كلما أتت ذكرى المولد النبوي نستمع إلى الكلمات التي تخبرنا أنه فور ولادة النبي -صلى الله عليه وسلم- خمدت نيران فارس وهي التي لم تخمد قبل ذلك بألف عام، وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفةً، وغارت بحيرة ساوة، وتنكست الأصنام في مكة!
في الحقيقة أن هذا لم يحدث فور ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، بل حدث كل ذلك في أوقات لاحقة بأيدي الرجال الذين بناهم رسول الله وقادهم وتركهم بعد وفاته على المنهج الحق الذي يدفعهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
حرية من لحظة ولادته
غير أن هناك حدثًا وقع فور ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، يمكننا اعتباره أول إنجازٍ تحققه ولادة نبينا الكريم، بل هو مرتكز كل ما جاء بعده من إنجازات ابتداءً من قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم “اقرأ” إلى أن قال له النبي “بل الرفيق الأعلى” ليفارق هذه الدنيا بعدها.
فعند ولادة النبي صلى الله عليه وسلم أسرعت “ثويبة السلمية” التي كانت جاريةً مملوكةً إلى سيدها ومالكها أبو لهب تبشره أن زوجة أخيه عبد الله الذي توفي في ريعان الشباب أنجبت ولدًا ذكرًا.
فرح أبو لهب فرحًا غامرًا ومضاعفًا بهذا الخبر الذي يتعلق بأخيه المتوفى، وأعلن أنه أعتق ثويبةً مكافأةً لها على هذه البشارة الكبيرة، وهكذا غدت ثويبة حُرةً من الرق والعبودية، وكان أول إنجاز تحقق بولادة النبي صلى الله عليه وسلم هو تحرير العبيد من الرق ونيل الإنسان أغلى ما يطلبه في هذه الحياة: الحرية.
بين ربعي عامر ورستم
إن حرية الإنسان من قيود الرق والعبودية لإنسان مخلوق مثله، وكسر أغلال الخضوع كان أول إنجازات ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك كانت الرسالة الخالدة لإخراج الإنسان من قهر العبودية والخضوع لأي مخلوقٍ في هذا الكون.
وهذا ما تربى عليه الصحب الكرام الذين ولدت حريتهم مع استنشاقهم الضياء الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي معركة القادسية أرسل قائد الفرس رستم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يطلب منه إرسال وفدٍ ليفاوضه، فاختار سعدٌ رجلًا يتنفسُ الحرية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ لحظة ولادته الأولى واسمه ربعي بن عامر.
انطلق ربعي بن عامر بسلاحه ولباسه المتواضع حتى دخل على رستم الذي سأله: ما الذي جاء بكم؟! فأجابه ربعي بكل وضوحٍ في الرؤية: “إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”، هكذا عبّر ربعي بن عامر عن الغاية من الرسالة بكل وضوح وبساطة، إنها من أجل كسر خضوع الإنسان للإنسان والقضاء على عبودية الطغاة لشعوبهم، ومن أجل أن يعيش الناس في رحاب العدل سواسيةً أحرارًا.
هلا مع صاحب الحق كنتم؟!
لقد ربى رسول الله صلى عليه وسلم جيلًا كاملًا على أن يكونوا أحرارًا في مواقفهم، أحرارًا في قناعاتهم، أحرارًا لا يخضعون إلا لله تعالى، ينصرون الحق دون اعتبارٍ للشخص، فحريتهم تقتضي خضوعهم للحق وحده يدورون معه حيث دار.
ذات مرة جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينًا كان عليه، فاشتد عليه، حتى قال له: أُحرِجُ عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه، وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟! قال: إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “هلا مع صاحب الحق كنتُم؟!”.
من أراد أن يعيش ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يتحسس الحرية في نفسه، حريته هو من قيود الطغاة والمجرمين، وعمله من أجل تحرير الإنسان من الخضوع لأغلال الرق كلها
ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: “إن كان عندك تمرٌ فأقرضِينا حتى يأتينا تمرُنا فنقضيك”، فقالت: “نعم، بأبي أنت يا رسول الله”، فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال الأعرابي: “أوفيت، أوفى الله لك”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أولئك خيار الناس، إنه لا قُدست أمةٌ لا يأخذُ الضعيف فيها حقه غير مُتعْتع”.
لا ولادة بلا حرية
فمن أراد أن يعيش ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يتحسس الحرية في نفسه، حريته هو من قيود الطغاة والمجرمين، وعمله من أجل تحرير الإنسان من الخضوع لأغلال الرق كلها، ولا يمكن أن تتحقق فينا الولادة الحقيقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بمقدار عتقنا من الخضوع لأغلال المخلوقين وظلمهم وعدوانهم، وانطلاقنا في فضاء الحرية الأرحب.
أما الذين يترنمون بحب النبي صلى الله عليه وسلم ويحتفلون بمولده وهم خاضعون بإرادتهم لاستبداد المجرمين ومستسلمون للرق برغبتهم، فمثلهم كمثل الغارق في مستنقع من النجاسة باختياره لكنه لا يكف عن إنشاد الأشعار في جمال الطهرِ والنقاء، إنهم تمامًا كما قال الله تعالى فيمن لا يفيدون من النور الذي بين أيديهم {كمثلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارًا بِئْس مثلُ الْقوْمِ الذِين كذبُوا بِآياتِ اللهِ واللهُ لا يهْدِي الْقوْم الظالِمِين}.