كثيرة هي قصص اللاجئين السوريين في تركيا التي تتمحور حول ظروف المعيشة الصعبة والأعمال الشاقة وأمور الإقامة، علاوة على عدم التأقلم على نمط الحياة الجديد في المجتمع التركي، لكن اليوم نتحدث عن قصة نجاح لزوجين سوريين بدءا حياتهما العملية من الصفر.
مهندس الإلكترونيات محمد يوسف الأظن (55 عامًا)، وزوجته سمر الملاح (50 عامًا)، لهما تجربة فريدة من نوعها في تركيا، حيث قدما من سوريا منذ أعوام ومعهما 4 أبناء، تاركين وراءهما حياتهما الهادئة والمستوى الاجتماعي المرموق، لتبدأ صفحة جديدة في حياتهما بإسطنبول!
في سوريا
كان المهندس يوسف يعمل مديرًا لشركة إلكترونيات على مدار الـ15 عامًا الماضية وزوجته ربة منزل، وكانت حياتهما جيدة جدًا، حيث الارتياح المادي والاستقرار وامتلاك منزل وسيارة والمكانة الاجتماعية العالية.
تصاعدت وتيرة الأحداث المشهودة في سوريا بعد عام 2011، وتملك الخوف مع عدم الشعور بالأمان حياة أهالي الشام الذين نزحوا بأعداد هائلة إلى تركيا والدول المجاورة، لكن عائلة المهندس يوسف قررت البقاء وعدم المجازفة بترك المنزل والعمل والجامعات رغم حالة التوتر الشديدة.
لكن في عام 2015 اعتقل نظام الأسد يوسف، وبعد الإفراج عنه قرر الزوجان ترك الشام والنزوح إلى تركيا عبر بيروت، وترك يوسف العمل وضحى أبناؤه بجامعاتهم بحثًا عن الأمان، في رحلة عادية لم تواجه المتاعب.
البداية في تركيا
بطبيعة الحال كانت مسألة التأقلم في المجتمع التركي صعبة على هذه العائلة، “خصوصًا ونحن جئنا وانتقلنا من مرحلة ارتياح وبحبوحة مادية إلى مرحلة صعبة جدًا، وهنا من الصعب جدًا أن تفرض نفسك بين الأتراك لحالة الانغلاق التي يعيشونها، فضلًا عما كونوه من صورة سيئة عن السوريين بسبب التصرفات المشينة من بعض السوريين، لكن حاولت وأسرتي تغيير هذه الصورة في الوسط من حولي” بحسب تعبير يوسف.
ويضيف: “حياتنا في أول فترة في تركيا كانت مقبولة، لأننا كنا قد ادخرنا بعض الأموال التي ساعدتنا على العيش بشكل جيد، لكنها لا تكفي للعمر كله، وحاولت بعدها العمل في مجال تخصصي الأصلي وقدمت لعدة شركات، لكن واجهتني مشكلة إتقان اللغة التركية وكذلك إقامة العمل، ومن المعروف أن بعد مرحلة عمرية معينة يصبح من الصعب إتقان لغة جديدة”.
تجارب غير ناجحة
أصبح من المحتم على المهندس يوسف العمل أو خلق فرص عمله بيده، وهذا ما شجعته زوجته عليه وهي التي كانت تبحث معه وبرز دورها هنا، فبدأ الزوجان بالعمل على مشروع زراعي مع أحد المهندسين الزراعيين، ولكن لنقص الخبرة في هذا المجال فشل المشروع وخسرا فيه مبلغًا كبيرًا.
بعد النهوض مرة أخرى، دخلا إلى العمل في مجال الألبسة الذي على الرغم من أنهما قطعا فيه مراحل جيدة، تعرضا لعملية احتيال من بعض منتجي الألبسة، بحسب وصفهما، فتوقفا عن العمل هنا حتى لا تزيد الخسائر، كما كان لنقص الخبرة أيضًا دور في الفشل مرة أخرى.
النجاح في المذاق الشامي
دخل يوسف وسمر إلى القطاع الغذائي “الذي لم يكن في الحسبان”، وبمحض الصدفة، ففي يوم من الأيام جاءت ابنتهما من عملها تشتكي من سوء تناول الأطعمة الجاهزة كل يوم، وكذلك الحال مع زملائها، فطلبت من والدتها أن تصنع لهم وجبة غذاء سورية، فنالت استحسان الموظفين ووصفوه بأنه “يشبه طعام أمي”، فاقترحوا على الأب والأم أن يتعاقد مكتبهم معهما بشكل يومي، على إرسال الوجبات الشامية المنزلية لهم.
انتشرت هذه الفكرة بين الوسط المحيط من خلال هذا المكتب، وعبر الوسائل البسيطة كالفيسبوك وواتساب، حتى قرر الزوجان تأسيس مشروعهما الخاص ومطبخهما المتواضع من المنزل بالمعدات الموجودة، وما شجعهما على ذلك كونهما يعيشان في منطقة الفاتح بإسطنبول، الممتلئة بالسوريين والمغتربين العرب عن أهاليهم والمكاتب والشركات.
من صديق لصديق، ومن مكتب لآخر، اشتهر الطعام الذي يصنعه الزوجان في مطبخهما وتعاقدا مع جهات كثيرة لبيع الوجبات الشامية، وأطلقا اسم “كراديش” – باقتراح من ابنتهما الأخرى – على مشروعهما المنزلي، وكراديش تعني “قطع اللحم الكبيرة، وتدل على السخاء والوفرة”.
قدمت كراديش مئات الوجبات لطلاب الجامعات والمغتربين بأسعار مميزة بنكهة الأم، فتقول السيدة سمر: “وجدت نفسي أؤدي دور الأم لكل شاب وشابة يتناول الطعام من مطبخنا، ويتذوق من أكلنا، أقدم لهم مع طبق العام كل المعاني الجميلة، بالأخص للمغتربين عن أهاليهم”.
التوسع في السوق
يقول يوسف: “بحمد الله انتشر اسم مشروعنا بشكل جيد جدًا، داخل إسطنبول وخارجها، والسبب في ذلك أن الكثير من الإعلاميين أصبحوا زبائن لنا، وساعدونا في وصول فكرتنا للناس عبر المقابلات التليفزونية والإذاعية، حتى إن هناك محطات دولية تحدثت بهذا الخصوص، كإذاعة بوسطن الأمريكية، بعد أن تذوقت مراسلة القناة طعامنا”.
يتابع يوسف لنون بوست: “اليوم أصبحنا نلبي طلبات الولائم في الحفلات والمناسبات والمؤتمرات، فالكثير من المؤسسات والشركات تستدعينا كمطبخ للأكل السوري، ويتذوق طعامنا العرب والأتراك والأجانب، وننوي تشبيك العمل مع الفنادق”.
وفي آخر تنظيم لحفلة طعام “لكراديش” حضرها ممثلون من وزارة الخارجية الأمريكية في إحدى المؤسسات التي تمول المشاريع الصغيرة في إسطنبول، تقول السيدة سمر:”أعجبوا كثيرًا بالأكل السوري الذي قدمته مع زوجي، ووعدوا بتمويل مشروعنا حتى يكبر أكثر”.
كيف نجح المشروع دون الآخرين؟
السبب الأول هو التأقلم، فكثيرًا ما تفشل المشاريع في إسطنبول أو أي مكان آخر، نظرًا لعدم تقبل الواقع الجديد والتأقلم فيه، وهذا تمامًا ما أدركه المهندس يوسف، فهو انتقل من مجال إلى مجال آخر، ومن موضع المدير إلى رائد مشروع صغير، لكنه يقول: “استطعت مع زوجتي تجاوز هذا التغير والصعوبات، بالتأكيد هو ليس بالأمر السهل، لكن بعون الله وشدنا لأزر بعضنا البعض، فتعاملنا مع الموقف بكل مرونة، إضافة لكوني أحب التغيير، وأعمل في أي عمل لأثبت نجاحي فيه”.
السبب الثاني هو عدم التسرع في الحكم، يقول الزوجان إنهما اتفقا على أن لا يتوقفا عن العمل أو يحكما على نجاح المشروع من فشله، إلا بعد انقضاء عام كامل لمعرفة الإيجابيات والسلبيات، لتكملة المشروع أم إيقافه.
أما بالنسبة لمعيقات العمل، فيقول يوسف: “العمل في المنزل يضايق الجيران من حولنا، الذين اشتكوا من طبخنا في المنزل، رغم وجود مستلزمات المطبخ “كالمنور مثلًا”، لذلك نبحث الآن عن مكان للعمل بعد أن يتوافر المبلغ الكافي، إضافة إلى أن أغلب المعدات الموجودة في مطبخنا هي معدات منزلية عادية”.
كما أن إمكانية الدخول المباشر للسوق التركية يعتبره الزوجان عائقًا أمامها أيضًا، وذلك لصعوبة تقبل معظم الوسط التركي الأكل السوري، فبالتالي لا يشجعون على طرح منتجاتهما، فيقول يوسف “على سبيل المثال المحلات الكبرى في تركيا كتشوك و101 والبيم، حتى اللحظة لا تجدهم يبيعون الخبز السوري على الرغم من كثرة الطلب عليه، خصوصًا في أماكن وجود العرب، على عكس البلدان الأخرى”.
يتابع يوسف حديثه أنه رغم إعجاب الكثير من الأتراك بطعامهما، فإن عملية شراء الأتراك منهم نادرة، “لكن ننوي شيئًا فشيئًا الدخول إلى السوق التركية، وتطوير الإستراتيجية الخاصة بنا”.
أما سمر فتختم حديثها لنون بوست عن قصتها وزوجها مع مشاريعهما بالقول: “المرأة أثبتت في الغربة وفي الظروف التي مرت بها المنطقة، بأن لديها قدرات هائلة تستطيع من خلالها إنجاز عمل عظيم، ولا يعيقها شيء، سواء كان العمر أم الشهادة، في أي مجال من المجالات، وهذا ما يعلمه زوجي، وتشجعنا لإنشاء مشروعنا معًا لنرى النجاح من الصفر”.