تواجه هيئة “تحرير الشام” منذ مدة حراكًا مدنيًا مناهضًا في المناطق التي تسيطر عليها في إدلب وريفها، وأخذ الحراك شكل الرافض للوضع الاقتصادي السيء في المنطقة، نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار السلع الأساسية والأتاوات التي تفرضها “حكومة الإنقاذ” التابعة للهيئة، على المنتجات والمحاصيل والسلع في المنطقة، بالإضافة إلى هيمنتها على كل الموارد الاقتصادية، حيث تسيطر على كل المعابر الحدودية مع تركيا المجاورة والمعابر بين مناطقها ومناطق نظام الأسد وبين مناطقها ومناطق “غصن الزيتون” و”درع الفرات” في ريف حلب الشمالي، هذا الحراك الذي يبدو استكمالاً لحراكات سابقة ضد فكرة وجود هيئة تحرير الشام وهيمنتها.
لم تأبه كثيرًا هيئة تحرير الشام بالحراك المدني السلمي الغاضب، حيث لم تشن أي عمليات مضادة ميدانيًا، إلا تحريك آلتها الإعلامية ضد الخارجين عليها، الشاقّين “عصا الطاعة”، فطالما يقتصر الحراك على المظاهرات، فيما ما زالت المناطق خاضعة لها مذعنة، فكل هذا لا يعني لها شيئًا، إلى أن انتفض الشارع المدني في مدينة كفرتخاريم بريف إدلب الشمالي، في وجه محاولة الهيئة وحكومتها “الإنقاذ” فرض ضرائب على إنتاج الزيتون في المدينة، وطردوا لجانها وعناصرها من المدينة.
هيئة “تحرير الشام”.. طريق الهيمنة وإزالة العثرات
خلال سيرورة الثورة السورية، مرّ تنظيم “جبهة النصرة” بهزات كبيرة، بدأت بإعلان تشكيل تنظيم “داعش” في مايو/أيار 2013، وحدوث خلافات بين قيادة التنظيمين وصفها قائد النصرة أبو محمد الجولاني بخلافات العائلة الواحدة، وصلت حد انشقاق النصرة عن “داعش” ومرورها بمرحلة ضعف وتشتيت، ثم عودتها من جديد مقتاتة على ما تنهبه من اعتداءاتها على فصائل الجيش الحر، ثم إعلان قائدها “الجولاني” فك الارتباط بتنظيم القاعدة وتحوله إلى جبهة “فتح الشام” في يوليو/تموز 2016، إلى أن أُعلن اندماج مجموعة من الفصائل في شمال سوريا، بإشراف الجولاني نفسه، باسم هيئة “تحرير الشام” في يناير/كانون الثاني 2017.
يمكن اختصار المآزق التي واجهتها الهيئة منذ أن كانت “جبهة النصرة” وحتى اليوم بما يلي:
أزمة شرخ داخلي
تمثلت في إعلان تنظيم “داعش” ما شكّل منعطفًا كبيرًا أضعف “جبهة النصرة” كثيرًا في وقتها، لكنه في ذات الوقت أكسبها تعاطفًا مجتمعيًا ومن الفصائل الأخرى بسبب موقفها من “داعش”، وهو ما جعلها آمنة في مناطق سيطرة الفصائل الثورية التي حافظت على وجودها وأمنّت عناصرها وأمدتها بالمال والسلاح والمقرات، لكن سرعان ما تمكنت جبهة النصرة من إعادة تموضعها في المنطقة، باعتدائها على فصائل ثورية في المنطقة كان بدايتها ضد جبهة “ثوار سوريا” في منطقة جبل الزاوية بريف إدلب في أكتوبر/تشرين الأول 2014، متذرعة باتهام “ثوار سوريا” بالفساد وفرض الأتاوات على الناس، ما أدى في النهاية إلى تفكيك “ثوار سوريا” وهيمنة النصرة على مناطقها، لتعلن بعد ذلك بشهرين معركة جديدة ضد حركة “حزم” في ريف إدلب الجنوبي وريف حلب الغربي، في فبراير/شباط عام 2015، بتهمة مساندة جبهة “ثوار سوريا” في الحرب السابقة، وأيضًا سيطرت على مواقع الحركة وسلاحها، وعادت جبهة النصرة من جديد لتكون قوة مركزية في المنطقة.
أزمة انتماء يتجاوز الحدود
كانت واحدة من أهم النقاط التي هوجمت جبهة النصرة من خلالها، أنها امتداد لتنظيم “القاعدة” ما يفقدها الطابع الوطني المحلي، ويَسمُها بالإرهاب، خصوصًا بعد إعلان قائدها الجولاني في تسجيل صوتي نُشر في يوليو/تموز 2014، إنشاء إمارة إسلامية، كان الهدف منه داخلي بحت، إذ كان موجهًا لعناصره المتبقين معه ليخبرهم أنهم أيضًا يقاتلون من أجل دولة إسلامية، بعد إعلان أبو بكر البغدادي تشكيل تنظيم “دولة الإسلام في العراق والشام داعش”، الأمر الذي كان له أثر سلبي على التنظيم لاعتبارات داخلية، كون النشطاء السوريين والمجتمع المحلي والفصائل الثورية، رفضت هذا المسمى عبر مظاهرات مناهضة وحملات على وسائل التواصل الاجتماعي، واعتبارات خارجية، ببقاء “جبهة النصرة” تنظيمًا إرهابيًا وفق دول مجلس الأمن والتحالف الدولي الذي شن هجمات استهدفت شخصيات قيادية في التنظيم، ليعلن أبو محمد الجولاني في يوليو/تموز من عام 2016، عبر فيديو يتوسطه هو، فك ارتباطه عن القاعدة بتشكيل جبهة “فتح الشام”، لكن ذلك لم يكن كافيًا ليزيله عن لوائح الإرهاب، كما أنه أدى إلى انشقاق داخلي جديد من بعض المخلصين لتنظيم القاعدة الذين شكلوا تنظيم “حراس الدين”.
أزمة الهيمنة
كان التحدي الأكبر أمام جبهة “فتح الشام” أن تكون المهيمنة الوحيدة فيما تبقى من مناطق خارج سلطة الأسد، لذلك وحتى بعد تشكيل جبهة “فتح الشام” لم تتوقف الاعتداءات على الفصائل الثورية الأخرى، حيث هاجمت الجبهة في فبراير/شباط من عام 2017، مقرات جيش المجاهدين في ريف حلب الغربي، ومقرات جيش الإسلام وتجمع فاستقم كما أمرت في ريف إدلب الشمالي قرب الحدود السوريا التركية، لتنتهي المعركة بسيطرة جبهة “فتح الشام” على مناطق هذه الفصائل، لينضمّ ما تبقى منها إلى حركة “أحرار الشام”، وحاولت بعد ذلك الجبهة أن توقف المعارك بعد أن أصبحت أكبر الفصائل الموجودة في المنطقة، وتقرر ابتلاع من تبقى منهم سلميًا، عبر إعلان تحالف جديد في يناير/كانون الثاني 2017 الذي حمل اسم هيئة “تحرير الشام” وضمت كلًا من “جبهة فتح الشام وجبهة أنصار الدين وجيش السنة ولواء الحق وحركة نور الدين الزنكي وبعضًا من حركة أحرار الشام” ما سبب إضعافًا للأخيرة نتيجة الانشقاقات الداخلية.
لكن ذلك لم يجنب هيئة تحرير الشام الوقوع في اعتداءات جديدة، فبعد انفصال حركة “نور الدين الزنكي” عن الهيئة والإعلان، مع ما تبقى من حركة “أحرار الشام” عن تشكيل جبهة “تحرير سوريا“، لم يرق ذلك لهيئة تحرير الشام التي اتهمت الزنكي بقتل عدد من قادتها في ريف حلب الغربي، وبدأت بحشد قواتها ضمن مناطق الحركة، ووقعت اشتباكات عنيفة بالمنطقة في فبراير/شباط 2018، استمرت لأكثر من شهرين انتهت بسيطرة هيئة تحرير الشام على الريف الغربي، وبذلك أصبحت الهيئة القوة المهيمنة الوحيدة في المنطقة وصاحبة الكلمة العليا.
تسلسل زمني من إعداد الزميل تمام أبو الخير يرصد مساعي جبهة النصرة في هيمنتها على الحالة الثورية بتفكيك فصائل الثورة وقمع أنشطتها
اعتمدت “هيئة تحرير الشام” على القوة العسكرية لفرض نفسها كقوة وحيدة في المنطقة، في محاولة لإجبار الدول التي تَسمُها بالإرهاب بالتعامل معها كأمر واقع، خصوصًا بعد تشكيل “حكومة الإنقاذ” التابعة لها في المنطقة، التي لم تلعب من دور الحكومة إلا فرض القوانين والضرائب التي تعود عليها بعائد مالي ضخم، لا يُستخدم في تقديم الخدمات للمجتمعات المحلية في المناطق التي تسيطر عليها. وتذكر الإحصاءات أن عائدات الهيئة أو حكومة الإنقاذ التي تهيمن عليها الهيئة، تقدر بـ10 ملايين دولار أمريكي من معبر باب الهوى وحده حسب عاملين سابقين في المعبر.
ومع انتشار هذه الأرقام الهائلة واستمرار حكومة الإنقاذ بفرض الضرائب ورفع أسعار البضائع والسلع، انفجرت شوارع إدلب وريفها، لرفض الوضع المعيشي المتردي والمطالبة بحياة أفضل، كانت بدايتها في مدينة إدلب التي عمّت المظاهرات شوارعها تهتف “جولاني ولاك ما بدنا إياك” و”ها ها هي هي الإنقاذ حرامية” وامتدت إلى قرى ريف إدلب.
لكن كان الوضع في مدينة كفرتخاريم بريف إدلب الشمالي أكثر حرجًا، خصوصًا بعد احتجاج الأهالي والنشطاء في المدينة على فرض “حكومة الإنقاذ” الضرائب على إنتاج الزيتون في المدينة، وخروجهم بمظاهرة مناهضة توجهت إلى هيئة “جمع الزكاة” وهي اللجنة في حكومة الإنقاذ المخصصة لجمع الزيت من المزارعين، وأحرقوا الدفاتر التي بحوزتهم وطردوهم من المدينة، كما طردوا عناصر المخفر التابع لهيئة “تحرير الشام”، وهو ما شكل تهديدًا وجوديًا للهيئة، فهي أمام اختبار إثبات مشروعيتها ووجودها كحكومة حقيقية وحيدة في المنطقة، ما دعاها لوصف المتظاهرين بالمفسدين واتهامهم بالسرقة وإطلاق الرصاص على لجانها، لتخلق ذرائعها لحشد قواتها بهدف اقتحام المدينة.
لم تكن الاتهامات التي وجهتها الهيئة للمتظاهرين ضدها حقيقية أبدًا، ولكن، كما في كل الكيانات الاستبدادية، ستختلق الأعذار والتهم، لتبرير انتهاكاتها بحق المجتمع، وبدأت فعليًا الهيئة باقتحام مدينة كفرتخاريم، وسط مظاهرات تتوالى في المناطق الأخرى في محافظة إدلب تنديدًا بذلك، وسكوت الفصائل الأخرى أو ما تبقى منها في المنطقة، أمام مذبحة جديدة تنفذها هيئة “تحرير الشام” لإثبات أنها الجهة المنظمة الوحيدة في المنطقة التي يجب على العالم أن يتعامل معها كحقيقة لا يمكن تجاوزها، وما زال المجتمع والفصائل الثورية أمام تحدٍ جديد، فالهيئة ستستمر في انتهاكاتها ما دامت تلقى حراكًا عامًا لا يتجاوز التفريغ عن الغضب بشكل منفرد وضياع الصوت في أفق أسود، ولا يهزّ وجود الهيئة بشكل حقيقي.