حصل “مصطفى ولد أحمد” السنة الماضية على شهادة الثانوية العامة (البكالوريا)، شعبة آداب عصرية، بعد محاولات عديدة، وظل أشهر الصيف بأكملها يعمل صباحًا ومساءً حتى يستطيع توفير المال الكافي لتنقله للعاصمة والدراسة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة نواكشوط، استكمالاً لحلم ظل يراوده لسنوات طويلة.
استكمل كل الأوراق المطلوبة وفق المعمول به السنة الماضية والسنوات التي سبقتها، وتوجه إلى وزارة التعليم العالي وتسلّم منها استمارة ملأها بدقة بعدما رتب اختيارات التخصص وعاد فرحًا لأنه سيكمل حلمه. بعد شهر أُعلنت التوجيهات، لكن كانت الصدمة تنتظره، فقد وجّه أقرانه إلى التخصصات إلا هو لم يظهر اسمه في أي تخصص، سأل عن السبب فكانت الإجابة بسيطة: “لقد تجاوزت السن القصوى للدراسة في الجامعة”.
عقبة الـ25 سنة
عند تقديمه لأوراق التسجيل، كان عمر مصطفى 25 سنة ونصف، لم يكن هذا الشاب الموريتاني يعلم قرار حكومة بلاده الجديد الذي يقضي بمنع من تجاوزوا سن الخامسة والعشرين من دخول الجامعة، وفق تصريحه لـ “نون بوست”.
أصدر وزير التعليم العالي والبحث العلمي في عهد حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، هذا القرار المثير للجدل السنة الماضية، وتراجع عنه، ليعاد العمل به هذه السنة الدراسية الجديدة رغم الجدل الكبير الذي أثاره.
التحركات الطلابية السلمية جوبهت بتدخل أمني عنيف، حيث عمدت قوات الشرطة الموريتانية إلى فض الاعتصامات بالقوة ليلاً ونهارًا باستعمال الغاز المسيل للدموع والهروات
رفض طلب تسجيله، جعل مصطفى والمئات ممن يشاركونه نفس المعاناة يحتجون ويعارضون هذا القرار، حيث يعتصمون منذ أسابيع أمام وزارة التعليم العالي بالعاصمة نواكشوط، رافعين شعارات تنتقد قرار وزير التعليم العالي، ومطالبين بتمكينهم من متابعة الدراسة الجامعية.
أكد المصطفى ولد سيدي الأمين العام للاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا (أبرز النقابات الطلابية)، أن “قرار منع الطلاب من التسجيل بسبب عامل السن قرار تعسفي ومجحف وظالم، اتخذه وزير التعليم العالي والبحث العلمي بجرة قلم، ولم يعد فيه لأي مرجعيات دستورية أو قانونية، ولم يتخذ أي بدائل من شأنها أن توفر أدنى حد من الحقوق للطلاب”.
قمع أمني
هذه التحركات الطلابية السلمية جوبهت بتدخل أمني عنيف، حيث عمدت قوات الشرطة الموريتانية إلى فضّ الاعتصامات بالقوة ليلاً ونهارًا باستعمال الغاز المسيل للدموع والهروات، ما أدى إلى سقوط العديد من الجرحى في صفوف الطلبة المحتجين.
وتحدثت وسائل إعلام محلية عن وصول 15 مصابًا من الطلاب إلى المستشفى الوطني ظهر أمس الثلاثاء لتلقي العلاج، جراء إصابتهم نتيجة استخدام الشرطة للقوة لتفريق وقفتهم الاحتجاجية التي نظموها أمام وزارة التعليم العالي.
لقطات من القمع الوحشي الذي تعرض له الطلاب أمام وزارة التعليم العالي . #التعليم_حق_للجميع
Posted by الاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا on Tuesday, November 5, 2019
أظهرت صور وفيديوهات نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، إصابة عدد من الطلبة بحالات إغماء، كما سالت الدماء من وجوه بعضهم، بفعل استخدام الشرطة للعصي والهراوات أثناء تفريق وقفتهم الاحتجاجية، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تعمد فيها قوات الشرطة إلى قمع الطلبة المحتجين، ففي كل مرة يضطر الطلبة إلى الهرب نتيجة التدخل الأمني الحاد الذي يستهدف تحركاتهم السلمية.
تضامن واسع
مطالب الطلبة “العادلة” والتدخل الأمني العنيف ضد المحتجين، جعل العديد من السياسيين سواء من الموالاة أم المعارضة وأيضًا منظمات المجتمع المدني ينضمون إليهم لمساندتهم حتى يحققوا مطالبهم المشروعة، فانتقد حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل” بشدة استخدام الشرطة للقوة في فضها لاحتجاجات الطلاب، وجاء في بيان صادر عن الحزب أن الأزمة لم تحل “رغم مرور عدة أسابيع على الاحتجاجات، وموجة التضامن الواسع مع الطلبة، وشبه الإجماع على غرابة القرار، وإعلان الوزير الأول أن الرئيس كلف لجنة وزارية بدراسة الملف ضمن قضايا استعجالية أخرى”.
تقدر الجهات الحكومية عدد الممنوعين من التسجيل في الجامعة لهذا العام بنحو 680 طالبًا وصلت أعمارهم إلى 25 عامًا
بدوره قال حزب تكتل القوى الديمقراطية المعارض، إن النظام القائم يواصل سياسة سلفه القمعية تجاه الطلاب المتظاهرين سلميًا والمطالبين بحقوق مشروعة وعادلة، وانتقد الحزب في بيان الثلاثاء استخدام الشرطة لـ”العنف لتفريق الطلاب المحتجين وفض اعتصامهم، ما أدى إلى إصابات بالغة في صفوف العديد منهم”.
من جهتها، عبرت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان (رسمية) عن قلقها إزاء وضع قمع الطلاب المتظاهرين، مؤكدة أنها “ستظل تتابع مجريات الأمور عن كثب”، وقالت اللجنة في بيان إن الوضع القائم يحتم عليها استئناف اتصالاتها مجددًا خاصة بالسلطات المعنية لمناقشة الموضوع في كل جوانبه بغية الخروج بنتيجة إيجابية في أسرع وقت.
فيما دعا المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان (غير حكومي) إلى فتح “تحقيق شامل في ممارسات التعذيب” التي تعرّض لها طلاب محتجون، مطالبًا بمحاسبة “المتورطين”، وقال في بيان: “الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين الطلاب يرقى لمستوى جرائم التعذيب التي يعاقب عليها القانون”.
تصريح صحفي صادر عن الاتحاد الوطني لطللة موريتانيا: مشاهد صادمة جديدة لعمليات قمع عنيف أقدمت عليها شرطة القمع بحق طلاب…
Posted by الاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا on Tuesday, November 5, 2019
إلى جانب ذلك، طالب العديد من السياسيين والمدونين بإقالة وزير التعليم العالي سيدي سالم، فضلاً عن إقالة وزير الداخلية واللامركزية محمد سالم ولد مرزوك على خلفية انتهاج قوات الأمن لسياسة قمعية مع الطلبة عوض حمايتهم والسهر على أمنهم.
تقدر الجهات الحكومية عدد الممنوعين من التسجيل في الجامعة لهذا العام بنحو 680 طالبًا وصلت أعمارهم إلى 25 عامًا، ويمنع القرار الجديد الذي اتخذته وزارة التعليم العالي تسجيلهم في الجامعة، ودافع وزير التعليم العالي والبحث العملي قبل فترة عن هذا القرار، مشددًا على أن الهدف هو إصلاح التعليم وليس منع الطلاب من مواصلة دراستهم.
أزمة التعليم
هذا القرار أعاد إلى الواجهة مشاكل التعليم في موريتانيا، هذا البلد العربي الذي حل في مؤخرة قائمة دول العالم من حيث جودة التعليم، حيث جاء في المركز الـ134 من إجمالي 140 دولة على مستوى العالم، طبقًا لأحدث تقرير صادر عن التنافسية العالمية GCI لعام 2019، الذي يصدر سنويًا عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
وكانت موريتانيا قد سجلت السنة الدراسية الماضية نسب نجاح متدنية، حيث أسفرت نتائج الثانوية عن نسبة نجاح هي الأضعف في العالم العربي وغرب إفريقيا، فقد تقدم للامتحان 44717 تلميذًا، لكن 3245 فقط من تمكنوا من تجاوز عتبة النجاح، أي ما نسبته 7.2%، وهي النسبة الأضعف في تاريخ البكالوريا الموريتانية.
تظهر المؤشرات تراجعًا في نسبة النجاح عامًا بعد عام، ففي 2018، كانت نسبة النجاح عند 7.9%، وفي عام 2017 وصلت نسبة النجاح 8%، ويعود هذا التراجع في نسب النجاح إلى تدني مستوى التعليم في البلاد.
تبلغ نسبة التحاق التلاميذ بالمدارس 84%، غير أن 40% من هؤلاء التلاميذ لا يكملون دراستهم الابتدائية بل ينقطعون عن التعليم
كانت الحكومة الموريتانية قد اتخذت قرارًا بمنع من تتجاوز أعمارهم 22 عامًا من خوض امتحان الثانوية العامة، في مساعي لتوجيه مزيد من الطلاب إلى التعليم المتوسط للالتحاق بسوق العمل كحرفيين، وذلك للحد من هذه النسب المتدنية.
ويرجع العديد من الموريتانيين تراجع التعليم في بلادهم إلى المعاناة التي يواجهها المعلمون في موريتانيا، وتتعلق أساسًا بالرواتب، فرواتب المعلمين في حدود 150 دولارًا، وهي من أضعف المرتبات في المنطقة، إلى جانب ذلك، يرجع هذا التدني في جزء منه إلى تدهور البنية التحتية للتعليم وقلتها، فهي في غاية الضعف وتعاني اكتظاظًا كبيرًا، فيمكن أن نجد في الفصل الواحد 90 أو 100 تلميذ، ويرتفع هذا العدد إلى 150 تلميذًا في الفصل في بعض المناطق.
صور من الوقفة التضامنية في مدينة المسيلة الجزائرية??مع الطلاب ??المحرومين من التسجيل #التعليم_حق_للجميع
Posted by Seyd Elemin Vall on Friday, October 25, 2019
تشير الأرقام الحكومية إلى وجود نحو ثلاث آلاف و682 مدرسة في كل مراحل التعليم ما قبل الجامعي، 73% من هذه المدارس تعاني عجزًا واضحًا في التجهيزات والبنية الأساسية المدرسية، فيما تبلغ نسبة التحاق التلاميذ بالمدارس 84%، غير أن 40% من هؤلاء التلاميذ لا يكملون دراستهم الابتدائية بل ينقطعون عن التعليم، أما التعليم الجامعي فيبلغ عدد الطلبة فيه 19862 طالبًا منهم 2400 تزيد أعمارهم على 30 سنة، يؤمن دراستهم ما يناهز عن 700 أستاذ جامعي 60% منهم متعاونين.
وتعاني موريتانيا من شحّ كبير في مؤسسات التعليم العالي، إذ تتبع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ثلاث جامعات فقط، اثنتان منها في نواكشوط وهي جامعة نواكشوط وجامعة العلوم والتكنولوجيا والطب، إضافة إلى جامعة العلوم الإسلامية في مدينة العيون بالشرق الموريتاني، وقد استحدثت في 2011 وتضم كلية للشريعة وكليات أخرى ناشئة.
جدير بالذكر أن معظم التخصصات في هذه الجامعات غير مرتبطة باحتياجات سوق العمل في موريتانيا من صيد وزراعة وتعدين وهندسة وغيرها، والنتيجة أن نحو 12% فقط من خريجي هذه الجامعات يجدون فرص عمل، ما جعل بعض الكليات تفتح شعبًا مهنية تختص في بعض الأمور المطلوبة في سوق العمل.