إن ما نشهده اليوم من ثورة تكنولوجية متسارعة وتطور في الأجهزة الذكية وتطبيقاتها المتعددة ما كنا لنراها لولا توافر الوقود اللازم لعملها، ألا وهي “البيانات”. فكما أن النفط ساهم في ولادة الثورات الصناعية السابقة وما زال، فإن البيانات الوقود الجديد للقرن الحادي والعشرين والمحرك الأساسي للثورة الصناعية الرابعة.
كان أول من أطلق مصطلح “البيانات هي النفط الجديد” هو الخبير التقني الإنجليزي كلايف هامبي، الذي بنى أول برنامج دعم للزبائن يدعى “Clubcard” في سوبر ماركت “تيسكو” الشهيرة في لندن عام 1994، فبرنامجه الذي اعتمد على بيانات زبائن السوبر ماركت وتفضيلاتهم جعل من متجر التسوق الصغير هذا أكبر سلسلة متاجر في المملكة المتحدة.
عندما قدم هامبي مقترحه لمدير متجر تيسكو قال المدير في حينها: “ما يخيفني في هذا الوقت أنك ستعرف معلومات عن زبائني في 3 أشهر أكثر مما أعرفه أنا في 30 عامًا”.
من أين تأتي البيانات؟
ربما تساءل أحدنا عن سبب تقديم جوجل وفيسبوك وتويتر وغيرها من تطبيقات التواصل الاجتماعي خدماتها لنا بالمجان. في الحقيقة هي ليست مجانية كما نظن، ولكن تقدمها بمقابل، وهذا المقابل عماد اقتصادها وهو البيانات.
عند تصفحنا لأي موقع واستخدامنا لأي تطبيق أو شرائنا لأجهزة إنترنت الأشياء سنترك أثرًا رقميًا عنّا، يمثل تفاعلاتنا واهتماماتنا وتفضيلاتنا، هذه الآثار الرقمية التي هي “بيانات” تستخدمها الشركات لاستهدافنا بإعلانات توافق ميولنا، وكذلك بمجموع بيانات المستخدمين تنتج الشركة تطبيقات جديدة تنتج بيانات جديدة تعود عليها بالنفع.
عند استخدام أحدنا لتطبيق الخرائط من جوجل نحدد موقعنا وتبقى الشركة متعقبة لمسارنا، ومن مجموع استخدام الناس لهذا التطبيق وتتبع الشركة لمساراتهم تحسن جوجل دقة رسم خرائطها
تقول في لي، مديرة مختبر الذكاء الاصطناعي في جوجل: “البيانات جزء مهم جدًا لتطوير خوارزميات الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، فالمزيد من البيانات تعني المزيد من النتائج الجيدة وتصبح الآلات أكثر ذكاءً”.
عند استخدام أحدنا لتطبيق الخرائط من جوجل نحدد موقعنا وتبقى الشركة متعقبة لمسارنا، ومن مجموع استخدام الناس لهذا التطبيق وتتبع الشركة لمساراتهم تحسن جوجل دقة رسم خرائطها.
كذلك تعمل جوجل على استهدافنا بإعلانات معتمدةً على المتاجر التي تقع على طريق أحدنا أو نزورها، الشيء نفسه تستخدمه شركة فيسبوك، فالتطبيق يبقى متعقبًا لأثرنا الرقمي وتسجيل معلومات عن مستخدميه وتسجيل بياناتهم حتى بعد الخروج من التطبيق.
هذا التعقب والتتبع المستمر للآثار الرقمية لمستخدمي الإنترنت جعل كبرى شركات التكنولوجيا مثل “جوجل وفيسبوك وأمازون وآبل ومايكروسوفت” تُكدس جبالًا من البيانات التي تضمن استمرارها وتفوقها على من سواها، ومن ثم استخدامها في الإعلانات الرقمية، حيث تتربع تلك الشركات على عرش سوق الإعلانات، فقد بلغت إيرادات تلك الشركات 25 مليار دولار من الإعلانات فقط في الربع الأول من عام 2017، والبيانات تتوسع كل سنة بمقدار 61%.
يتضح مما سبق أن الهيمنة على البيانات تمثل سيطرة على سوق الإعلانات والتسويق الرقمي، وبصورة أخرى سيطرة على الاقتصاد في العالم الذي يشهد تحولاً إلى الأتمتة والرقمية، لكن هنالك تصورًا خاطئًا، فجمع كمية كبيرة من البيانات لا يعني بالضرورة اتخاذ قرارات تجارية مهمة، لأن أصل النجاح استخراج معلومات مهمة من تلك البيانات.
الفرق بين البيانات والمعلومات
يعرّف المختصون “البيانات” ببساطة بأنها مجموعة من القيم والأرقام والإحصاءات، أمّا المعلومات فهي البيانات التي توضع داخل سياق.
على سبيل المثال الرقم 22 وحده يمثل بيانات غير ذات قيمة، لكن إذا وضع في سياق تاريخي مثلًا 7 من يناير 2010، وأضفنا سياقًا جغرافيًا مثل لندن، ومن ثم قلنا إن الرقم 22 هو قياس درجة الحرارة، فعندها سنخرج بمعلومة أن درجة الحرارة هذه غير تقليدية في لندن في مثل هذا الوقت.
جمع البيانات مع بعضها وتنظيم السياقات والخروج بمعلومات مفيدة هو ما يجعل لكبرى شركات التكنولوجيا قدم السبق في هذا المجال.
التشابه والاختلاف بين النفط والبيانات
إن إطلاق التشبيه بين النفط والبيانات يعود إلى سبب أن كليهما كان السبب في انطلاق ثورة صناعية في مجالٍ ما، ورغم أن النفط ما زال المحرك الأول لعجلة الصناعة في العالم منذ القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا، فإن البيانات الركيزة الأولى لقيام علم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته العديدة التي غزت معظم الأسواق في يومنا هذا.
– يمكن استخراج المعلومات من البيانات كما تستخرج الطاقة من النفط.
– النفط بمفرده ليست له قيمة عالية لكن القيمة تأتي من مشتقاته بعد تكريره وتصفيته، كذلك البيانات بمفردها غير مهمة، لكن جمعها في سياقات واستخراج المعلومات هو ما يهم.
– النفط التقليدي محدود، لكن البيانات ليس لها حدود، وهي تتراكم وتزداد مع مرور الوقت.
– إذا اُستخدم النفط في مكانٍ ما، فلا يمكن إعادة استخدامه، بل على العكس يمكن استخدام البيانات في مكانٍ آخر ولعدد غير متناهٍ من المرات.
– قد يكون النفط مصدرًا للخطر إذا سُكب واشتعل، كذلك البيانات تشكل خطرًا إذا سرقت وسربت.
– النفط ينفد مع مرور الوقت على العكس من البيانات فهي تتوسع بشكل كبير، يمن أن تتضاعف كمية البيانات كل عامين.
– النفط سيطر عليه في بداية اكتشافه بعض البارونات الذين احتكروا إنتاجه وتوزيعه، كذلك اليوم تسيطر على البيانات في جميع أنحاء العالم بعض الشركات التكنولوجية الكبرى وتحتكر تعميم تجربة استخدامها.
مستقبل الوظائف في قطاع البيانات
النمو الهائل والمستمر في كمية وحجم البيانات دفع صندوق النقد الدولي (IMF) إلى اعتبار أن “البيانات هي النفط الجديد”، إذ قالت مؤسسة البيانات والتحليلات الدولية: “إيرادات البيانات الضخمة وتحليلات الأعمال في جميع أنحاء العالم ستنمو من 103 مليارات دولار عام 2016 إلى أكثر من 203 مليارات دولار عام 2020، وبمعدل نمو سنوي يبلغ 11.7%”.
وتشير الإحصاءات إلى أن الوظيفة الأكثر طلبًا في القرن الحاليّ هي تلك المتعلقة بعلوم البيانات وتفرعاتها، إذ بلغ متوسط مرتبات علماء البيانات في سان فرانسيسكو هذا العام نحو 140000$.
أورد صندوق النقد أهم خاصيتين يمتاز بهما قطاع البيانات دون غيره من القطاعات الفاعلة في الاقتصاد: الأولى أنها غير “متنافسة” بمعنى أن الاستخدام المستمر للبيانات لا ينقص من كميتها، بل على العكس استخدامها يسهم بمنتجات جديدة توّلد المزيد من البيانات.
الخاصية الثانية، أنها غيرت من قوانين الملكية المعروفة، فالنفط وباقي الموارد على سبيل المثال تملكها الدولة التي تحتوي آبارها ويتم استخراجها منها، أمّا البيانات فتعود ملكيتها للجهات القادرة على استخراج معلومات مفيدة منها وليس لمن يملك البيانات.
تعامل الحكومات مع البيانات
تحتاج الحكومات إلى بناء مجتمع قائم على البيانات بغية تقديم أفضل الخدمات للمواطنين وتقدم إحصاءات دقيقة كي يتمكن الأشخاص والمؤسسات من اتخاذ قرارات جيدة.
إن الاقتصاد القائم على البيانات سوف يُمكّن الحكومة من معالجة مشاكل الاحتيال والديون بشكل أفضل، إضافة لفائدتها في توفير سجل معلومات مدنية متكامل يساعد الحكومة لمعرفة العوائل الفقيرة والمضطربة كي تقدم الدعم لها.
كانت حماية الموارد الطبيعية وظيفة للقوة العسكرية للدول، ومع ذلك، فإن تأمين الفضاء السيبراني سيتطلب تعاونًا قويًا بين الحكومات والمنصات والأوساط الأكاديمية، في الولايات المتحدة مثلًا، تُعد منصات التكنولوجيا جهات فاعلة في الخطوط الأمامية بشكل متزايد في صنع القرارات المتعلقة بالأمن القومي.
احتكار البيانات بيد شركات خاصة كبيرة دفع بالكثير من المشرّعين للمطالبة بتفكيك تلك الشركات وتمكين الدول من وضع يدها على البيانات أو قدرتها على استخدام تلك البيانات في الوقت الذي تحتاجه، ومكافحة احتكار تلك الشركات للبيانات، حيث تلقّت جوجل وحدها 45500 طلب من الحكومة الأمريكية عام 2016 بغية كشف معلومات بعض المستخدمين، استجابت جوجل لنسبة 60% منها.
تنظيم عمل كبرى الشركات في العالم مع بيانات المواطنين
بغية الحفاظ على خصوصية المواطنين على إثر الفضائح الكثيرة التي لاحقت شركات عدة بسبب تسرب بيانات مستخدميها، فرضت عدة دول شروطًا على مشغلي الخدمات وعمالقة التكنولوجية، فمثلًا:
أوروبا
أقرّ الاتحاد الأوروبي عام 2018 قانون “حماية البيانات” يطالب الشركات باحترام حقوق البيانات لمواطني الاتحاد الأوروبي أو مواجهة عقوبات صارمة.
يجب على الأوروبيين تقديم موافقة إيجابية على طرق استخدام بياناتهم، ولهم الحق في الوصول إلى تلك البيانات ومحوها.
أمريكا
بينما في الولايات المتحدة فقد أُطلِقت العنان لشركات التكنولوجيا التي تستخدم بيانات المواطنين لتحقيق أقصى استفادة مادية من تلك البيانات لتعود ضرائب أكثر لخزينة الدولة، دون الاكتراث لرضا المواطنين على استخدام خصوصياتهم من عدمه.
الصين
النهج الثالث هو سيطرة الدولة على البيانات الذي يبرز كنظام ائتمان اجتماعي في الصين، رغم أن ذلك لا يزال يمثل سياسة داخلية.
يتزايد باطراد عدد البلدان التي حققت اعترافًا رسميًا من الاتحاد الأوروبي بـ”كفاية” معاييرها، ستنضم كوريا الجنوبية واليابان إلى القائمة قريبًا.
من جانبهم، قادة الاتحاد الأوروبي واضحون في نيتهم، قالت فيرا يوروفا، المفوضة الأوروبية للعدالة: “نريد أن نضع المعيار العالمي، الخصوصية هي أولوية قصوى بالنسبة لنا، ولذا يجب أن تكون كذلك لأولئك الذين يرغبون في التجارة مع هذه الكتلة الاقتصادية القوية”.
خاتمة
نظرًا لأننا نعيش في عصر تحكم فيه التكنولوجيا كل مرافق الحياة تقريبًا والبيانات هي المغذّي الأساسي، صار لزامًا وضع قوانين تحكم عملها، فكما أن النفط عند تسربه يكون سامًا ويسبب مشاكل بيئية واقتصادية، كذلك البيانات، فالاختراق وقرصنة البيانات واستخدامها من قبل الحكومات و جهات معادية للإنسان هو أخطر ما في الأمر. نذكر مثالًا من تمكّن قراصنة مؤخرًا من عزل مدينة بالتيمور في الولايات المتحدة الأمريكية مسببةً خسارة تقدر بـ18 مليون دولار.
فجميع الشركات المخزّنة لبيانات لا تفصح عن طرق تخزينها للبيانات ولا أساليب حماياتها، ونحن نعيش في عالم تتضاعف فيه البيانات كل سنتين، فتشير الدراسات إلى أن البيانات ستنمو بمعدل 463 إكسابايت يوميًا بحلول عام 2025. فيجب على الشركات أن تتمتع بمزيد من الشفافية وتسعى للحفاظ على خصوصيات مستخدميها مثل سعيها لجني المزيد من الأرباح.