافية بعيدًا عن التعتيم الإعلامي ومحاولة شيطنة المحتجين، كما اهتمت الصفحة أيضًا بنشر أخبار التظاهرات وأماكن التجمعات وبثت الكثير من مقاطع الفيديو الخاصة بالحراك، جدير بالذكر أن الصفحة أجرت تصويتًا بشأن إمكانية البقاء في الشارع من أجل مراقبة السلطة وإجبارها على الاستقالة وهنا تجاوز دورها مهمة النقل الإعلامي إلى استفتاء آراء الناس عن الاحتجاجات.
أهم إنجازات الاحتجاجات اللبنانية الأخيرة أنها قوضت الهالة السياسية التي ادعاها كل من ميشيل عون وحسن نصر الله، فكانا يحتلان مكانة خاصة فوق السياسية التقليدية إذ صورا أنفسهما وكأنهما المنقذان التاريخيان للبنان
أما صفحة “أخبار الساحة” فكانت تغطي الاعتصامات في المناطق اللبنانية كافة وذلك بالتوازي مع نشر خريطة التظاهرات على امتداد لبنان والطرق المقطوعة حتى يتفادها المحتجون في أثناء نزول الشوارع، ففي الوقت الذي شيطنت فيه بعض القنوات الحراك اللبناني تدبر الشباب أمرهم بعيدًا عن إعلام السلطة، ولكن هؤلاء المتظاهرين لن ينسوا يومًا أن حزب الله وما يسمى بحلف الممناعة وإعلامه عملوا بكل قوتهم من أجل إجهاض الاحتجاجات، فهذه المجموعة السياسية الحاكمة كانت تمارس النفاق السياسي على الشعب اللبناني وذلك من أجل شد العصب الطائفي بينما في السر هناك الكثير من الاتفاقيات المبرمة والمحاصصات المالية التي تعلو على الخلافات السياسية، وجل ما أنجزته التظاهرات الأخيرة هو كشف الوجه القبيح لمسرحية الطائفية في لبنان، ففور أن نشبت الاحتجاجات الأخيرة العابرة للطوائف والمناطق تلقت النخبة السياسية الحاكمة بأكلمها صفعة قوية وهو ما جعلها تجند جميع أسلحتها المادية والمعنوية والإعلامية من أجل استعادة الشرعية وإعادة الشعب اللبناني إلى الحظائر الطائفية.
في النهاية فإن أحد أهم إنجازات الاحتجاجات اللبنانية الأخيرة أنها قوضت الهالة السياسية التي ادعاها كل من ميشيل عون وحسن نصر الله، فكانا يحتلان مكانة خاصة فوق السياسية التقليدية إذ صورا أنفسهما وكأنهما المنقذان التاريخيان للبنان ولكن جسد خروج الملايين إلى الشارع تحديًا كبيرًا لمكانتهما وهو ما تجلى في الإطلالة التليفزيونية لحسن نصر الله، إذ غاب علم حزب الله وظهر خلفه علم لبنان وحده.