تواصل حكومة سودان ما بعد الثورة مساعيها لمواجهة التحديات التي خلفها نظام حكم عمر البشير طيلة السنوات الماضية التي وضعت اقتصاد البلاد في وضعية صعبة تحتاج إلى رؤية خاصة لتلبية طموحات الشارع الذي انتفض في سبتمبر الماضي ضد الأوضاع المتردية التي خيمت على الجميع.
ورغم حزمة التحديات التي تواجه حكومة عبد الله حمدوك على المستويات كافة، فإن الاقتصاد يشغل الحيز الأكبر منها، فكما كان نقطة اشتعال الحراك الذي أطاح بالنظام السابق فهو كذلك الضمانة الحقيقية للإبقاء على مكتسبات الثورة، ومن ثم تضعه الحكومة على رأس أولوياتها.
وزير المالية السوداني إبراهيم البدوي يقول إن بلاده تحتاج إلى ما يصل إلى 5 مليارات دولار دعمًا للميزانية لتفادي انهيار اقتصادي، وإنها ستدشن عددًا من الإصلاحات خلال الفترة المقبلة، لافتًا إلى أن السودان يملك احتياطات نقد أجنبي تكفي فقط لتمويل الواردات لعدة أسابيع، حسبما ذكر في تصريحاته لـ“رويترز” أمس الجمعة.
أزمة متفاقمة
يعاني السودان من أزمة خانقة في الموارد على رأسها ثروته النفطية التي خسر معظمها مع انفصال الجنوب في 2011، ووفق ما ذكر وزير المالية فإن البلاد تتلقى بعض الدعم لواردات الوقود والقمح، غير أن نحو 65% من شعبه البالغ تعداده 44 مليون يعاني من الفقر، ويحتاج إلى تمويل تنموي بقيمة تصل إلى ملياري دولار بجانب ملياري دولار من المأمول الحصول عليها من صناديق تنموية عربية.
علاوة على ذلك فقد تسببت الاحتجاجات التي عمت البلاد طيلة العام الأخير في حدوث موجات كبيرة من زيادة أسعار الوقود والخبز، تزامن ذلك مع نقص كبير في السيولة النقدية، وعليه فهناك حاجة ملحة لزيادة رواتب موظفي القطاع العام وإنشاء شبكة دعم للوقود والأغذية.
وتعليقًا على خطط الإصلاح أضاف الوزير “بدأنا العملية (الإصلاحات).. الشعب السوداني يستحق أن يُنظر إليه من منظور مختلف تمامًا مقارنة مع ما اعتاد المجتمع الدولي أن يستخدمه للنظر إلى السودان، كدولة تحكمها حكومة منبوذة”، منوهًا أن بلاده بحاجة ماسة لإنتاج الخبز من الذرة المُنتجة محليًا لاستيراد كميات أقل من القمح.
حالة من الترقب المشوب بالقلق تخيم على الكثير من المواطنين جراء فاتورة الإصلاح المزعومة
هذا بخلاف ما تأمله الحكومة بشأن انتهاء الفارق بين سعر الصرف في السوق الرسمية والسوق السوداء بحلول يونيو/ حزيران، إذ انخفضت العملة المحلية (الجنيه السوداني) هذا الأسبوع إلى 80 للدولار في السوق السوداء، مقارنة مع سعر الصرف الرسمي البالغ 45 جنيهًا للدولار.
واختتم الوزير مقابلته بالإشارة إلى أن ميزانية 2020 ستتضمن أهدافًا تنموية مستدامة للتعليم والرعاية الصحية والإنفاق الاجتماعي، بما يشير إلى أن السودان ربما يتحرك بعيدًا عن هيمنة الإنفاق العسكري مما يخنق التنمية، وردًا على سؤال عن مقدار دعم الميزانية المطلوب للعام المقبل، قال “بعض التقديرات تقول ما يتراوح بين ثلاثة وأربعة مليارات (دولار)، ربما حتى خمسة مليارات دولار”، ليبقى السؤال الأبرز: من أين؟
مصادر توفير الدعم
في المقابل أشار خبراء إلى أن الاقتصاد السوداني يحتاج ضعف هذا المبلغ لوقف التدهور الذي شهده بسبب السياسات الفاشلة، وهو ما أشار إليه على سبيل المثال الأكاديمي والخبير الاقتصادي عبد العظيم المهل الذي كشف أن أولى الدفعات العاجلة التي يحتاجها الاقتصاد تتمثل في دعم خزينة الدولة بعملات أجنبية بمبلغ 8 مليارات دولار خلال عامين لتغطية العجز في ميزان المدفوعات لمدة عامين.
وأضاف المهل أن ذلك يضمن استقرار سعر صرف الدولار مقابل الجنيه السوداني، إضافة إلى استقرار التضخم، وبالتالي تستطيع الدولة تنفيذ المشاريع الحقيقية والأساسية، مؤكدًا أنه إذا أُنجز ذلك، يمكن أن تصل الصادرات السودانية خلال ثلاث سنوات إلى 100 مليار دولار من خلال التركيز على القطاع الزراعي البستاني الممثل في التمور والأعلاف.
وسواء كان المبلغ المطلوب 5 مليارات دولار أم 8 مليارات، فإن هناك ثلاثة مسارات رئيسية أمام حمدوك ووزرائه لتوفير الميزانية اللازمة لتحقيق الأهداف المنشودة، كل منها على حدة يحمل سلاحًا ذا حدين، وكما أنها خيارات إستراتيجية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذا الوقت المتأزم فإنها في الوقت ذاته تحمل مؤشرات ودلالات ربما تكون سببًا في تصعيد الرفض الشعبي ضد الحكومة الحاليّة.
1. الاقتراض من المؤسسات الدولية
وفي هذا الشأن أوضح البدري أن أول خبراء من المؤسسات الدولية وصلوا إلى الخرطوم للمساعدة في الإصلاحات، منوهًا أن وفدًا من صندوق النقد الدولي سيصل هذا الشهر من أجل إجراء مشاورات بشأن بعض المواد المتعلقة بالحصول عل قرض دولي.
الحكومة كشفت كذلك أن الاتفاق مع الصندوق تطرق إلى أن لا يضطر السودان إلى سداد مستحقات متأخرة بقيمة ثلاثة مليارات دولار لمؤسسات دولية، فكما جاء على لسان وزير المالية: “لا نحتاج إلى سداد أي شيء. ما نحتاجه في الواقع هو تنفيذ السياسة”، مع الوضع في الاعتبار أن الديون الإجمالية للبلاد بلغت هذا العام 60 مليار دولار.
هذا السيناريو ربما يكون الأقرب إلا أنه يتضمن مخاطر عدة بشأن مستقبل السودان المالي، إذ من المحتمل أن يوقعه فريسة لإملاءات وشروط الصندوق الدولي القاسية، التي قد تأتي على حساب القرار السياسي والسيادي للدولة وهو ما كان شعارًا ثوريًا للمحتجين في الشارع طيلة الأشهر الماضية.
ذهب البعض إلى أن المنح السعودية الإماراتية كانت ثمنًا لمشاركة القوات السودانية في حرب اليمن، هذا بخلاف تنفيذ أجندة البلدين في السودان
2. المنح والمعونات
تمثل المنح التي يحصل عليها السودان من الأشقاء والحلفاء ورقة مهمة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهي الإستراتيجية التي اتبعتها الأنظمة الحاكمة في البلاد على مر سنوات طويلة مضت، ومن المقرر أن يُعقد اجتماع للمجموعة المانحة “أصدقاء السودان” في ديسمبر/كانون الأول، لبحث سبل دعم البلاد في مأزقها الحاليّ.
في أبريل الماضي حصل السودان على ما يقرب من 3 مليارات دولار من السعودية والإمارات لدعم وارادت الوقود والقمح، هذا بخلاف تعهد كل الدول العربية والشرق أوسطية الأخرى بتقديم منح ومعونات لتحسين الأوضاع المعيشية للبلاد، وهو ما تؤمل عليه الحكومة خلال اجتماع ديسمبر المقبل.
تخوفات عدة تساور الشارع السوداني جراء هذا السيناريو الذي يراه البعض ثمنًا لمواقف سياسية بعينها، إذ ذهب البعض إلى أن المنح السعودية الإماراتية كانت ثمنًا لمشاركة القوات السودانية في حرب اليمن، هذا بخلاف تنفيذ أجندة البلدين في السودان لا سيما فيما يتعلق بمناهضة النفوذ التركي القطري، بجانب الإيراني بالطبع.
حالة من الرفض التام تسيطر على شريحة كبيرة من السودانيين لتكرار إستراتيجية البشير في التعامل مع خريطة التحالفات، التي كانت تخضع في النهاية إلى حسابات الربح والخسارة، وهو ما جعل القرار السوداني تابعًا لإملاءات عواصم بعينها على مدار سنوات طويلة مضت، ومن ثم فهم لا يريدون بلادهم في قبضة المانحين.
3. خفض الدعم
أورثت حكومة البشير، على مدار 30 عامًا، نظيرتها الجديدة تركة اقتصادية مثقلة بالأزمات المعيشية تتجلى في شح مستمر في السلع الإستراتيجية، وهبوط متواصل في العملة الوطنية، فضلاً عن شح السيولة في الأسواق، وعليه فإن الحصول على اقتصاد مستقر يتطلب بعض الإجراءات على رأسها رفع الدعم عن السلع الإستراتيجية وفي مقدمتها المحروقات والقمح، أولى الخطوات نحو الاصلاح الاقتصادي.
وبحسب إحصاءات حكومية سابقة، فإن قيمة الدعم على المحروقات بجميع مشتقاتها يصل إلى 2.250 مليار دولار سنويًا، فيما يصل الدعم للقمح 365 مليون دولار، وتشمل السلع المدعومة المحروقات (البنزين، الجازولين، وغاز الطبخ)، إضافة إلى القمح والأدوية.
ورغم رسائل الطمأنة التي قدمها حمدوك للشارع السوداني بشأن رفع الدعم عن السلع خلال لقاء تليفزيوني له الشهر الماضي حين أكد “لا مخاوف من روشتة صندوق النقد الدولي المتعلقة بتنفيذ إصلاحات اقتصادية في البلاد”، إلا أن حالة من الترقب المشوب بالقلق تخيم على الكثير من المواطنين جراء فاتورة الإصلاح المزعومة.
يحمل هذا الخيار بداخلة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت إذا ما لمس الشارع إجراءت قاسية ربما لا يستطيع تحملها، الأمر الذي قد يدفعه للنزول إلى الساحات والميادين مرة أخرى، وهو ما تخشاه الحكومة وتعي خطورته جيدًا، ما يصعب موقفها ويضيق مساحة الخيارات أمامها لتوفير المليارات المطلوبة لتجنيب الاقتصاد مرحلة الانزلاق.
سيناريوهات ثلاثة ربما تبعد السودان قليلا عن عنق الزجاجة لكنها في الوقت ذاته تحمل في رحمها ملامح جنين مشوه، ربما يبعد أكثر وأكثر – حال ولادته – المسافات بين السودانيين والحكومة، وهو ما يضع الأخيرة في تحد أمام نفسها لتحقيق التوازن الصعب بين توفير الاعتمادات المالية دون استثارة غضب الشارع.. فهل ينجح حمدوك بعلاقاته وخبراته الكبيرة في تحقيق هذه المعادلة؟