إنجاب الطفل الأول في الغربة، تجربة تحمل في طياتها الكثير والكثير من التغيرات في حياة أي أم، تصفها بعض من مررن بها بأنها “المغامرة الأكبر في الحياة” و”تحدي العمر”، وذلك لما تحمله من مصاعب ومخاطر وتحديات تمر بها الأم لأول مرة في حياتها.
لكن أن تمر الأم بهذه التجربة بين أمها وحماتها وأهلها وفي وطنها وفي ظل رعاية واسعة من الجميع، أمر يختلف تمامًا عمن تعيش هذه التجربة في الغربة وبعيدًا عن الأهل والأصدقاء والمساعدين، وانعدام اللغة والتواصل وما إلى ذلك من تحديات كبيرة على الصعيد النفسي والصحي والاجتماعي والتربوي.
“نون بوست” التقى مجموعة من الأمهات اللاتي خضن تجربة الطفل الأول في الغربة ببلاد غير عربية، روين تجاربهن “الصعبة”، وقدمن النصائح للأمهات الجدد في الغربة، كما نقل نصائح وإرشادات مختصين في الإدارة والتخطيط التربوي والرضاعة الطبيعية.
تجربة صعبة للغاية
الفلسطينية نورا شعث المقيمة في بلجيكا، تحدثت عن تجربتها الأولى للأمومة قائلةً: “هي تجربة صعبة بكل ما تحمله الكلمة من عذاب، لعدم وجود أقارب أو خبرة مسبقة، فمنذ بداية حملي كنت أتلقى بعض التعليمات والنصائح من إخوتي عبر الاتصالات فقط، واستمريت في تلقي المساعدة النظرية خلال فترة الولادة ورعاية الطفل في أيامه الأولى وفترة التطعيمات وحتى اليوم”، مضيفة: “عند التطعيم كانت ترتفع درجة حرارة طفلي وأحاول البقاء صامدة ولا أرتبك قدر المستطاع حتى أعرف كيف أتصرف معه، فأطلع على بعض المواقع وأقرأ من عدة مصادر وبالفعل أجد نتيجة فعالة للتعامل مع الموقف، ولكن بصعوبة بالغة”.
وتتابع نورا الأم لطفلين: “أواصل رعايتي لأطفالي دون كلل أو ملل أو حتى معرفة لطعم الراحة والنوم خاصة أنهم في عمر متقارب، فليس هناك مجال للراحة في أشد أوقات المرض، لا أحد ينوب عني ولا أجد من يخفف عني هذه المسؤولية، بل يجب عليّ تناسي المرض حتى ألبي حاجاتهما الأساسية”، مؤكدة على دور الزوج في دعم الزوجة والوقوف إلى جانبها والتخفيف عنها قدر الإمكان.
غريزة الأمومة بالنسبة للأم في طفلها الأول، هي صراع أحاسيس متباينة وحب مختلف لأول مرة وإحساس بالمسؤولية والخوف من كل شيء
إرشادات نظرية
ريحانة غضباني تونسية عاشت أشهر الحمل الأولى في تركيا وولدت طفلتها في الولايات المتحدة وتربيها الآن في تركيا، تروى تجربتها قائلة: “الحمل الأول كان تجربة قاسية، اضطررت للولادة القيصرية قبل إكمال شهري التاسع ودخلت طفلتي الحضّانة، كنت وحدي في حالة غريبة، فهذا حملي الأول بعيدًا عن أهلي، حتى بوقت الحمل كنت أنام من شدة التعب، هي مشاعر مختلطة من كل شيء ولا أقدر على فعل أي نشاط داخل أو خارج بيتي، وليست لدي مشكلة بالغربة نفسها بقدر المعلومات التي لا أعرفها عن الحمل وقبل وبعد الولادة”.
وتصف ريحانة تلك الفترة فتقول: “لم أعرف كيف أتغلب على الإرهاق الجسدي والنفسي في أول يوم ولادة، وكيف سأتعامل مع طفلتي التي ترفض الرضاعة مني أول ثلاثة أسابيع من حياتها، كنت أتلقى اتصالات من أهلي وأهل زوجي، وأتلقى إرشادات نظرية، لدرجة أنني يئست، لكنني استمريت في المحاولة حتى تمت عملية الرضاعة بنجاح”، “غريزة الأمومة بالنسبة للأم في طفلها الأول، هي صراع أحاسيس متباينة وحب مختلف لأول مرة وإحساس بالمسؤولية والخوف من كل شيء، تلقيت بعض المساعدة من صديقاتي وزوجي، وواجهت مواقف صعبة وغير مفهومة، فلم أكن أفهم لماذا تبكي الطفلة وكيف أتصرف معها، وتدريجيًا بدأت باكتساب خبرة التعامل مع الطفل، ولكن كل شيء يمر بصعوبة”، تقول ريحانة.
لا أقارب ولا أصدقاء ولا لغة
حنين أحمد فلسطينية مقيمة في تركيا أم لولد تصف حال الأمهات في الغربة قائلة: “لم نكن أنا وزوجي نريد إنجاب طفل في السنة الأولى من الزواج وفوجئت بخبر حملي بعد مرور ثلاثة أشهر، كان حملي متعبًا ونصحني الأطباء بالراحة التامة في السرير، افتقدت أمي كثيرًا، فقد كان زوجي لا يساعدني في أعمال المنزل بحجة ضغط عمله ولا يستوعب ألم الحمل ويظنه (دلع بنات)”، تقول حنين: “خلال فترة الحمل مررت بتغيرات هرمونية جعلتني حساسة جدًا، الأمر الذي لم يتقبله زوجي في البداية ولكن تدريجيًا بدأ يتقبل الأمر ويساعدني وأخذ هذه الحساسيات بعين الاعتبار، لكن العامل المشترك أننا أنا وزوجي لم نكن نمتلك الخبرة الكافية عن الحمل والولادة ولم يكن بجانبنا أحد لإرشادنا للتصرف الصحيح، كنا نتعلم عن طريق التجربة والخطأ”.
تضيف: “في أول يوم ولادة قيصرية كان طفلي يبكي بشدة ولا أعرف كيف أتصرف معه، حتى الممرضات لم يساعدنني في توجيه الرضاعة الطبيعية، صراخه كان عاليًا جدًا إلى أن أحضرت له الحليب الصناعي فأيقنت بعد ذلك أن وضعية الرضاعة كانت خاطئة، لم يكن هناك أحد من العائلة ولم يكن لدي صديقات متزوجات بعد، فلم يوجهني أحد، حتى الممرضة لم أتمكن من الحديث معها والتعلم منها، لم أكن أعرف اللغة التركية آنذاك”، وتختم حنين حديثها قائلة: “كأم علمتني الغربة مواجهة مشكلات الطفل من خلال القراءة عبر الإنترنت والاطلاع على الصفحات المتخصصة بالطفل والتواصل الدائم مع الأهل للحصول على بعض التوجيهات، والنصائح من أجل التعامل مع المواقف الصعبة والمتجددة في الحمل والولادة”.
نصائح وإرشادات
عن تهيئة الزوجين والاستعداد للمسؤوليات، تقول بتول حديفة المتخصصة في الإدارة والتخطيط التربوي لـ”نون بوست”: “الاستعداد لهذه المرحلة يكون مخططًا له قبل الزواج، من حيث حسن الاختيار بين الطرفين وضرورة التوافق بينهما، لأن إنجاب طفل يعني أنه سينعم بحياة عائلية مستقرة”.
وبيّنت حديفة أن مرحلة الربع الأول من الحمل للطفل تتطلب استقرار الحالة النفسية لأمه، لأن الاضطراب النفسي للأم يفرز هرمونات ضارة تؤثر على عقل الجنين داخل الجسم، وهذا له انعكاسات خطيرة على مستقبل الطفل صعب علاجها في كثير من الحالات مثل حالات الغضب والعصبية والنشاط الزائد، مشيرة إلى ضرورة التهيئة النفسية للأم في مرحلة الحمل وما قبلها، وتضيف “من العوامل النفسية الواجب مراعاتها أيضًا، السكن الصحي المريح وعدم التنقل خلال فترة الحمل من مكان لآخر، لما ينجم عنه من قلق وعدم توازن نفسي عند البعض أحيانًا، إلى جانب ذلك يجب تهيئة الأجواء العائلية والبُعد عن المشكلات الأسرية المختلفة، نظرًا لاختلاف الطباع في بداية العلاقة الزوجية بين الطرفين”.
يجب اتباع نظام غذائي في أثناء الحمل وخصوصًا في الأشهر الثلاث الأولى ويجب أخذ الفيتامينات قبل وفي أثناء الحمل لمنع حصول أي تشوهات في الجنين
كما أشارت الإخصائية التربوية إلى حالة الاكتئاب التي تصيب الزوجين وهو ما يستلزم من الطرفين تفهم هذا الشيء ودعم كل منهما الآخر مثل تقديم الهدايا وعمل أنشطة ما يمنحهما شعورًا بالسعادة والتجدد، وهو ما سينعكس إيجابًا على الصحة النفسية لهما ولطفلهما.
التأقلم والاندماج
وبخصوص كيفية التأقلم في الغربة تقول حديفة: “للتغلب على مشكلات الأمومة التي تواجه الأمهات في غربتهن عليهن تعلم لغة البلد التي يعشن بها، والتسلح بالقراءة من خلال الاطلاع المكثف على موضوعات الطفل منذ تكونه حتى استقباله، والتواصل مع أهل الزوجين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة أدق التفاصيل والأخذ بها كمرجع أول للزوجين خاصة قد تكون صفات وراثية مشتركة تظهر على شكل سلوك لأطفالهم مع مراعاة معيار الزمن والبلد المؤثر بمحيط الطفل، إضافة إلى ذلك تكوين العلاقات الاجتماعية التي هي عبارة عن زيارات صغيرة متبادلة بين الأمهات المتزوجات والاستفادة من تجاربهن قدر المستطاع، مما يعطي بعض الأفكار والحيل للأم”.
الرضاعة الطبيعة
أمل المصري منسقة المشاريع ورعاية صحة وتغذية الطفل في جمعية أرض الإنسان الفلسطينية تحدثت لـ”نون بوست” عن الأشهر الأولى وفترة الرضاعة، قائلة: “يجب إعطاء الطفل الحليب الطبيعي أو ما يسمى (حليب اللبأ) الذي يقوي الجهاز المناعي للطفل”، مضيفة: “ليحصل الطفل على الرضاعة الطبيعة بشكل سليم يجب على الأم أن تكون جالسة بشكل مريح، فإذا تألمت يعني أنها تقوم بالرضاعة الخاطئة لها ولطفلها، وهناك العديد من الرسومات التوضيحية والفيديوهات الخاصة بالرضاعة الآمنة”، مشيرة أن رفض الطفل للرضاعة الطبيعية سببه عدم اتباع الأم الجلسة الصحيحة وقلة معرفتها بطريقة الرضاعة المثالية”.
وشددت المصري على أهمية الرضاعة الطبيعية في عملية التنشئة النفسية السليمة للطفل في هذه المرحلة، لما تخلقه من علاقة حميمية مع أمه ومنحه الإحساس بالأمان، مشيرة إلى ما يعرف بـ”اكتئاب ما بعد الولادة” الذي يصيب كثيرًا من الأمهات نتيجة خلل هرموني يحدث بعد الإنجاب، حيث يحدث انخفاض في نسبة الهرمونات، ما يؤدي إلى الاكتئاب، وهو ما قد يدفع الأم إلى عدم الرضاعة، ويستلزم من الزوج تفهم هذا الشيء ومعرفة أن تلك حالة مؤقتة وستزول بمرور الوقت.
استمتاع الأم بطفلها في كل مرحلة هو شعور جميل من خلال تواصلها النفسي والجسدي معه في أثناء الحمل ثم الولادة
كما أكدت ضرورة مراقبة مراحل النمو في الشهور الأولى، والتعرف إلى تلك المراحل قبل ذلك من خلال قراءة الوالدين عن مظاهر تلك المراحل من خلال ردة فعل الطفل من المناغاة والسمع والبكاء، وإذا حدث خلل في أي من تلك المظاهر على الوالدين الإسراع إلى الطبيب لمعالجته في سن مبكرة.
وتقدم المصري مجموعة من النصائح، قائلة: “يجب اتباع نظام غذائي في أثناء الحمل وخصوصًا في الأشهر الثلاث الأولى ويجب أخذ الفيتامينات قبل وفي أثناء الحمل لمنع حصول أي تشوهات في الجنين، وتنويع الطعام وليس الإكثار منه، والتقليل من المنبهات وعدم التدخين أو الجلوس بجانب مدخن وممارسة الرياضة والمشي لإدخال الأكسجين للأم وطفلها، ويجب على كل أم مغتربة الالتحاق بمراكز تهيئة الحوامل للحصول على المعلومات والدعم النفسي من أجل استقبال طفل آمن”.
الاستمتاع بالأمومة
وعن لحظات الاستماع بالأمومة تقول المصري: “استمتاع الأم بطفلها في كل مرحلة هو شعور جميل من خلال تواصلها النفسي والجسدي معه في أثناء الحمل ثم الولادة، فيجب أن تحضنه وتقترب منه، ووضعه على بطن أمه بعد الولادة لأن هذا من شأنه أن يخفف صدمة انفصاله عن أمه، وينظم ضربات قلب الطفل”.
وعن الأمور التي تساعد في بناء علاقة جيدة بين الأم وطفلها تقول المصري: “يجب أن تتواصل الأم مع الطفل منذ الحمل ثم الولادة، وتتحدث معه، فالتواصل مهم لعملية تطور الدماغ واكتمال الحواس، فكلما تفاعلت الأم مع طفلها زادت الومضات وتحولت إلى خطوط تواصل ونسيج عصبي متكامل، فعندما يبتسم لأول مرة ويأكل الطعام وعندما ينطق أول كلمة “ماما”، وعندما تراه يخطو خطوته الأولى ويملأ البيت مرحًا وحياةً، سيزول وقتها كل شيء سيء وستكون مجرد ذكريات، فاستمتعي بأمومتك فلن تظل هذه المرحلة طويلًا فهي من أمتع مراحل الأمومة فلا تهدري الوقت وتخطي حاجز الخوف والصعوبات”.