الحديث عن المسرح السوري وتطوره زمنيّاً وفنيًا يحيلنا إلى ضرورة فهم الحالة السياسية والثقافية والاقتصادية للمجتمع السوري بشكله الواسع على مدار فترة حياة “أبو الفنون” الحافلة والمستمرة، نظرًا لقدرة هذا الفن على التعبير عن تقلبات المجتمع وحكاية مراحل تطوره وعلاقته بالسلطة.
إلا أن هذا الشكل التعبيريّ المسرحي في نقد السلطات وما يتبعها من تفاصيل تمتد بين الأخلاق والحياة الاجتماعية والاقتصادية بقي على حاله دون مساهمة في صناعة ما وجد من أجله ألا وهو التحول الثوري القادر على تغيير الواقع.
المسرحية السورية التي كانت تفتقد إلى الكثير من مقومات المسرحية الحقيقية، حيث كانت تطغى عليها صبغة المسرح الفرنسي وأفكاره؛ استطاعت بفضل الكثير من الجهود المتراكمة تشكيل انطلاقة قوية وتكوين حالة مسرحية مستقلة ذات شخصية فريدة وتترك أثرًا.
انطلاقة المسرح السوري
زرع أبو خليل القباني أولى بذور المسرح السوري في بدايات القرن التاسع عشر، فقدم أول عرض مسرحىّ خاص به عام 1871 أطلق عليه اسم “الشيخ وضاح ومصباح قوت الأرواح” لتكون بذلك أول مسرحية سورية وعربية تقوم وفق مفاهيم وأسس المسرح. إذ يعتبر القباني، المتأثر بجلسات الحكواتي ورواية القصص التاريخية في مقاهي دمشق القديمة من أوائل الذين سعوا لبناء شكل متكامل للمسرح السوري من كتابة وإخراج وأداء تقوم كلها على أسس فنية جديدة، وقد نالت حينها المسرحية الغنائية جلّ اهتمامه فكانت المسرحية الأولى من نوعها في المسرح العربي.
وتتالت العروض والمسرحيات البسيطة التي عمل القباني على تطويرها وإدخال الحسّ الموسيقي والغناء إلى مضمونها حتى لاقت اهتمامًا واسعًا من الجمهور الدمشقي فشكّل أولى الفرق المسرحية عام 1879-1880 قدّم خلالها 40 عملًا مسرحيًا مع مجموعة كبيرة من الممثلين وصل عددهم إلى 50 فنانًا وفنانة بالرغم من قلّة الفنانات من النساء حينها وتعرّض الفرقة لمضايقات وتهديدات عديدة، يذكر منهم جورج ميرزا، توفيق شمس، راغب سمسمية، خليل مرشاق، ريم سماط واسكندر فرح وغيرهم. وقد عمل القباني على نقل هذا الإنجاز إلى باقي الدول العربية فكانت القاهرة وجهته الأولى ثم تلتها أمريكا متابعًا فيها عروضه المسرحية حتى عاد إلى دمشق وتوفي فيها عام 1903.
أبو خليل القباني
عرف المسرح السوري لاحقًا بعد مسرح القباني الكثير من المواهب على الصعيد الفردي والجماعي فكان اسكندر فرح -وهو صديق القباني وكان قد عمل معه على عدة مسرحيات- المعلم الأول للكثير من رواد المسرح في سوريا ومصر قدم خلالها مسرحيات هامة في تاريخ المسرح العربي منها: مسرحية شهداء الغرام، ومملكة أورشليم، مطامع النساء، حسن العواقب، اليتيمين، ومسرحية الطواف حول العالم وغيرها.
وعلى صعيد الفرق والجماعات ظهرت بعد فرقة أبوخليل القباني، فرق مسرحية سورية كثيرة أخذت بالتزايد، يذكر منها فرقة “ناديا” والتي تميزت بتقديمها عروضًا راقية، فكانت مؤسستها نادية العريس، من أصول لبنانية، السيدة الأولى التي تعمل في فنون المسرح عام 1939. وقد كان لها حضور في المسرح اللبناني لاحقًا فقد استأجرت مع زوجها وهو الفنان التشكيلي علي العريس، مقهى الكاريون في ساحة البرج في بيروت سنة 1940 وحوّلوه إلى مسرح مطلقين عليه اسم “تياترو ناديا” قدمت عليه عدة استعراضات غنائية راقصة مع فرقة كانت تضم ممثلين وممثلات من مصر وسوريا ولبنان.
تحول المسرح السوري إلى حراك
بعد رحيل القباني إلى مصر للعمل على تأسيس المسرح العربي، بدأ المسرح السوري باكتساب شكل جديد أشبه ما يكون إلى النقد وتشريح الوضع السياسي، إلى أن بدأ تغييبه في سجون الدولة والواقع السياسي المسيطر على البلد، فقد تم إسكات الكثير من الممثلين والمؤلفين والحدّ من نشاطهم المسرحي أمثال عبد الوهاب أبو السعود، معروف الأرناؤوط، محمّد خالد، عبد الرحمن أبو قوس، ووصفي المالح.
وحتى السنوات العشر اللاحقة بقي المسرح السوري قيد التقدم والتطور البطيء نتيجة للتغيرات السياسية والتحولات الاجتماعية التي فرضت نفسها على سوريا حتى ظهرت مسرحيات تحاكي العقل السياسي والتقدمي النقدي، إلى جانب محافظتها على النقد الاجتماعي المخفي دون المساس بكبرى المسائل الجدلية في المجتمع السوري المتمثلة بالعرف أو الدين.
وقد كانت فترات النهوض العربية وحركات التحرر التي عصفت بالمنطقة في ذلك الوقت، أيّ في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات قد قدمت للكثير من المؤلفين وكتاب المسرح فرصًة للإطلاع على مسارح البلدان الأخرى، والعمل على تطوير منهاج المسرح السوري. وكان سعد الله ونّوس، والشاعر محمد الماغوط والكاتب ممدوح عدوان من أوائل من كان لهم دور في صناعة هذا التغيير نتيجة للشعور المرير الذي خلفته هزيمة حزيران عام 1967 إذ أصبح الأداء المسرحي مكتوبًا ومنظمًا أكثر مما كان عليه ارتجالي وعفوي في الماضي والذي تجلى بوضوح في مسرحية “حفلة سمر من أجل حزيران” التي طغت عليها تعرية الأنظمة الفاسدة وحقيقة تغييب الشعب عن واقعهم الرديء.
إلا أن السلطة السياسية التي كانت تحكم سوريا حينها كان لها رأي آخر في القضاء على هذا الشكل من التعبير، فقامت بتهميش المسرح المستقل من خلال التوقف عن دعمه وإنشاء فرق مسرحية تجاريّة أخرى منافسة تحصل على كل أنواع الدعم والتسهيلات، فضلًا عن تحريف الكثير من نصوص وأفكار الماغوط ضمن سيناريوهات هذه المسرحيات. فيما ظلّت باقي الفرق ملتزمة بتطوير فن المسرح وإمكانياته بشكل فردي.
لم يكن من السهل في بداية التسعينيات الاستمرار في هذه الجهود طويلًا دون وجود دعم لوجستي وتشجيعيّ كافي، الأمر الذي جعل من العروض المسرحية مقتصرة على مسارح الجامعات والمقاهي الشعبية في ظل وجود سلطة سياسية تدرك حجم التغيير الذي يمكن للمسرح أن يقود الناس إليه، بالإضافة إلى تردي مناهج تعليم الفنون والمسرح وتحولها إلى مناهج تلقين تقليدية.
المسرح السوري من بداية الألفينات حتى اليوم
ينقسم المسرح في سوريا إلى شقين، القومي والخاص، واللذان يختلفان في مؤسساتهما وتوجهاتهما عن بعضهما البعض بشكل كبير، إلا أن مجموعة من العوائق تجمع بينهم حين يأتي الأمر لخشبة المسرح. فبحسب المخرج السوري والمسرحي المعروف همام حوت، فإن العاملين في المسرح القومي “هم موظفون يجب عليهم التمثيل بغض النظر عن السيناريو أو الفكرة أو حتى أدائهم على المسرح، إذ لا همّ لهم سوى أن يحصلوا على مرتبّهم في نهاية كل الشهر”.
أما العروض التي كانوا يقدمونها فكانت تتنوع بين مواضيع لا تهم الجمهور على الإطلاق أو أنها رسالة تريد الدولة توصيلها. لذا كان الممثلون على الخشبة أكثر من الجمهور. وكانت الفرق في هذا المسرح تتبع لمنظمات شعبية تتلقى دعمها وتوجهاتها من الحكومة أيضًا، مثل، فرقة المسرح الجامعي التي تتبع اتحاد الطلبة في سوريا، فرقة المسرح العمالي التابعة لاتحاد نقابات العمال، أو فرقة طلائع البعث التابعة لحزب طلائع البعث وغيرها الكثير من الفرق المعنية بتسويق توجهات الدولة.
حاول بشار الأسد بعد استلامه الحكم تنشيط المسرح الخاص من خلال إعطاءه بعض الامتيازات كحضوره العروض
وعلى الصعيد الآخر يأتي المسرح الخاص، والذي يقوم على عدد من الفرق المستقلة، بعضها يقدم عروضًا تجارية بحتة مثل بفرقة “الأخوين قنوع” وغيرها من الفرق التي كان محتواها ترفيهي أكثر منه فكرة. وفرق تقدم أعمالًا جادة وراقية مثل فرقة تشرين الشهيرة التي استطاعت الجمع بين المسرح التجاري والترفيهي إلى جانب المحتوى الهام، إلا أنها لم تدم طويلًا فانطفأت شعلتها عام 1994 مع نهاية عرض مسرحيتها الأخيرة “العصفورة السعيدة”.
وفي عام 2000 أيّ بعد استلام بشار الأسد كرسيّ الحكم، حاول الأخير تنشيط المسرح الخاص من خلال إعطاء بعض الامتيازات للفرق الخاصة مثل حضوره شخصيًا إلى بعض العروض مما كان يعني ضوءًا أخضر لهذه الفرق كحضوره مسرحية “خارج السرب” لمحمد الماغوط، وعرض للمخرج همام حوت لفرقة أسرة المهندسين المتحدين. إلا أن هذه المساحة الحرة نسبيًا لم تكن من فراغ بل -بحسب حوت- تأتي لكون المسرح بالنسبة لنظام الأسد كان مكانًا ضيقًا يقتصر على 500 شخص لن يؤثروا بالرأي العام كما تفعل الصحافة وغيرها.
كثرت العروض الفردية وظهرت عدة فرق لم تبق طويلًا مثل فرقة أداة للمثل عابد فهد عام 2002 أدت مسرحية سمّيت “أبناء الشمس” ما لبثت أن انتهت بعد العرض الأول. ثم جاء الممثل سامر المصري بمسرحية “سمح في سوريا” عرضت في مسرح دمشق الدولي. كما تم استضافة ممثلين من خارج سوريا أمثال عادل إمام فقدم مسرحية “البودي غارد”.
بشكل عام اتسمت تلك الفترة حتى عام 2010 بازدهار متقلّب في خشبة المسرح السوري بالرغم من أن الكثير من تلك العروض لم يكن لها فرصة في العرض أكثر من مرة باستثناء فرقة أسرة المهندسين التي قدمت مئات العروض في داخل سوريا وخارجها كما مثّلت المسرح السوري في عدة مهرجانات عربية. إلا أن المسرح السوري بشكل عام لم يكن لديه فرصة لأن يكون مسرحًا حقيقيًا حرًا نظرًا للقمع والتغييب اللذان كانا مفروضين عليه.
واليوم، ومنذ عام 2011 عقب اندلاع الثورة في سوريا والتي استحالت حربًا مفتوحة، خفت صوت أقادم الممثلين على تلك الخشبة، إلا أن الستارة لم تُسدل بعد، إذ تستمر محاولات الشباب في المهجر وبلاد الاغتراب لإبقاء المسرح حيًّا وفاعلًا، كما رأينا في جهود الأخوين ملص، وآخرين.