بين عامي 1992 و1995 اجتاح البوسنة والهرسك صراع دموي قُتل فيه نحو 100 ألف شخص، واغتُصبت فيه عشرات الآلاف من النساء في خضم عملية تطهير عرقي لا ترحم.
وصلت الحرب إلى نهايتها باتفاق دايتون، الذي تم فرضه في محاولة لتهدئة التوترات العرقية وتم الاتفاق على تقسيم السلطة بين ثلاث حكومات: مسلمي البوسنة (البوشناق)، والكروات والصرب.
كان من المفترض أن هذا النظام غير العملي سيكون حلاً مؤقتًا، لكن بعد عشرين عامًا من انتهاء القتال، لازال النظام الفاشل موجودًا.
اليوم، لدى البوسنة والهرسك 42٪ من قوتها العاملة تعاني من البطالة، وناتجها المحلي الإجمالي يعد من بين الأدنى في أوروبا، وفي نفس الوقت تتجه البلاد إلى انتخابات في أكتوبر من العام الجاري، في أعقاب احتجاجات واسعة النطاق، وكارثة طبيعية كبرى بسبب الفيضانات التي عمت البلاد، البوسنيون وسط ذلك يعبرون عن تصاعد إحباطهم من الدولة ومن السياسة في بلادهم.
تقول “سمية توليتش” وهي مواطنة بوسنية “لقد فشل الجميع بشكل رهيب، لم يعد الناس يحتملون، والأدهى أن الانتخابات لن تأتي بأحد صالح، لا يوجد أحد يستحق التصويت لصالحه”.
بعد اتفاق دايتون تشكل كيانين منفصلين للحكومة: اتحاد البوسنة والهرسك، والذي يتألف من البوشناق والكروات، وجمهورية صربسكا، التي تتألف من الصرب غالبًا، لكل من الكيانين رئيسهما الخاص ونائب الرئيس وبرلمانًا خاصًا وما مجموعه 145 بلدية، إنها متاهة سياسية يقول كثير من مواطني البلاد إنهم لا يفهمونها أصلاً، وهذا ما أوصل البلاد إلى تلك الحالة من الفشل!
يقول روبرت دونيا، وهو أستاذ زائر في جامعة ميتشغن “إن نظام الحكم يفضي إلى ما يمكن أن نسميه الفساد، لكن هذا الفساد متوطن في النظام ذاته”، ويتابع مؤلف كتاب “سراييفو: سيرة ذاتية” قائلاً: “هناك قدر كبير من البيروقراطية في كل عمل؛ مما يجعل البدء في عمل خاص أمر شبه مستحيل، والرواتب منخفضة بشكل كبير بحيث لا يكفي راتب الفرد لتغطية نفقاته وحده!”.
وفي مايو من العام الجاري، اجتاحت فيضانات كارثية أراضي البلاد، ودمرت البنية التحتية في العديد من المناطق وتسببت في قتل 60 شخصًا وتشريد مئات آلاف آخرين، ووسط الدمار، بدأت بقايا الحرب في الظهور من جديد، حرفيًا!
فقد ظهرت بفعل الفيضانات العديد من المقابر الجماعية التي دفن فيها المئات، والتي اكتُشفت بعد انحسار المياه عقب الفيضانات.
يقول سالم براداريتش إن الأمر بدا كما لو كان “نثر الملح على الجرح الذي لم يلتئم بعد”، سالم وجد ثلاثة إخوة له في مقبرة جماعية كشفتها الفيضانات في منطقة دوبوي.
بالإضافة إلى ذلك، تسببت الانهيارات الأرضية الناجمة عن الأمطار ومياه الفيضانات بإخراج ونقل العديد من الألغام الأرضية التي تركها المقاتلون في البلاد مع نهاية الحرب.
يقول “نيدزاد كوكوروزوفيتش” مدير مركز مكافحة الألغام في البوسنة والهرسك، والذي خدم كضابط في الجيش إبان الحرب كان يعمل على زرع الألغام أو أن يأمر جنوده للقيام بذلك، إنه “كخبير، أو كفريق من الخبراء، لا نستطيع القول أنه إننا نعرف أين قد تكون تلك الألغام، وإلى أي مدى حركتها المياه”، الآن ينزع كوكوروزوفيتش الألغام.
يشتكي البوسنيون بغضب من عدم قدرة الحكومة على عدم توفير أي خدمات لهم، بما فيها الخدمات الإغاثية الأساسية بعد الفيضانات، لكن ما يمكن أن يوفر تخفيفًا من هذه الكارثة، أن النزاعات العرقية بدأت تتلاشى في ظل الأزمة.
يقول براداريتش “لقد تغير الكثير، لا أحد يسأل عما إذا كنت مسلمًا أو من الكروات أو من الصرب، الجميع يساعد الجميع”.
حدثت تلك الفيضانات بعد أسابيع من احتجاجات عنيفة مناهضة للحكومة، ولفترة وجيزة أطلق عليها المتابعون اسم “ربيع البلقان”، هزت التظاهرات البلاد، وأحرق المتظاهرون مبان حكومية واستخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع في أسوأ حلقة من الاضطرابات منذ الحرب.
تقول سمية توليتش، والتي شاركت في التظاهرات، إن “الاختلاف الأساسي بين مظاهرات 2014 وبين المظاهرات السابقة التي حدثت بعد الحرب، أن هذه المظاهرات لم تكن مصبوغة بالطائفية”، وتتابع الناشطة التي تقيم في سراييفو “لم تكن هناك تساؤلات عمن دعا إلى تلك التظاهرات، ومن أي عرق هم، فمشاكل الناس اليومية تصيب الجميع، الجميع يتأثرون على قدم المساواة”.
وبغض النظر عن الانتماء العرقي، يتحد العديد من البوسنيين في كراهيتهم للحكومة. والسؤال الآن: ما الذي يمكن فعله.
يقول دونيا “إذا كنت تسأل البوسنيين، سيقولون لك إن على المجتمع الدولي أن يتدخل ويفعل شيئًا، لكن إذا سألت المجتمع الدولي، سيقولون لك إن الأمر يتعلق بالبوسنيين فقط، وهم الأقدر على تقرير مصيرهم”.
هذا ما جاء في فيلم أعده موقع VICE الأمريكي بشأن المقابر الجماعية التي كشفتها الفيضانات، والألغام الأرضية التي تحركت، وكذلك يناقش غضب البوسنيين من أداء حكوماتهم.
يمكنكم مشاهدة الفيلم هنا: