مع ارتفاع وتيرة الاضطرابات الأمنية في كل من سوريا والعراق وانعكاس تداعياتها السلبية على لبنان، خاصة بعد أحداث عرسال الأخيرة التي شهدت معارك بين الجيش اللبناني ومسلحين من “داعش”، وكذلك مع التركيز مجدداً من الادارة الاميركية على تشديد العقوبات ضد “حزب الله” واستبعاده من النظام المالي الدولي ومحاصرة سبل تمويله، أصبح ينظر إلى لبنان في معظم التقارير الدولية بانه بلد يقع في وسط منطقة عالية المخاطر، لاسيما الأمنية منها والسياسية.
ويعمل القطاع المصرفي في لبنان الذي يشمل المصارف والمؤسسات المالية وشركات التأمين في مناخ اعمال هو بدوره، عالي المخاطر المالية والاقتصادية، خصوصاً لجهة مخاطر السمعة، وهي تتمثل أولاً: بأموال غير الشرعية الناتجة عن الجريمة المنظمة أو المرتبطة بها، ثانياً: تمويل الإرهاب داخل وخارج نطاق الدولة وسلطاتها بغض النظر عن الاشكال التنظيمي للمجموعات المقصودة، مع العلم أن لبنان قد تجاوب مع المستجدات الدولية، وامتثل للإجراءات والمعايير التي فرضت عليه، وتأقلم مع مركزه المالي، وذلك في خضم المناخات القائمة، كما فعلت مراكز مالية عريقة مثل سويسرا ولوكسبورغ والنمسا، لجهة تبيض الاموال وتمويل الارهاب.
وعلى الرغم من ارتفاع موجودات القطاع المصرفي في لبنان إلى نحو 170 مليار دولار بنهاية مايو 2014، إلى ما يعادل أكثر من أربعة أضعاف حجم الاقتصاد الوطني والبالغ نحو 42 مليار دولار، وكذلك ارتفاع الودائع إلى 140 مليار دولار، والأرباح بنسبة 5.7%، فان القطاع يشهد حاليا بعد المؤشرات السلبية نتيجة تأثره بالتطورات الاقليمية في سوريا والعراق، والتوترات السياسية والامنية في لبنان فضلا عن مرور نحو ثلاثة أشهر على شغر منصب الرئاسة الأولى وتعذر انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان في 25 مايو الماضي.
وعلى أساس أن اجمالي موجودات/مطلوبات المصارف التجارية يعبر عن نمو النشاط المصرفي، فقد كان هذا النمو بطيئاً خلال الخمسة أشهر الأولى من العام الحالي حيث تراجع إلى 2.7% مقارنة بـ 3.1% في الفترة نفسها في العام 2013.
ووفق احصاءات التجارة الخارجية تراجعت حركة التصدير بنسبة 30% خلال الخمسة اشهر الاولى من العام الحالي مقارنة بالفترة ذاتها من العام 2013، وكذلك حجم الاستيراد بنسبة 4.9%.
أما الدين العام وكنتيجة طبيعية لزيادة انفاق الدولة، فقد ارتفع بمقدار 1.6 مليار دولار خلال الخمسة أشهر ليصل إلى 65.4 مليار دولار بنهاية مايو الماضي.
تحذيرات صندوق النقد
تضمن تقرير صندوق النقد الدولي سلسلة تحذيرات من نتائج المخاطر التي يتعرض لها لبنان، وابرزها تحذيره من سوء الأداء المالي على صعيد الدولة، مشيراً إلى عودة نمو الدين العام بأكثر من النمو الاقتصادي، ليصل إلى 150% من الناتج المحلي بعدما كان قد انخفض سابقا إلى 135%، ومنتقدا سياسة مصرف لبنان بتمويل الدولة وخطورة كشف حسابها الجاري بنحو 6.6 مليارات دولار.
وفي الوقت الذي لفت التقرير إلى سلامة أداء الوضع النقدي والمصرفي، طالب المصارف بزيادة أموالها الخاصة، محذرا من عدم دقة الديون المشكوك بتحصيلها والتي لا تعكس الواقع، ومشدداً لجهة التدابير المتخذة لمراقبة دخول الأموال إلى القطاع المالي في إطار مكافحة تبييض الأموال.
ولعل أهم مؤشر ايجابي سجل في الخمسة أشهر الأولى من العام الحالي، يعود إلى ارتفاع فائض ميزان المدفوعات إلى 776 مليون دولار في مقابل عجز بقيمة 149 مليونا في الفترة ذاتها من العام 2013.
وإذا كان تدفق تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، لا تزال “الايجابية البارزة”، فان صافي تدفق رؤوس الأموال الخاصة الوافدة إلى لبنان تراجعت بنسبة 30% (وفق تقرير معهد التمويل الدولي) وذلك من 6.9 مليارات دولار في العام 2012 إلى 4.9 مليارات في العام 2013، مع العلم أنها كانت في ذروتها في العام 2009 بنحو 12 مليار دولار ثم انخفضت إلى 7.5 مليارات في العام 2011، وقد سجل لبنان بذلك نسبة الانخفاض الحادي عشر الأكبر حيال صافي تدفقات رؤوس الاموال بين 30 سوقاً ناشئة، والانخفاض الثاني الأكبر من حيث صافي تدفق رؤوس الاموال بين سبع دول في الشرق الاوسط وافريقيا، وهو تقدم على جنوب افريقيا فقط، وعزا المعهد الاسباب إلى تراجع بنسبة 22.4% في تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر (من 3.7 مليارات في عام 2012 إلى 2.9 مليار دولار في عام 2013) إضافة إلى تراجع بنسبة 18% في ودائع المصارف غير المقيمة، وذلك من 10 مليارات إلى 8.2 مليارات دولار.
محاصرة “حزب الله”
لم يفاجأ البنك المركزي في لبنان بمشروع القانون الذي تبناه مجلس النواب الأمريكي، ويقضي بفرض عقوبات على المصارف الأجنبية بما فيها البنوك المركزية وغيرها من المؤسسات المالية التي تمول “حزب الله” الذي تعتبره الولايات المتحدة تنظيماً ارهابياً، بل كان على علم مسبق به، وأكثر من ذلك، فقد تمت دراسته ومراجعته من قبل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وبعض أركان جمعية المصارف مع وزارة الخزانة الأمريكية، وادخلت عليه بعض التعديلات للحد من انعكاساته على القطاع المصرفي اللبناني، وخفض التداعيات التي قد تطاول المصارف الوسيطة التي تتعامل مع المصارف اللبنانية حول العالم، مع التأكيد على استثمار التعاون مع الاجهزة الرقابية اللبنانية والأجنبية في تطبيق كل المعايير الدولية لجهة سلامة عملياتها ونشاطاتها المصرفية.
ويعطي مشروع القانون وزارة الخزانة الاميركية سلطة اكبر لملاحقة جميع المصارف في العالم و منها المصارف المركزية، واذا كان قد خفض الضغط على القطاع المصرفي اللبناني، لكنه لم يبعد عنه المخاطر، كونه يتضمن ملاحقة عمليات تخص “حزب الله” والمؤسسات التابعة له وحتى الاشخاص المتعاملين معه، وعلى الرغم من الارتياح الذي اعربت عنه الادارة الاميركية حول مدى التزام المصارف اللبنانية بالقوانين والتشريعات التي تمنع تبيض الاموال وتمويل الارهاب، فقد طلبت وزارة الخزانة من مصرف لبنان وجمعية المصارف اتخاذ المزيد من الحذر لتلافي اي مخاطر مستقبلية وتحسباً لأي عقوبات او تضييق من اي نوع كان على القطاع المصرفي اللبناني.
ولذلك برزت بعض المخاوف من أن يكون مشروع القانون الأميركي هو خطوة نحو استهداف جديد لمصارف لبنانية في قضية شبيهة بقضية البنك اللبناني الكندي الذي سبق ان تمت تصفيته بتهمة تبييض الاموال، وسدد غرامة بقيمة 102 مليون دولار للسلطات الاميركية في يونيو 2013، مقابل وقف ملاحقة المسؤولين عنه.
ووفق معلومات مصرفية موثوقة، يوجد تنظيم يحدد العلاقة القائمة بين رقابة الخزانة الاميركية ومصرف لبنان، لمراقبة اداء المصارف اللبنانية التي تخضع لرقابة مشددة اكثر من سواها، على اعتبار ان لبنان بلد المنشأ والاقامة لمنظمة “حزب الله” المتهمة بالارهاب، والمطلوب تجفيف مصادر تمويلها.
عقوبات خليجية
وعلى خط مواز تلتقي دول الخليج العربي مع القانون الاميركي، وذلك بتفعيل قرارها بمكافحة مصادر تمويل حزب الله، وتطبيق الاجراءات التي اتخذها وزراء الداخلية في اجتماعهم في المنامة في نوفمبر 2013، وفي وقت لاحق شكلت دول الخليج فريق عمل يضم خبراء امنيين واقتصاديين للتوصل الى آلية مناسبة من اجل التصدي لاستثمارات حزب الله في دول مجلس التعاون.
وقد اعتبر القادة الخليجيون للجهاز الامني المشترك لمكافحة تمويل حزب الله، أن المهمة الأساسية تكمن في تجفيف مصادر حزب الله المالية الخليجية، من خلال تبادل المعلومات الأمنية بين الدول الأعضاء من جانب، ومع الإنتربول الدولي من جانب آخر، وبالتالي الإسراع في تعقُّب الأموال المرتبطة بالحزب، وكذلك الشخصيات المنتمية أو المتعاطفة معه.
وفي ظل هذه الوقائع المستجدة، من البديهي ان القطاع المالي في لبنان مُقبلٌ على مرحلة دقيقة لجهة التعاطي مع الاجراءات الأميركية من جهة، والاجراءات الخليجية من جهة أخرى، والهدف تجفيف تمويل حزب الله. واذا كانت هذه المهمة مُتاحة في البلدان الخليجية نفسها، والبلدان الأجنبية، فانها ستكون اكثر حساسية ودقة، في لبنان، حيث يعتبر الحزب المُستهدف مالياً، أحد المكونات الرئيسية في البلد، وله حضوره الشعبي والسياسي.. والعسكري.
وسيساهم هذا الوضع في زيادة الشرخ القائم على واقع استبعاد المكوّن الشيعي عن مراكز القرار في المصارف، بصرف النظر عن الاستثناءات التي تشمل مصرفيين مخضرمين، تمكنوا من فرض موضوعيتهم وخبراتهم، وسحبوا أسماءهم خارج لائحة “المشبوهين” لمجرد انتمائهم الى المذهب الشيعي. وسيساهم القرار الاميركي، مع الاجراءات الخليجية، في إبقاء الاستثمارات “الشيعية” بعيدة من القطاع المصرفي اللبناني، وهو خلل يضر بالقطاع ولا يخدمه.
ويسود القطاع المالي والمصرفي اللبناني قلق متزايد من النتائج السلبية المرتقبة جراء تأثير الموقف الخليجي على حركة التدفق المالي، خصوصاً و أن نحو 70 في المئة من الأموال التي يتلقاها لبنان مصدرها دول مجلس التعاون، و هي تساهم بزيادة حجم ودائع المصارف التي تعتبر الممول الرئيسي لإنفاق الدولة و استثمار المشاريع في القطاع الخاص، وقد بدأ ينعكس ذلك سلباً في تراجع اكتتاب القطاع المصرفي بسندات الخزينة، وحلول البنك المركزي مكانه، خلافاً لنصيحة صندوق النقد الدولي التي تبلغها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لجهة ضرورة خفض حصة المركزي في الديون السيادية للدولة.
تجميد التشريعات
يعترف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بان ثقة العالم باقتصاد لبنان وقطاعه المصرفي، وفرت له العوامل الايجابية التي ساعدته على تجنب الازمات الاقليمية والدولية، ومواجهة تحدياتها وتداعيتها التي لا تزال مستمرة، خصوصاً وان هذه “الثقة العالمية” جاءت في وقت يعاني فيه لبنان سلسلة من مخاطر امنية وسياسية، لا سيما ما يتعلق منها بتطبيق عقوبات دولية على سوريا وايران، ومكافحة تمويل الارهاب، وحرصاً من الحكومة اللبنانية على هذه الثقة، اكدت الالتزام بها، واقرت ثلاثة مشاريع قوانين احالتها الى مجلس النواب منذ اكثر من 20 شهراً للتصديق عليها تمهيداً لتنفيذها، وهي:
تعديل القانون رقم 318 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال، لجهة توسيع نطاقه كي يشمل معظم الجرائم المالية ، بما فيه حماية الملكية الفكرية ، وأن يشمل موجب التصريح فئات وقطاعات جديدة ، وكذلك لجهة القضايا الاجرائية التي تجعل ممارسة هيئة التحقيق الخاصة لعملها أكثر فعالية ، وتندرج معظم التعديلات في سياق الالتزام بمعايير مجموعة العمل المالي (غافي).
تعديل مشروع قانون نقل الأموال عبر الحدود، بإضافة تعريف يشمل إلى الأموال النقدية، وسائل الدفع الأخرى القابلة للتداول كالإسناد التجارية والاوراق المالية ، (تفوق الـ 15 الف دولار) ، والافصاح عن ناقل الأموال وصاحبها ومستلمها وكذلك عن مصدرها ووسيلة النقل. وأكدت الحكومة في الأسباب الموجبة لهذا القانون الجديد ضرورة الانخراط الفعال في جهود المجتمع الدولي لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب ، وجعلته تلبية للتوصية التاسعة من توصيات “غافي” لجهة الاجراءات التي تتيح تعقب نقل الاموال النقدية عبر الحدود دخولا” وخروجا” .
مشروع قانون يتعلق بتبادل المعلومات الضريبية العائدة للتهرب الضريبي، ما يتيح انخراط وامتثال لبنان قانونا” لمعايير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والتي اعتمدتها”Tax Fraud ” تفاديا”لان تتخذ هذه المنظمة اجراءات عقابية ضد الدول التي تفتقر للشفافية الضريبيه التي تمتنع عن تبادل مجموعة العشرين المعلومات عنها.
وعندما طرحت مشاريع القوانين في لجنة الإدارة والعدل البرلمانية، تم تهريب النصاب مرات عدة في محاولة لتجميد البحث فيها، ولكن بعد ضغوط دولية وخصوصا” اميركية وفرنسية ، عقدت اللجنة جلسة بنصاب كامل بناء لطلب رئيس مجلس النواب نبيه بري، وبعد مراجعات عدة من قبل جمعية مصارف لبنان التي طالبت بأن يتم اقرار تلك القوانين بأسرع وقت، تنفيذاً لالتزامات لبنان بتعهداته الدولية، خصوصا” وانه لا يزال يتمتع بمزايا “السرية المصرفية” التي لم تعد متوفرة في اي بلد في العالم ، وحتى لا يضطر مكرها الى التخلي عن هذا الامتياز تحت الضغوط الدولية.
وفي تلك الجلسة، برزت المفاجأة التي كان يحضرها حزب الله اذ أعلن مندوبه في اللجنة، رفض المشروع المتعلق بالتصريح عن نقل الاموال عبر الحدود، ولم يكن الاعتراض سلسا” ، ويرتكز على تعديلات بسيطة تستطيع اللجنة انجازها ، بل أن الحزب أصر على رد المشروع برمته إلى الحكومة.
وفي هذا الاطار، ووفق المعلومات التي تسربت من داخل اللجنة ، يعتبر حزب الله أن القانون ، يشكل خطرا” على سرية امتلاك الأموال ، ونقلها إلى الداخل والخارج، كما أنها تتيح قاعدة معلومات عن من يتداول بالأموال النقدية، وتسريبها إلى جهات خارجية قد تستخدمها لأغراض لا علاقة لها بمكافحة تبييض الأموال .
وتبرز أهمية موقف حزب الله، أنه يعتمد في كل معاملاته المالية على النقد، ولا يستخدم أية وسائل مالية أخرى، مثل الحوالات المصرفية، أو الشيكات، أو اية أداة مالية من الآليات المعتمدة في الأسواق، وبالتالي ، فأنه (أي الحزب) وإن كان قادرا “بنفوذه على إدخال أو إخراج الأموال النقدية حاليا” إلى البلد من دون رقابة، إلا أنه لا يريد وجود قانون جاهز يمكن استخدامه في المستقبل لإعاقة حركة أمواله او مراقبتها .
وهكذا تم تجميد مشاريع القوانين الثلاثة في ادراج لجنة الإدارة والعدل البرلمانية، بانتظار ردود الفعل الدولية التي قد يضطر لبنان في ضوئها إلى الإعلان عن عجزه عن إقرار قانون نقل الأموال عبر الحدود، وهو قانون دولي يعمل به في معظم دول العالم.
المصدر: الأناضول