ترجمة وتحرير: نون بوست
تبقى المحادثات التي تتمحور حول الإنترنت اليوم عالقة في ثنائي خانق. فقد قيل لنا إن الثورة الرقمية إما ستجعلنا نتقدم بطريقة سحرية إلى عالم يتسم بالكفاءة حيث نتواصل ويرتفع مستوانا جميعا، أو سوف تتفكك ديمقراطياتنا وأمننا الاقتصادي.
عندما ننظر إلى ما وراء وادي السيليكون، ستظهر طريقة ثالثة تبين لنا كيف يتعامل سكان جنوب إفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا الجنوبية مع التكنولوجيا الرقمية. إنها متواجدة في هذه الأجزاء من العالم، وليس في أمريكا الشمالية أو أوروبا أو حتى الصين، حيث تعيش الغالبية العظمى من مستخدمي الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. في هذه المناطق، تنتشر الإنترنت بسرعة قصوى. أما إذا كنا نريد القصة الكاملة عن حاضر ومستقبل الإنترنت، فيجب علينا أن ننظر إلى ما وراء وادي السيليكون ونتعلم من مجتمعات الجنوب.
خلال العشرين سنة التي قضيتها في دراسة كيفية استخدام المجتمعات في العالم الجنوبي للتكنولوجيا، وجدت أن هؤلاء هم المبدعون الحقيقيون، فهم ليسوا مجرد مستخدمين سلبيين للتكنولوجيا الغربية أو الصينية؛ إنهم مستخدمون ذوو صنعة، مبدعون، وقراصنة إلكترونيون. إنهم يسترشدون بالقيم التي تم إزاحتها بعيدا في استراتيجيات الشركات ذات المصلحة الخاصة التي تسيطر على فيسبوك، غوغل وأمازون في العالم، والتي تعمل على ضمان بقاء المستخدمين في قاع سلسلة الإنتاج وأيديهم ممتدة تنتظر المزيد من التطور التكنولوجي. وبينما تركز الشركات الغربية على جذب اهتمامنا بأي شكل من الأشكال، وتجميع بياناتنا الشخصية، ووضعنا في مواقف لا نُحسدعليها، يعمل مستخدمو الجنوب في كافة أنحاء العالم على الأخذ بزمام الأمور.
يسمح نظام التحويل النقدي الكيني “إم-بيسا” لأكثر من 100 مليون شخص بدفع ثمن السلع والخدمات عبر أرصدة مرتبطة بحساباتهم على الهواتف المحمولة
على الرغم من أن هؤلاء المستخدمين يقطنون في مناطق تندر فيها الموارد الحياتية الأساسية، إلا أنهم يُعتبرون مبدعين حقيقيين في مجال التكنولوجيا؛ فهم يعملون بأقل الإمكانيات، ويجدون السُبل لتصميم وابتكار وتشكيل تقنيات الهدف منها تحسين ظروفهم الحياتية. بالنسبة لهم، لم تُخلق هذه التقنيات فقط لدعم الموارد المالية لصُنّاعها، بل هي مُوجّهة بجملة من القيم التي تعود بالنفع على المجتمعات التي يعيشون فيها، كما تحافظ على استدامة البيئة الطبيعية المحيطة بهم. في هذا السياق، تزدهر عدة أمثلة من التقنيات الرقمية المصممة والمُتحكم فيها من الألف إلى الياء من قبل المستخدمين المحليين في جميع أنحاء العالم.
في العاصمة الكينية نيروبي، دُهشتُ لرؤية شركة طباعة ثلاثية الأبعاد تابعة لشركة غير معروفة يقع مقرها في أحد أركان الشارع، تقوم يوميا بطباعة الأشياء التي نستعملها يوميا للمارة. إن هذه الطابعات ثلاثية الأبعاد، التي تصنع كل شيء انطلاقا من الأجهزة الطبية إلى الأدوات المنزلية، صنعت من خلال تجميع الدارات والأسلاك التي تم العثور عليها في مقالب النفايات ومراكز إعادة التدوير. إنها لا تمثل فقط جزءا بسيطا من تكلفة الطابعات الصينية أو حتى الأمريكية، بل تتمتع أيضا بقوة ومرونة وقدرة على تحمّل الحرارة والضوضاء والعوامل المناخية التي تميز بلدان شرق إفريقيا. لماذا؟ لأنها صُمّمت من قبل الكينيين لتتلاءم مع بيئتهم المحلية وكذلك زملائهم من أبناء الريف.
ولكن ماذا عن الأمن الاقتصادي في دولة فشلت فيها البنوك في الوصول إلى غالبية السكان؟ يسمح نظام التحويل النقدي الكيني “إم-بيسا” لأكثر من 100 مليون شخص بدفع ثمن السلع والخدمات عبر أرصدة مرتبطة بحساباتهم على الهواتف المحمولة. ليس لتقنية إم-بيسا شبيه في الغرب، فهي تُلغي الحاجة إلى البنوك لتحل محل سلطة البنك المتينة شبكة من الوكلاء المحليين على غرار تجار قصب السكر، ومحلات بيع الغذاء، وغيرها من الشركات الصغيرة. ونظرا لأنه تم تصميمها لتكون أقل تكلفة من البدائل الأجنبية، فإن التكنولوجيا متاحة للجميع وليس فقط لأولئك الذين يعتبرهم البنك جديرين بالثقة.
تُنتج بعض المناطق في الجنوب التي تفتقر إلى البنية التحتية وشبكات الطاقة والحكومات المحلية المنظمة، ثقافة ملهمة للابتكار يمكننا تعلم الكثير منها في الغرب
ماذا عن الاتصال؟ في منطقة واهاكا جنوب المكسيك، قام السكان الأصليّون العاملون مع منظمة “ريزوماتيكا” ببناء وصيانة أكبر شبكة للهواتف المحمولة سبق أن امتلكتها طائفة في العالم. وبعيدا عن الاكتفاء بهذه الإنجازات فحسب، فقد قاموا أيضا بنشر هذه الفكرة على المجتمعات الأخرى في جميع أنحاء البلاد والعالم على حد سواء.
مشاهد كهذه، تُعرض كل يوم في مناطق الجنوب، توضح لماذا تحاول الشركات الكبرى في الولايات المتحدة والصين توسيع نطاق وجودها خارج نصف الكرة الشمالي، ولماذا يرى العاملون في التكنولوجيا إفريقيا بمثابة مكان لمستقبل الذكاء الاصطناعي. كما أنهم يطرحون أسئلة مهمة حول العلامات التجارية والمصطلحات التي نسلم بها ضمنيا وبسهولة فيما يتعلق بالتكنولوجيا.
لسائل أن يسأل، في ماذا يتمثل الابتكار حقا؟ هل يعتبر خلق تكنولوجيات جديدة مع موارد لا تحصى ولا تعد في مختبرات معقمة ومكاتب مريحة في الغرب هو “الابتكار” فعلا؟ هل أن نهج “التقادم المخطط” الذي تنتهجه شركة أبل للتصميم، حيث تبرمج عمر هواتفنا الافتراضي لتخلق بذلك نفايات إلكترونية تجبرنا على شراء هواتف جديدة كل فترة، هو الوصف الأفضل لمفهوم الابتكار؟
تُنتج بعض المناطق في الجنوب التي تفتقر إلى البنية التحتية وشبكات الطاقة والحكومات المحلية المنظمة، ثقافة ملهمة للابتكار يمكننا تعلم الكثير منها في الغرب. في الجنوب العالمي، يعني الابتكار تقديم حلول تقنية في ظل الوعي بالعقبات الاقتصادية والبيئية التي تواجههم.
يقدّر معظم الأميركيين فكرة الاستدامة في التكنولوجيا، لكن أجهزة آي فون وغيرها من المنتجات الأخرى لا تزال تستخدم معادن مدمرة للأرض وتشجع على النزاع على غرار معدن الكولتان، لينتهي بها المطاف أيضا في مصبات القمامة، حيث تسمم الهواء والماء لمجموعات من أفقر الأشخاص على هذا الكوكب.
يحدث الابتكار خارج وادي السيليكون عندما يخلق السكان المحليون والشركات فرصا بينما يقومون بحل المشكلات المحلية، وهي طريقة حكيمة تكمن في اختيار المكان والمجتمع المحيط والعلاقات الاجتماعية التي تزيل جميع العراقيل.
في كينيا، يمكن أن تظهر صناعة الطباعة ثلاثية الأبعاد استنادا إلى منطق إعادة التدوير والاستدامة والندرة الاقتصادية. في هذا الصدد، يجب أن نسأل أنفسنا لماذا لا نحصل على ما نريده في الغرب؟ ولماذا لا نحصل على تقنيات بصفات مستدامة إذا كنا نعتقد أن لدينا أكثر خبراء التكنولوجيا إبداعا، وأمهرهم، وأكثرهم حداثة على هذا الكوكب ليعملوا على خلق وتطوير تقنياتنا العصرية؟
يحدث الابتكار خارج وادي السيليكون عندما يخلق السكان المحليون والشركات فرصا بينما يقومون بحل المشكلات المحلية، وهي طريقة حكيمة تكمن في اختيار المكان والمجتمع المحيط والعلاقات الاجتماعية التي تزيل جميع العراقيل. يعتبر المستخدمون من المبدعين والمصممون صُنّاعا، وكلاهما من المبتكرين. ولا يجب أن يكون للابتكار بالضرورة سعر، على غرار الآثار الجانبية غير القابلة للتغيير، والمقايضات، والنفايات الإلكترونية، أو المراقبة، أو الرقابة، أو مراقبة البوابة من أعلى الهرم. ينبغي على العالم أن يتعلم من مناطق جنوب العالم أن كل شيء قابل للتغيير، وأن لدينا القدرة على تشكيل التكنولوجيا بالشكل الذي يلائم تطلعاتنا ومصالحنا لخدمة أنفسنا ومجتمعاتنا على نحو مستدام. ينبغي علينا اتخاذ قرارات حول مستقبلنا التكنولوجي، عوضا عن فسح المجال لمارك زوكربيرغ وشركات غوغل لتحديد ملامح مستقبلنا.
المصدر: وايرد