الانتفاضة الشعبية في لبنان التي اندلعت ليلة الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي على خلفية قرار الحكومة فرض ضريبة ستة دولارات على استخدام تطبيق “واتس آب” وانخرط فيها أغلب اللبنانيين متخطين الانتماءات السياسية والطائفية والمذهبية، وشملت كل المناطق والمحافظات اللبنانية بنسب مختلفة، فاجأت السلطة اللبنانية والعالم أجمع، وحتى اللبنانيين أنفسهم، بحجمها واستمرارها وتواصلها بأشكال متعددة، وقد مكنها ذلك من تطوير وتحديث خطابها ومطالبها من رفض الضرائب إلى إقالة الحكومة، وبالفعل خضعت حكومة العهد واستقالت، وصولًا إلى مطلب رحيل كل الطبقة السياسية وإسقاط العهد (رئاسة الجمهورية) وإسقاط النظام السياسي اللبناني بشكل عام، وقد حققت هذه الانتفاضة التي حلا للبعض تسميتها “ثورة”، بعض الإنجازات، وهي ما زالت تناضل من أجل تحقيق الإنجازات والمطالب الأخرى، فأين الإسلاميون اللبنانيون منها يا ترى؟
يتشكل لبنان من مزيج من المكونات الطائفية والمذهبية التي تتقاسم النظام السياسي اللبناني، وعلى مستوى المكون المسلم الذي يشكل ما نسبته 60% من مجمل الشعب اللبناني، يتوزع الإسلاميون بين المكونين: المسلمين السنة والشيعة، فكيف كان موقف كل منهما حيال الانتفاضة.
الجماعة الإسلامية والانتفاضة
تُعد الجماعة الإسلامية في لبنان التيار الفكري لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، وتنتشر في معظم المناطق والمحافظات اللبنانية ذات المسلمين السنة بنسب مختلفة، وهي ممثلة في العديد من بلديات المدن الكبرى، فضلًا عن بلديات القرى، وكان لها ممثل في المجلس النيابي اللبناني، وتملك شبكة واسعة من الجمعيات التي تقدم المساعدات الاجتماعية، فضلًا عن المستوصفات والمستشفيات والمراكز الطبية والمدارس والوسائل الإعلامية المتواضعة، كما لها حضور في وسط طلاب الجامعات والنقابات وغيرها.
لقد اتخذت الجماعة الاسلامية موقفًا مبكرًا من الانتفاضة الشعبية، فأعلنت منذ اليوم الأول وقوفها إلى جانب مطالب الناس، وانخرط شبابها وجمهورها بشكل واسع في التظاهرات الليلية، إلا أنها رفضت اللجوء إلى قطع الطرقات دون أن تمنع الناس من ذلك، كما رفضت أي صدام بين المتظاهرين أنفسهم أو مع غيرهم أو مع السلطة والأجهزة الأمنية والعسكرية، وقد طرحت الجماعة مبادرة على القوى السياسية والسلطة والمتظاهرين، تتركز في صلبها، على تلبية مطالب المتظاهرين بشكل متدرج، وتكون عبارة عن مرحلة انتقالية لستة أشهر تتضمن تشكيل حكومة كفاءات مصغرة، ويليها بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تصب في مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة للدولة، وتقصير ولاية المجلس النيابي وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.
يشار إلى أن هذه المبادرة لم تلق آذانًا صاغية من السلطة التي ما زالت إلى الآن تصم آذانها عن مطالب المتظاهرين، ولم تخف الجماعة قلقها من تسييس الانتفاضة أو استغلالها من أطراف داخلية أو خارجية، وأكدت أن مشاركة أفرادها تهدف إلى حماية المطالب الشعبية من أي تسييس.
هيئة علماء المسلمين والانتفاضة
تجمع هيئة علماء المسلمين في لبنان طيفًا واسعًا من العلماء والمشايخ من المسلمين السنة ومن خلفيات فكرية وفقهية متنوعة، فتضم قرابة 500 عالم ورجل دين، ويجتمع فيها التيار الإخواني والسلفي والصوفي وحتى بعض العلماء المستقلين الذين لا يرتبطون فكريًا أو فقهيًا بأي فريق، وقد تأسست الهيئة عام 2011، وهي تؤدي دورًا توجيهيًا على المستوى الأخلاقي والحقوقي والسياسي، وقد كان لها دور جيد في الفترات التي كانت ثورة الشعب السوري في أوجها، وأدت دورًا جيدًا على صعيد حل بعض الإشكالات التي نشأت عن احتجاز بعض العسكريين اللبنانيين في منطقة جرود عرسال عند المسلحين الذين كانوا في تلك المنطقة، وكذلك في أثناء أحداث مدينة طرابلس شمال لبنان، وفي محطات أخرى، وهي تصدر بيانات دورية من القضايا الحياتية والأخلاقية بشكل عام.
انحازت الهيئة إلى جانب الانتفاضة الشعبية ومطالبها، واعتبرتها مشروعة، خاصة أن الناس خرجت إلى الشوارع والساحات تطالب بوقف الهدر والفساد والسرقة، وإعطاء الناس حقوقها الاجتماعية والرعائية، وانخرط بعض أعضاء الهيئة بصفة فردية في التظاهرات، كما حذرت من الفتنة أو الصدام مع القوى الأمنية أو العسكرية أو مع أي ساحة أخرى.
دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية
دار الفتوى هي المرجعية الرسمية للمسلمين في لبنان، ويعتبر المفتي هو رأسها الديني الرسمي، وقد تريثت ابتدءًا في إصدار أي موقف من الانتفاضة الشعبية، إلا أن ثبات المتظاهرين في الساحات ومطلب مكافحة الفساد وتحقيق المطالب الاجتماعية دفع المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان إلى التصريح بمساندة مطالب الناس المحقة، والدعوة إلى تحقيق مطالبهم، مع التنبيه إلى الوقوع في فخ الفراغ أو الفوضى، وكذلك فعلت دور الفتوى في المناطق اللبنانية بمساندتها للانتفاضة الشعبية والوقوف إلى جانبها.
“حزب الله” والانتفاضة
يُعد “حزب الله” القوة الرئيسية في الساحة الشيعية، وقد أثبتت أرقام نتائج الانتخابات النيابية التي حصلت في منتصف العام 2018 ذلك، وهو ينتشر في المناطق ذات الوجود الشيعي في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع الشمالي، وله شبكة واسعة من المؤسسات الاجتماعية والتربوية والإعلامية، كما له حضوره في البلديات والمجلس النيابي والحكومة، بل ويُعتبر المتحكم الأساسي في الحكومة واللاعب الأول في تشكيلها وفي دعم الرئاسة الأولى، كما يملك الحزب تنظيمًا عسكريًا وأمنيًا جراء مقاومته الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، والتدخل العسكري في سوريا في العام 2013.
اتفق الإسلاميون في لبنان على توصيف الانتفاضة الشعبية وعلى أحقية مطالب الناس، لكنهم تباينوا في كيفية مقاربة منع أي تسييس لها يحول دون التخفيف عن الفقراء والبسطاء وعامة الناس
الحزب أعلن في خطاب أمينه العام حسن نصر الله، في ثالث أيام الانتفاضة دعمه لمطالب المتظاهرين الاقتصادية والاجتماعية، بل ذهب إلى حدود الضغط على الأطراف المشاركة في الحكومة والمتحالفة معه (التيار الوطني الحر) للتنازل والموافقة على ورقة إصلاحية اقترحها رئيس الحكومة سعد الحريري، وبالفعل أقرت الحكومة تلك الورقة التي تضمنت إصلاحات اقتصادية واجتماعية، لكنها، وكما يبدو، جاءت متأخرة ولم تقنع المتظاهرين، وبالتالي فإن الحزب ذهب في خطاب آخر لأمينه العام إلى إعادة التأكيد على مطالب المتظاهرين الاجتماعية والاقتصادية، ولكنه شكك في خلفية التحركات والتظاهرات ومن يقف خلفها، وطرح كمًا من الأسئلة عن تمويل وتوجيه التظاهرات، وذهب إلى حد القول إنها في بُعدها السياسي تستهدف الحزب بهدف إقصائه من الحكومة ومن الحياة السياسية اللبنانية، وبالتالي استهداف سلاحه الذي “قاوم إسرائيل”.
وبدأ الحزب بعد ذلك حملة هدفت إلى التشكيك بخلفية الذين يقفون خلف التظاهرات، وراح يتعامل معها ومع مآلاتها وإنجازاتها انطلاقًا من هذا التشكيك ومن دون أن يشكك بنوايا الناس العاديين المشاركين فيها، وظهر ذلك في محاولات فض التظاهرات بالقوة كما في هجوم بعض الشبان على المتظاهرين في ساحتي رياض الصلح والشهداء في بيروت، وإطلاق عبارات طائفية وأخرى مساندة للحزب ومن دون أن ينفي الحزب مسؤوليته عن ذلك أو إدانته.
اتفق الإسلاميون في لبنان على توصيف الانتفاضة الشعبية وعلى أحقية مطالب الناس، ولكنهم تباينوا في كيفية مقاربة منع أي تسييس لها يحول دون التخفيف عن الفقراء والبسطاء وعامة الناس، ومن دون أن يتحول التباين إلى خلاف يزيد المشهد اللبناني تأزمًا أو يشكل معوقًا أمام تحقيق المطالب الشعبية.