ترجمة وتحرير: نون بوست
تكتشف النساء الإيرانيات هويتهن من خلال إعادة صياغة ذكرياتهن في معرض أميركي جديد.
بالنسبة لملكه ناییني، إيران ليست سوى ذكرى من الماضي. لقد مرّت 18 سنة منذ آخر زيارة لها إلى المكان الذي ولدت ونشأت فيه، المكان الذي لم يعد لديها فيه منزل أو عائلة أو أصدقاء. خلال مقابلة هاتفية أجرتها مع موقع “ميدل إيست” البريطاني من العاصمة باريس، حيث تقيم هناك منذ سنة 1989، قالت ناییني: “لم أعد أملك جذورا هناك، لذلك لا يمكنني القول إنني أشعر أنني في وطني حين أكون في إيران”.
صورة من مجموعة صور “تحديث ألبوم العائلة” للفنانة ملكه ناییني.
غادرت ناییني، البالغة من العمر 64 سنة، إيران حين كانت في سن السادسة عشر من عمرها لتتلقى تعليمها في المملكة المتحدة، ومن ثم سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة دراساتها العليا والحصول على شهادة البكالوريوس. وحين أرادت العودة إلى إيران في ثمانينات القرن الماضي، اندلعت الثورة في البلاد، وطلب منها والداها عدم العودة.
كان الفن وسيلتها لمواجهة شعورها بالتمزق جراء ابتعادها عن جذور أجدادها. في مجموعة تحت عنوان “تحديث ألبوم العائلة”، أعادت ناییني دمج صور عائلية قديمة باستخدام خلفيات مختلفة. ويُذكر أن مجموعتها ظهرت في معرض في “رواق آرثر أم. ساكلر”، وهو متحف يقع في العاصمة واشنطن، والذي يعتبر جزءا من مؤسسة سميثسونيان ويعرض أعمالاً فنية من مختلف أنحاء آسيا.
عمل فني من مجموعة ناییني “تحديث ألبوم العائلة”.
حيال هذا الشأن، أوردت ناییني: “لقد عثرت على هذه الصور في الغرفة العلوية في المنزل، وقررت أن أعمل عليها وأعيد ابتكارها بطريقة تجعلني قادرة على التواصل مع الماضي وأجدادي والأشخاص الذين لم أقابلهم”.
تمكنت الفنانة الإيرانية، بالاعتماد على الفوتوشوب، من إدخال تغييرات على هذه الصور وإضافة خلفيات جديدة لمختلف أفراد أسرتها، وفي بعض الحالات، ملابس جديدة. وفي هذا الخصوص، أكدت ناییني أن الهدف الأساسي من التغييرات التي أجرتها هو عرض فكرة التغيير، حيث قالت: “تتمثل الفكرة أساسا في إحياء الماضي”. وأوضحت ناییني أن هذه المجموعة من الصور سمحت لها بإخراج عائلتها من سياقها الأصلي، وتسليط الضوء على شعورها بالخسارة.
تابعت الفنانة قولها: “لطالما كان بداخلي هذا الشعور بعدم الانتماء الذي ما ينفك يعود باستمرار. حتى في ظل كل ما يحدث في إيران، لا أشعر أنني أنتمي إلى هذا البلد. بالنسبة لي، إيران هي ذاكرتي السابقة”.
ست نساء
ليست ناییني الفنانة الإيرانية الوحيدة التي تكافح من أجل التصالح مع الشعور بالانتماء إلى إيران، وأن تكون إيرانية، في الوقت المعاصر. والجدير بالذكر أن مجموعة الصور الخاصة بها ظهرت أيضا في معرض خاص في العاصمة الأمريكية، بعنوان “إيران: ست نساء مصورات”، الذي تناول هذه المسألة المعقدة متحديا الصور النمطية من خلال تقديم البلاد بعيون عدد من المصورات الموهوبات.
في هذا السياق، أكدت رئيسة أمناء معرض الفنون الإسلامية، معصومه فرهاد، لموقع “ميدل إيست آي” أثناء القيام بجولة في المعرض أن “البعد الإنساني قد أُنتزع ظلما من إيران وشعبها”.
“سمية” من مجموعة صور “الصفحات الفارغة من ألبوم صور إيراني”، للفنانة نیوشا توکلیان (معرض آرثر إم ساکلر).
أضافت فرهاد قائلة: “يوجد العديد من العوامل التي أدت إلى ذلك، لكنني أعتقد أن المهم بالنسبة لنا هو الابتعاد عن بعض الصور النمطية وإضفاء بعد إنساني. يكافح هؤلاء الرجال والنساء للتعامل مع بعض القضايا ذاتها التي نكافحها من أجلها هنا. ولكن، لديهم أيضًا رؤية فنية”. بالإضافة إلى المجموعة التي تعرضها ناییني، يتضمن المعرض أعمالا فنية للفنانة نیوشا توکلیان، وجوهر دشتي، وشادي غديريان، وهونغاما جولستان، وميترا تبريزيان.
صورة “انتظار طويل” من مجموعة صور “الحدود” للفنانة والمخرجة السينمائية ميترا تبريزيان (معرض آرثر إم ساكلر).
يُذكر أن نصف عدد الفنانات يعشن في إيران، في حين انتقلت الأخريات للعيش خارج البلاد. وأوضحت فرهاد أن هذا المعرض يتناول الجوانب المعقدة في الحياة الإيرانية داخل البلاد وخارجها، حيث تعرض كل فنانة نظرتها الخاصة لما يعنيه المجتمع الإيراني بالنسبة لها.
وفقا لفرهاد، تقدم الصور الفوتوغرافية “لمحة عن الإبداع الفني الذي يزدهر الآن من نواحي كثيرة داخل إيران وخارجها”. وتجدر الإشارة إلى أن جميع الأعمال المعروضة تقريبًا تنتمي إلى المجموعة الدائمة لمعرض ساكلر، التي أُقتني معظمها في سنة 2011 للحصول على عمل فني من المصورين الإيرانيين المعاصرين.
أثناء التجول في المعرض، يشاهد الزائرون مقطع فيديو مدهش وجامد لمدة خمس دقائق ونصف من إعداد توکلیان، التي تعد أصغر الفنانات الست اللاتي ظهرن في فيلم “وطني إيران”.
في الصورة التي تحمل اسم سمية، تقف امرأة بثوبها الملون اللافت للأنظار ومعطفها الكستنائي ووشاحها الأخضر والجينز الأزرق والحذاء بني اللون أمام شجرة يابسة أوراقها بلاستيكية. كانت الكاميرا تكبر الصورة بينما تنفخ الرياح على الأوراق البلاستيكية ووشاح الفتاة ولكن ملامحها ظلّت جامدة وحازمة، لإخفاء مشاعرها والتحكم فيها.
يتواجد نصف الفنانين الذين اختيروا للمعرض في إيران، بينما يتواجد النصف الآخر في الخارج.
يعدّ مقطع الفيديو هذا جزءا من مجموعة بعنوان “صفحات فارغة” من ألبوم صور إيراني، وهي عبارة عن مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي تحكي قصة معلّمة مطلقة تحصل على بداية جديدة في الحياة، ولكن في عالم جديد مليء بالحريات الجديدة. وتصف فرهاد الصور قائلة: “إنها مستلهمة من الحياة ولكنها تنتقل إلى ما هو أبعد من ذلك”.
صورة من المجموعة غير المعنونة للفنانة شادي غديريان.
كانت الصور مرتبة في ألبوم صور عائلي بأسلوب أكورديون لتسليط الضوء على التغيرات في حياة امرأة تمر بالطلاق. إلى جانب ذلك، تظهر إحدى الصور نساء إيرانيات يغنين بينما يظهر رجل إيراني في صورة أخرى يرتدي ربطة عنق، وهما أمران محظوران في إيران. وعلى الرغم من أن أعمال توكليان في المعرض كانت عبارة عن مجموعة من الصور المعدّلة، إلا أن تشابهها مع التصوير الوثائقي ينبع من جذورها كمصورة صحفية.
في الواقع، تحولت توكليان إلى مصوّرة مبدعة ومبتكرة في أعقاب رفض الحكومة الإيرانية طلبها للحصول على تصريح صحفي هذا العام. وقد ذكرت جماعات حرية الصحافة أن السلطات الإيرانية تمارس هذا الحرمان كجزء من الرقابة التي تمارسها على وسائل الإعلام.
فن دمج البطاقات البريدية
على غرار أعمال ناییني، سعت غديريان المستقرة في إيران إلى المراوحة بين التقاليد والحداثة في المجتمع الإيراني من خلال الجمع بينهما. وتعرض مجموعتها صورا التقطت بأسلوب رُوّج له خلال فترة حكم القاجار (1789-1925)، لكن بلمسة عصرية.
تحتوي كل صورة على عنصر من العصر الحديث، على سبيل المثال عبوة البيبسي، في حين يرتدي الأشخاص ملابس تعود لمئات السنين. بشكل عام، تصوّر هذه المجموعة المجتمع والثقافة الإيرانية باعتبارهما مجتمعا لا ينفصل عن التقاليد، لكنه يستلهم بشكل مستمر من ماضيه لتطوير مستقبله. في هذا الصدد، تقول فرهاد “إن العديد من الفنانين مرتبطون بماضيهم، وهم يستخدمون الأعمال الفنية لتحديث الصور الإيرانية بطرقهم الخاصة”.
تتمحور العديد من صور دشتي حول تجاربها التي نمت خلال الحرب العراقية الإيرانية.
في سياق متصّل، يتمثّل الموضوع الآخر الذي يمتد من مجموعة ناييني إلى بقية العروض في تأثير الهجرة والنزوح. تتمحور صور دشتي حول تجاربها التي نمت خلال ترعرعها بالقرب من ساحل الخليج أثناء الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات. يذكر أن مجموعتها غير المعنونة في معرض إيران تحتوي على صورتين، تتمثل الأولى في صورة لمجموعة من النساء جالسات على أريكة في حالة حداد وترتدي جميعهن اللون الأسود، أما الصورة الثانية فتعرض 20 رجلا وامرأة يحملون حقائب مصطفين في طابور.
بدلا من التواجد في المطار أو في منزل شخص ما، وُضع الأشخاص في كلتا الصورتين في أرض عشبية جافة، محاطة بالنباتات الخضراء وتلة صغيرة. وخلال جولة المعرض، وصفت فرهاد المجموعة بـ “وسط اللا مكان” – وهي استعارة لما تعتقد أنه مستقبل بلدها.
من جهة أخرى، تقضي تبريزيان المستقرة في لندن وقتها في التقاط صور للمنفيين الإيرانيين في البلاد، وقد طبقت نفس المفهوم على محيطها الخاص. في الصورة التي تحمل عنوان “قضية مميتة”، يحدق ميكانيكي إيراني وجندي سابق في لندن بعيدًا، غير منتبهين إلى ما يحيط بهما. على الجانب الآخر من باب المرآب، يقف رجل في حالة من الذهول ويداه ممدودتان لتقييم الضرر الذي لحق بالسيارة. في الواقع، تملك هذه الصور نظرة سينمائية، وتبريزيان بالفعل مخرجة سينمائية.
“قضية مميتة”، من مجموعة “الحدود” للفنانة ميترا تبريزيان.
تقول ناییني في تسليطها الضوء على أعمال تبريزيان إنه “من الصعب جدا أن أكون في المنفى، حيث أجد صعوبة على نحو ما في دمج نفسي في ثقافة مختلفة وأماكن مختلفة”. ومن جهتها، قالت فرهاد إنها لم تشرع في عرض أعمال الفنانين الذين يعيشون داخل إيران وخارجها. لكن مواقعهم الجغرافية المختلفة ساعدت في إعطاء رؤية أكثر اكتمالا للمجتمع الإيراني. وتضيف: “في نهاية المطاف، هذا المعرض سيكون بعنوان “إيران”. ما هذا؟ إنه مكان فعلي ولكنه مفاهيمي أكثر. هناك أكثر من إيران واحدة، ومن هنا نشأ العنوان … كل ركن في إيران مختلف”.
المصدر: ميدل إيست آي