في كل مرة، تظن الحكومة المغربية أن ملف حراك الريف طوي ونسي، يخرج مجددًا ويتصدر الرأي العام المحلي كأنه بدأ بالأمس رغم مرور 3 سنوات على انطلاق أحداثه في مدينة الحسيمة شمال البلاد، فكيف تحرك الريفيون هذه المرة؟
الزفزافي مجددًا
عودة ملف الريف إلى الواجهة هذه المرة جاءت عقب تسجيل صوتي مسرب هو الأول من نوعه لزعيم الحراك ناصر الزفزافي منذ اعتقاله قبل عامين ونصف، أعلن فيه تعرضه للتعذيب، وقال الزفزافي في التسجيل المسرب إنه تعرض “للضرب والركل والرفس واغتصاب بعصا” في أثناء مداهمة البيت الذي أوقف فيه في مايو 2017.
وأكد الزفزافي في هذا التسجيل المطول مواقفه الخاصة باعتبار منطقة الريف، شمال المغرب، ضحية لظلم تاريخي من جانب السلطات، وتبرأ فيه بالمقابل من حادث حرق العلم المغربي الذي شهدته مسيرة احتجاجية، نظمت السبت الماضي بالعاصمة الفرنسية باريس، بدعوة من السجناء.
برز الزفزافي بصفته “زعيم الحراك” مع انطلاق الاحتجاجات في مدينة الحسيمة، حيث استطاع بفصاحته أن يجمع الناس حوله ويقود الحراك
انتشر التسجيل الذي دامت مدته ساعة و26 دقيقة، على نطاق واسع بين رواد ونشطاء الشبكات الاجتماعية مباشرة عقب نشره في إحدى صفحات “فيسبوك”، ما سبب إحراجًا كبيرًا للسلطات المغربية، خاصة في سجن رأس الماء بمدينة فاس (شمال).
نهاية يونيو/حزيران الماضي، أصدرت محكمة مغربية حكمًا بالسجن 20 عامًا على ناصر الزفزافي، قائد الاحتجاجات الشعبية أو “الحراك الشعبي” في منطقة الريف، وأدانته المحكمة بعدة اتهامات بينها تدبير “مؤامرة للمس بسلامة الدولة الداخلية، عن طريق التحريض بارتكاب اعتداء الغرض منه إحداث التخريب والقتل في أكثر من منطقة، وكذا التحريض علنًا ضد وحدة المملكة المغربية وسيادتها، وزعزعة ولاء المواطنين للدولة المغربية”.
واعتقلت السلطات المغربية أيقونة الحراك، الزفزافي، 39 عامًا، في مايو/أيار 2017، بعد تنظيم مظاهرات بمسقط رأسه في مدينة الحسيمة، التي عُرفت بعد ذلك باسم “الحراك الشعبي” بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
وبرز الزفزافي بصفته “زعيم الحراك” مع انطلاق الاحتجاجات في مدينة الحسيمة، حيث استطاع بفصاحته أن يجمع الناس حوله ويقود الحراك، ومنذ ذلك الحين أصبح يعرف إعلاميًا بزعيم حراك الريف، حيث أصبح حاضرًا في كل اللحظات، يقود المسيرات ويخطب في الجماهير وتتداول تصريحاته وسائل الإعلام المحلية والدولية، وكثيرًا ما كان هذا الشاب يردد أنه يسير على نهج الزعيم المغربي الكبير محمد عبد الكريم الخطابي في التحرر والوقوف ضد الظلم والدفاع عن المهمشين.
ركز قائد الحراك في خطاباته ببداية الحراك الذي بدأ في أكتوبر/تشرين الأول سنة 2016، على التهميش الذي يعانيه الريف المغربي وسكانه وانعدام التنمية هناك وانتشار البطالة والظلم والفقر وفساد الحكومة، حسب وصفه، ثم بدأت نبرة خطاباته تزداد حدة، فبدأ يوجه نقده للمخزن والملك المغربي محمد السادس مباشرة.
السجن الانفرادي وإجراءات تأديبية أخرى
عقب هذا التسجيل المسرب، سارعت السلطات المغربية إلى معاقبة عدد من الموقوفين، حيث اتخذت المندوبية العامة لإدارة السجون “إجراءات تأديبية” بحق عدد من موقوفي الحراك (لا يعرف عددهم) بينهم قائده ناصر الزفزافي تضمنت الحبس الانفرادي وحرمانهم من التواصل مع ذويهم هاتفيًا لمدة 45 يومًا.
ونفت المندوبية العامة لإدارة السجون بالمغرب تعرض الزفزافي للتعذيب، ووصفت الاتهامات بـ”الكاذبة”، وقالت المندوبية، في بيان لها: “السجناء على خلفية أحداث الحسيمة لم يتعرضوا إطلاقًا لأي تعذيب أو معاملة سيئة”.
هذه التطورات الأخيرة في ملف حراك الريف، من شأنها تأجيج الأوضاع في بعض المناطق الساخنة بالمملكة المغربية، ما يستدعي ضرورة تحرك السلطات للاستجابة لمطالب المحتجين
كما أشارت المندوبية في بيانها إلى أن سجناء “حراك الريف” اعتدوا على عدد من موظفي المؤسسة، رافضين تنفيذ الأوامر بالدخول إلى زنازينهم، وجرى اتخاذ “إجراءات تأديبية في حقهم ووضعهم في زنازين التأديب”.
من جهتها، رفضت الحكومة المغربية، أمس الخميس، التعليق على هذه “الإجراءات التأديبية” التي فرضتها المندوبية العامة لإدارة السجون بحق عدد من موقوفي حراك الريف، وقال حسن عبيابة وزير الثقافة والشباب والرياضة الناطق باسم الحكومة المغربية، ردًا على سؤال عن الموضوع، في المؤتمر الصحفي الأسبوعي لمجلس الحكومة، الخميس: “لا نتوافر على عناصر الإجابة الكافية”، من دون تقديم تفاصيل أكثر.
“الشعب يريد سراح المعتقل”
بعد هذه الإجراءات، صعّد أهالي الريف، خاصة أقارب وعائلات معتقلي الحراك، حيث تجمعوا أمس الجمعة، في وقفة احتجاجية أمام مقر إدارة السجون المغربية بالرباط للتنديد بما حصل لذويهم، والمطالبة بـ”إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين”، وردد المتظاهرون شعارات “الشعب يريد سراح المعتقل” و”عاش الريف”، رافعين صور المعتقلين الست الذين نقل ثلاث منهم إلى سجون أخرى، وقرروا جميعًا الدخول في إضراب عن الطعام احتجاجًا على الإجراءات المتخذة في حقهم بحسب ما يؤكد ذووهم.
واعتبر والد الزفزافي أن المعتقلين الست “يعاقبون لأن ناصر حرص على نشر ذلك التسجيل ليقول لأصحاب القرار والشعب المغربي إننا لسنا انفصاليين ولم نكن انفصاليين يومًا، وأنه يدين إحراق العلم المغربي”، في إشارة لما حصل في أثناء مظاهرة نظمها متضامنون مع معتقلي الحراك بباريس أواخر أكتوبر/تشرين الثاني الماضي.
بدوره عبّر “الائتلاف الديمقراطي من أجل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفك الحصار عن الريف” عن قلقه من “التطورات الناتجة عن المتابعات التأديبية، المتخذة من طرف مندوبية السجون في حق سجناء حراك الريف”.
ورأت الباحثة المغربية في الشؤون السياسية شريفة لموير في تصريح لنون بوست أن التصعيد الذي عرفه ملف حراك الريف ساهم في تأزيم الوضع أكثر مما هو عليه، خصوصًا بعد التسجيل الصوتي المنسوب لناصر الزفزافي الذي أراد من خلاله تفنيد مزاعم الانفصالية والتنديد بحرق العلم الوطني لكنه في نفس الوقت سرع من تطور هذه القضية وأججها أكثر بعد ادعاءات التعذيب التي صرح بها.
تردٍ حقوقي
هذا التسريب الأخير من داخل السجن الذي يقبع فيه ناصر الزفزافي ومعتقلو الحراك، وضع أمن السجن في شبهة تعذيب والحط من كرامة المسجونين، وفق الباحث الاجتماعي عمر المروكي، ويحيل هذا وفق مروك على نوع من التردي الحقوقي وخرق لحقوق السجناء الذين يؤكدون في كل مرة أنهم ليسوا انفصاليين ومطالبهم بالحرية والعدالة والكرامة هي مطالب مشروعة.
ويؤكد الباحث المغربي أن “مطالب هذه المرة، طغى عليها البُعد الحقوقي بامتياز، حيث شاركت في الاحتجاجات جهات حقوقية وممثلو بعض الأحزاب، فضلاً عن أهالي المعتقلين، منشدين بصوت واحد: لا لتعذيب السجناء”.
بدأ “حراك الريف” خريف 2016، احتجاجًا على حادث أودى ببائع السمك محسن فكري، وقد حملت الاحتجاجات في بدايتها مطالب اجتماعية واقتصادية، إلا أن السلطات اتهمت المحتجين بخدمة أجندة انفصالية والتآمر للمس بأمن الدولة.
موجة ثانية من الحراك؟
استبعد عمر المروكي أن نكون أمام موجة ثانية من حراك الريف، حيث قال: “نحن أمام تأكيد على مشروعية المطالب الاجتماعية والحقوقية وبكونها مطالب لا تقبل التجزئة”، وأوضح مروك “المغرب أمام تحدٍ حقوقي يستلزم من السلطات التعامل معه وفق منطق دولة الحق والقانون”.
وأشار محدثنا إلى “وجوب الحذر كل الحذر من السلطات الأمنية من أن تكون السبب في تأجيج الوضع وتعميق الجراح، في ظل تقارير تؤكد على تردٍ حقوقي من شأنه إحراج السلطات بالمغرب وتضرب في العمق المكتسبات الحقوقية التي راكمها المغرب على مدى سنوات ابتداءً من الإنصاف والمصالحة إلى اليوم”.
مخاوف من احتجاجات جديدة في المغرب
بدورها، أشارت شريفة لومير إلى أن “الأوضاع التي أدت إلى اندلاع حراك الريف ما زالت قائمة وهو الأمر عينه في المناطق الأخرى التي شهدت مظاهرات خصوصًا في السنوات الأخيرة، وهو ما يستدعي مبادرة الدولة إلى الدعم التنموي لكل المناطق التي تعرف احتجاجات”، وفق قولها.
وأضافت “على الدولة أن تغير طريقة تعاطيها مع هذا الملف بشكل أكثر عقلانية بدل أن تتخندق في تبادل الاتهامات بين الطرفين، فالدولة اليوم مدعوة إلى تبني مقاربة أكثر عقلانية تنبني على التصالحية بدل التصادم الذي تتعاطى به مع معتقلي حراك الريف”.
هذه التطورات الأخيرة في ملف حراك الريف، من شأنها تأجيج الأوضاع في بعض المناطق الساخنة بالمملكة المغربية، ما يستدعي ضرورة تحرك السلطات للاستجابة لمطالب المحتجين وبحث الحلول الكفيلة بإنهاء معاناة الآلاف من المغاربة في مختلف أنحاء البلاد.