على قدم وساق، يسعى السودان، للبدء في تنفيذ الاستحقاقات الاجتماعية للثورة، وتملك القيادة الجديدة، تصورًا سياسيًا واضحًا، لردم الهوة الكبيرة بين الأجور في البلاد، وتحصين المواطنين من الغلاء، والبداية من هيكلة القطاع المصرفي، وملاحقة أموال نظام البشير في الخارج وبأقصى سرعة، قبل أن يفقد قطاع لا يستهان به من الشارع السوداني ثقته في الثورة ومكتسباتها.
التصور السياسي للحكم الجديد في البلاد، تُرجم خلال الأيام الماضية على لسان وزير المالية والتخطيط الاقتصادي إبراهيم البدوي، الذي أكد وعي السودان بأهمية رفع مستويات الأجور وتعديل قوانين الخدمة المدنية لردم الهوة الواسعة بين أسعار السلع والخدمات ومستويات دخل المواطن.
تعيش البلاد التي خرجت للتو من مخاض ثوري صعب، ارتفاعًا حادًا في أسعار السلع الأساسية، وأزمات معيشية على أصعدة عدة، على رأسها ندرة الوقود والخبز والمواصلات العامة، كل ذلك في مقابل استمرار تواضع الحد الأدنى للأجور، الذي يقف في السودان عند حدود 425 جنيهًا، أي ما يعادل 9 دولارات تقريبًا، ولا يغطي هذا الرقم 20% من التكلفة المطلوبة للمعيشة، ما يجعل حياة أغلب المواطنين غاية في الصعوبة.
أوجه الخلل من وجهة نظر البدوي، تكمن في سيطرة ما يسمى بالاقتصاد غير الرسمي والوجود الكثيف للسماسرة والوسطاء، الأمر الذي يؤدي إلى رفع الأسعار بمعدلات تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 75%، لذا من المهم صناعة سياسة تنافسية صحية، تدفع بالشباب كفاعلين جدد، وتشجع القطاع التعاوني والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وفقًا لميزانية 2020 التي يبدو أنها تعكس الأولويات التي طالبت بها جميع ثورات بلدان المنطقة، من تعليم وصحة وبنية تحتية ونهوض بالكادر البشري، وكل الجوانب المتعلقة بأهداف التنمية المستدامة.
الفقراء أولًا.. سياسة حكومة حمدوك
تصريحات وزير المالية السوداني، لا يمكن نزعها من سلسة التصريحات التي دأب عليها رجال الحكم الجديد، بداية من رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي أعلن قبل أسابيع مناقشة الحكومة مقترحات بتقديم تحويلات نقدية للفقراء إلى جانب الدعم المزمع للمواد الغذائية والسلع الأساسية الأخرى.
عبد الله حمدوك
التحويلات النقدية، تهدف إلى دعم أصحاب الدخل المنخفض، وهي سياسة متكاملة -لم تتضح تفاصيلها المهنية الكاملة بعد- وتهدف لمدهم باحتياجاتهم من الغذاء والأدوية والخدمات الطبية والتعليم، وربما هذه المهمة أحد أهم أسباب إجراء السودان محادثات مكثفة مع البنك الدولي وصندوق النقد بشأن ميزانية 2020، وهو سلاح ذو حدين، إذ ليس من المتعارف عليه موافقه المؤسسات المانحة الدولية على مثل هذه السياسات، بل تضع شروطًا مجحفة غالبًا لتنفيذ إصلاح جذري في الاقتصادات الناشئة، ينسف هذه السياسة، لأنه يعتمد على تجفيف أغلب منابع الدعم.
وتعتمد خطة حمدوك، على مسار إنقاذي مدته تسعة أشهر، وتهدف إلى كبح جماح التضخم، وتضمن في الوقت ذاته دعم السلع الأساسية، دون المساس بدعم الخبز والوقود حتى يونيو 2020 على الأقل، وقدرت الحكومة الأموال المطلوبة لذلك بـ8 مليارات دولار خلال العامين القادمين، لتغطية قيمة الواردات والمساعدة في إعادة بناء الاقتصاد.
المعضلة في الأزمة، أنه رغم عدم كفاية الأجور، فإن الزيادة التي أقرت في 2019 لمرتبات العاملين والمعاشات، بلغت 15 مليار جنيه “333 مليون دولار”
يمكن القول إن عملية الإصلاح التي ستمهد لإنجاح هذ المسارات، بدأت من داخل وزارة المالية، كبداية لسلسلة تصويبات تشمل كل أجهزة الدولة، من أجل ضبط المالية العامة وإغلاق منافذ الفساد ومناهضة كل الممارسات الخاطئة التي كانت تتم في السابق وصولاً إلى ترشيد الإنفاق وتوظيف الموارد في تحقيق التنمية المستدامة.
وبالنظر إلى تقرير الأداء الصادر عن وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي لعام 2019، ورغم الزيادات في الرواتب التي أعلنتها الحكومة السابقة، في ميزانية عام 2019، بواقع 500 جنيه، “11 دولارًا” تقريبًا لأقل درجة في الهيكل الراتبي، وللمتقاعدين إلى 2500 جنيه “55.6 دولار” للدرجات العليا، ولكن لا تزال المسافة بعيدة بين مستويات الدخل والإنفاق للمواطنين، التي حددها المجلس الأعلى للأجور في دراسة، وأكد أن الحد الأدنى المطلوب يقدر بنحو 8992 جنيهًا “200 دولار” شهريًا لأسرة مكونة من 6 أفراد.
المعضلة في الأزمة، أنه رغم عدم كفاية الأجور، فإن الزيادة التي أقرت في 2019 لمرتبات العاملين والمعاشات، بلغت 15 مليار جنيه “333 مليون دولار”، ولكنه أحدثت عجزًا بأكثر من 54 مليار جنيه “1.2 مليار دولار” وتجاوزت معدلات التضخم 68%، وتراجع في الوقت نفسه سعر الجنيه السوداني، مقابل العملات الأجنبية، بنسبة تجاوزت 100% في فترة لا تقل عن 6 أشهر، بسبب انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، بعد توقف الكثير من المصانع والمنشآت التي اضطر أصحابها إلى إغلاقها، هربًا من البيئة غير المناسبة للعمل ومعدلات تضخم المفرطة والصعوبات التي تواجههم في الحصول على التمويل والسيولة المالية.
ضبط الأسواق.. الحل الأفضل
في كل بلدان ثورات الربيع العربي، وقعت كل الحكومات اللاحقة على الفعل الثوري في نفس الخطأ، العمل على سياسة زيادة الأجور، دون سرعة موازية في ضبط الأسواق وزيادة الصادرات وإحلال الواردات وتقليص العجز في الميزان التجاري، وهي أفضل إجراءات يجب الإسراع بها للحفاظ على العملة الوطنية من الانهيار والصمود أمام التحديات، ويبدو أن السودان فطن إلى هذه المعادلة سريعًا.
الدكتور مدني عباس وزير الصناعة والتجارة السوداني، ركز قبل أيام في مجمل تصريحاته، على تحديد ملامح خطة موازنة العام القادم 2020، وأوضح أنها ستربط بين احتياجات المواطن وأولويات الحكومة الانتقالية، وصولًا إلى الإصلاح الاقتصادي وتحقيق السلام والتنمية، وخلق برامج ومشروعات لفترة زمنية وتكلفة مالية محددة.
تشمل خطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، دمج بعض المصارف وإعادة تنظيم مصارف أخرى، حتى تكون متوائمة مع المتطلبات والقوانين الدولية
تكليفات مدني لإدارات وزاراته، وضعت في أولوياتها تعزيز الصادرات وضبط الأسواق وحركة الاستيراد، ومن أجل هذا الغرض، شكل الوزير لجنة لمراجعة كل القوانين المرتبطة بحركة التجارة والصناعة في البلاد، وأصدر مجموعة من الإجراءات لتنظيم حركة الأسواق وضبط المتلاعبين بالأسعار، عبر آليات جديدة لمراقبة الأسواق والمصانع المنتجة للمواد الغذائية.
في مسار موازٍ، وهربًا من التكلفة الباهظة للاتفاق مع المؤسسات الدولية حال عدم الاتفاق على آلية عادلة لتمويل فاتورة المرحلة الانتقالية، يعيد السودان حاليًّا، إعادة هيكلة القطاع المصرفي، لتنفيذ توصيات ضبط الميزانية والأداء المالي ورفع الإيرادات من 6 إلى 20% من الناتج المحلي.
وتشمل خطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، دمج بعض المصارف وإعادة تنظيم مصارف أخرى حتى تكون متوائمة مع المتطلبات والقوانين الدولية، وإنقاذ هذا الكيان الضخم من الديون التي شلت حركته خلال الأعوام الماضية، ويستفيد السودان حاليًّا من وجود جمع كبير من الخبراء والمستشارين الماليين والمختصين بالقطاع المصرفي الموالين للثورة وأهدافها، وهؤلاء يعملون الآن على مراجعة حسابات ومؤشرات البنوك، ووضع وتنفيذ كل الأسس التي تضمن إعادة الثقة في البنوك العاملة في السودان وسلامة تعاملاتها.
أموال البشير.. الأمل المفقود
البشير مثل غيره من كل الطغاة العرب الذين ركلتهم الثورات وأفقدتهم عروشهم، ولكنها لم تستطع استرداد ما نهبوه على مدار سنوات حكمهم، التي ظلت أعوامًا طويلة من فاتورة العقود الماضية، ربما الأمر مختلف في السودان، بعدما أصبح لديه أرشيف واضح لكل البلدان المجاورة التي سبقته في نفس التجربة، وعلى هداها يتخذ العديد من القرارات الحمائية التي تعينه على تنفيذ أهدافه.
ووفق مسح أولي في السودان، نقلته الصحف عن مصادر حكومية خلال الأسابيع الماضية، تبلغ الممتلكات والأصول المملوكة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، الذي كان ينتمي إليه البشير، نحو تريليون ونصف التريليون جنيه سوداني، أي ما يعادل 31 مليار دولار أمريكي.
كما يملك الحزب الذي أسُقط عن الحكم، مقارًا تتجاوز 1500 مبنى، أهمها المركز العام بالخرطوم الذي تجاوزت كلفة بناء أبراجه نحو 300 مليار جنيه سوداني، أي نحو 50 مليون دولار، بجانب ما يقرب من 5 آلاف سيارة فارهة، 40 منها عربات دفع رباعي باهظة الثمن، وشركات وهيئات ومؤسسات يتجاوز عددها الثلاثة آلاف، وواجهات استثمارية أخرى، استفادت بقوة من الإعفاءات الجمركية للدولة، وكان لها سجل حافل في فرض وصاية على الجهات الحكومية وإرغامها على التعامل معها ضمن سياسة التمكين التي انتهجها النظام منذ بداية تسعينيات القرن الماضي.
وحتى الآن، نجح النظام السابق ومنذ إسقاط البشير، في إخفاء أصول وممتلكات لمؤسسات وشركات واتحادات طلابية مرتبطة بالمؤتمر الوطني، ولا يعرف أحد كيف اختفت في ظروف غامضة، وحدث ذلك رغم فرض المجلس العسكري الانتقالي حظر كامل على الأبنية التابعة للنظام المنحل!
رغم كل ذلك، تعتبر أول وأهم القرارات التي اتخذتها أجهزة الحكم الجديد، العمل على استرداد الأموال المنهوبة، من خلال عدة آليات، بداية من التعاقد مع شركات عالمية متخصصة في تتبع الحسابات والتدفقات غير المشروعة في البنوك الخارجية، إضافة إلى الاستثمارات التي استخدمت فيها الأموال التي هرَّبتها عناصر النظام السابق إلى خارج السودان.
هذه الشركات، بالتعاون مع فريق وطني يضم محامين ومراجعين ومحاسبين قانونيين، تمد الحكومة السودانية بقوائم وتقارير، تُرفع للنائب العام أولًا بأول، لإعداد ملفات قانونية حاسمة وسريعة، لمحاسبة المتورطين في التلاعب بالمال العام ومحاكمتهم واسترداد الأموال المنهوبة.
السرعة في إنجاز الاستحقات الثورية، تجعل السودان يدخل إلى المؤتمر العالمي الذي دعي له الشهر المقبل، تحت عنوان “أصدقاء السودان”، ويسعى لحشد 20 دولة ومؤسسة من بلدان الاتحاد الأوروبي والمنطقة العربية، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ومنظمات الأمم المتحدة، بمنتهى القوة، فهو من ناحية مؤتمر للمانحين، وتحتاج فيه الحكومة إلى دعم المجتمع الدولي في حربها لاستعادة أموال الدولة من الخارج، ومن ناحية أخرى، فرصة لدعم مشروعات الموازنة القادمة وخاصة الكهرباء والماء والمواصلات، وزيادة احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، بشروط ميسرة ومنح غير مستردة.