الانتفاضة الشعبية اللبنانية التي اندلعت ليلة الـ17 من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي على خلفية رفض فرض ضرائب ورسوم جديدة فاجأت السلطة السياسية كما العالم وحتى اللبنانيين أنفسهم، من جهة حجم المشاركة الشعبية وشمولها كل المناطق اللبنانية بعيدًا عن الاصطفافات الطائفية والسياسية، ونوعية المشاركين في هذه الانتفاضة، حيث يلاحظ أنها تضم كل الفئات العمرية والرجال والنساء والمثقفين والطلاب وغيرهم، وكذلك الاستمرار وابتكار وسائل جديدة للتعبير والضغط، فضلًا عن تحول أو تطور المطالب من اجتماعية اقتصادية إلى سياسية بامتياز، لذا يجدر دراسة هذه الانتفاضة من ناحية الأسباب والدوافع والفاعلين والمآلات.
أولًا: الأسباب
لا يمكن الحديث عن سبب واحد أو دافع واحد خلف هذه الانتفاضة، إنما هناك جملة أسباب ودوافع متعددة ومتداخلة شكلت فيها مسألة فرض ضريبة على استخدام “واتساب” القشة التي قصمت ظهر البعير وعود الثقاب الذي أشعل الانتفاضة.
أ- أسباب اقتصادية
يقع لبنان منذ فترة ليست قصيرة تحت عجز مالي واقتصادي كبير، ويبلغ حجم الدين العام قرابة مئة مليار دولار، في حين أن نسبة النمو متدنية، ونسبة البطالة في ارتفاع (36%)، وميزان الصادرات مختل لصالح الواردات، وبالتالي فإن الدولة اعتمدت منذ فترة زمنية بعيدة سياسية الاقتراض، وراحت كل مرة تبحث عن موارد جديدة لتغطية النفقات من ناحية، ولخدمة الدين العام من ناحية أخرى، وهذا ما كان يسهم غالبًا في زيادة الدين، وبالتالي المزيد من الأزمات.
ترافق ذلك مع فساد كبير على مستوى الإدارة والسياسة وكل شيء في البلد، خاصة لناحية الهدر وفوضى تحصيل الرسوم أو حتى تحصيل الضرائب، وكذلك التهرب الضريبي والتهريب والسرقات الموصوفة، وقد شكل كل ذلك عاملًا مساعدًا على زيادة حجم الأزمة المالية المعيشية وارتفاع الأسعار، ووجدت الحكومة نفسها مضطرة للحصول على أموال إضافية لاتباع سياسات مالية جديدة للحد من العجز، وهذا ما تم طلبه بمؤتمر الدول الداعمة في باريس عام 2018، وحاولت الحكومة ترجمة ذلك من خلال فرض المزيد من الضرائب على المواطنين بدل اللجوء إلى سد أبواب الهدر والفساد والتهرب الضريبي، وشكل ذلك سببًا رئيسيًا لاندلاع الانتفاضة.
ب- أسباب اجتماعية
اللبنانيون بطبيعتهم شعب منفتح ومواكب لما يجري حوله في العالم، فضلًا عن أنه منخرط في هذا العالم، خاصة على مستوى التطور والتقدم التكنولوجي، وللتذكير فإنه كان من أوائل الدول العربية التي أدخلت خدمة الهاتف الجوال في منتصف تسعينيات القرن العشرين قبل الكثير من الدول العربية، رغم أنه كان قد خرج لتوه من الحرب الأهلية المشؤومة، هذا فضلًا عن مواكبة الأمور الأخرى، ومساحة الحرية المتاحة في البلد قياسًا بالبلدان الأخرى، وقد جعل كل ذلك اللبناني، وخاصة الأجيال الشابة المشاركة بفعالية في هذه الانتفاضة والمنخرطة في هذا التطور التكنولوجي، يشعر بحجم التخلف الذي يعانيه البلد قياسًا على البلدان الأخرى التي لا تتمتع بكثير من المزايا التي يتمتع بها لبنان، وباتت تسبقه في كثير من الميادين والخدمات، خاصة الكهرباء والماء والطرق والمواصلات والخدمات الإدارية وخلاف ذلك، وقد وجد اللبناني أمام هذه الثورة التكنولوجية المهمة أن النظام السياسي والإداري الذي يخضع له لم يعد يلبي تطلعاته ولا طموحاته ولا يواكب عصره، وشكل ذلك سببًا وجيهًا أيضًا لانخراط الفئات الشابة والطلاب على وجه الخصوص بهذه الانتفاضة بشكل ملفت وكبير.
ج- أسباب سياسية
لا يخفى على أحد في الداخل أو الخارج حجم الانقسام السياسي اللبناني بين القوى السياسية والكتل النيابية، والجميع يذكر الانقسام العامودي الذي حصل بعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري عام 2005، وما زالت تأثيراته حتى اليوم، كما يذكر الكثيرون كيف عُطل انتخاب رئيس للجمهورية لأكثر من عامين ونصف حتى نزلت أطراف سياسية (القوات والمستقبل والاشتراكي) على رغبة أطراف سياسية أخرى (التيار الوطني الحر وحزب الله) لانتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية قبل ثلاث سنوات.
وكذلك الجميع يذكر كيف كان تشكيل الحكومة يأخذ في كل مرة فترة زمنية طويلة وصلت أحيانًا إلى قرابة العام، ومن ثم يخضع الجميع لمنطق التسويات والمحاصصة والمصالح الضيقة، وأيضًا يعرف الجميع حجم الارتباط العضوي أحيانًا بين بعض القوى السياسية في لبنان والخارج من دول إقليمية أو حتى دول كبرى وما لذلك من تأثير في السياسة المحلية بالنظر إلى خلافات تلك الدول أو مصالحها.
إن كل ذلك جعل البلد ينقسم سياسيًا بين فريقين أحيانًا، أو بين مجموعات أطراف مختلفة ومتداخلة في أحيان أخرى، وهذا انعكس على كيفية التعامل بين القوى السياسية، ورسم خطوط مصالح متناقضة أحيانًا ومتداخلة ومتشابكة أحيانًا أخرى، لكنها كانت في أغلب الأحيان على حساب المواطن، من جهة تعطيل الدولة ومؤسساتها، ومنطق تقاسم النفوذ والمصالح والمغانم لحسابها وحساب محازبيها على حساب المواطنين العاديين، حتى إن مجرد الحصول على وظيفة عادية في الإدارة اللبنانية يحتاج إلى “واسطة” ورضا من الأطراف السياسية، التي بدورها احتكر كل منها وظائف الطائفة التي اعتبرت نفسها تمثلها وتتحدث باسمها، هذا كما قلنا فضلًا عن ارتباطه بأجندات لها علاقة بالدول الخارجية التي ارتبط بها وتلقى دعمها.
إن النظام السياسي الحاليّ الذي كان له إيجابية كبيرة تمثلت بإنهاء الحرب الأهلية في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، أثبتت التجربة أنه بحاجة إلى تطوير وتحديث، وهذه قناعة الجميع، إلا أن الإشكالية كمنت في أن الكثيرين اعتبروا أن الظروف الحاليّة غير مواتية لتلك العملية، خاصة في ظل اعتبار البعض أن وجود السلاح في أيدي بعض المكونات يشكل عاملًا لا يساعد على التطوير والتحديث، ومن هنا ظلت الأمور تدور في حلقة مفرغة وصولًا إلى الواقع الحاليّ الذي فاجأ الجميع بعد الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
د- أسباب خارجية
لطالما كان للدول ذات القوة والتأثير تطلعات لملء أي فضاء محيط بها أو حتى بعيد عنها انطلاقًا من مبدأ البحث عن فضاءات لتفريغ فائض القوة عند الدول، وانطلاقًا من هذا المبدأ تبحث الدول المتنافسة والمتصارعة عن ساحات رخوة لتبادل الرسائل الميدانية أو حتى إدارة الصراعات بينها بشكل غير مباشر وعلى أرض الغير.
الجميع يدرك اليوم أن هناك صراعًا أو حربًا غير عسكرية بين الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، وإيران من ناحية ثانية على مستوى المنطقة ومنها لبنان بهدف الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، كما أن لبعض الدول العربية (الإمارات والسعودية) مصلحةً في تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة خوفًا من التمدد لاحقًا إلى داخل هاتين الدولتين، وبالتالي فإن لبنان يُعتبر ساحة من الساحات التي تُستخدم في تبادل الرسائل بين هذه الدول من ناحية وإيران من ناحية ثانية، وكذلك الصراع بين هذه الدول.
إن هذه الحالة شكلت أحد أسباب الانتفاضة اللبنانية خاصة فيما يتصل بالعقوبات الاقتصادية والحصار الذي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية فرضه على حزب الله في لبنان، وقد كان له وقع كبير على الأزمة التي كبرت وتحولت إلى انتفاضة باتت تقلق الجميع.
ثانيًا: الفاعلون في الانتفاضة
هناك مجموعة من الفاعلين المؤثرين في المشهد اللبناني بشكل عام، وبالانتفاضة الحاليّة بشكل خاص، وهؤلاء منهم فاعلون في الداخل اللبناني وفاعلون من الخارج.
أ- الفاعلون في الداخل
ينقسم الفاعلون المؤثرون في الانتفاضة الشعبية في لبنان على المستوى الداخلي إلى مجموعات سياسية وأخرى مجتمعية وثالثة اقتصادية مالية، وهي:
1- السلطة السياسية المتمثلة اليوم بشكل أساسي برئيس الجمهورية ومعه التيار الوطني الحر، وللرئيس صلاحيات واسعة أقرها الدستور، وهو اليوم يتريث بإجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس للحكومة بعد استقالة الرئيس سعد الحريري.
يخشى رئيس الجمهورية ومعه التيار الوطني الحر في حال الاستجابة الكاملة لمطالب الانتفاضة الشعبية الإطاحة بالعهد (الرئيس)، وتهميش التيار الوطني الحر، وقطع الطريق أمام رئيسه (جبران باسيل صهر الرئيس) للوصول إلى قصر الرئاسة في بعبدا، فضلًا عن إمكانية فتح ملفات الفساد المتهم بها هذا التيار ومحاسبته عليها، ولذلك يتمسك الرئيس بالتسوية السياسية التي تبقي التيار الحر جزءًا من الحكومة وتبقي الرئيس في سدة الرئاسة بكامل صلاحياته، كما تبقي الأبواب مفتوحة أمام باسيل للوصول إلى سدة الرئاسة الأولى.
2- حزب الله، ويُعتبر المحرك الأساسي والمتحكم الأول بمقاليد السلطة في البلد، حيث إنه يملك مفتاح الحل والعقد في أغلب الأمور والقضايا، وقد أكد الحزب وقوفه إلى جانب قضايا الناس ومطالبها الاقتصادية والاجتماعية إلا أنه أبدى قلقه وتوجسه من خلفيات التحركات والجهات التي تقف خلفها، خاصة لناحية وضع سلاحه ونفوذه ضمن دائرة الاستهداف، ولذلك فهو رفض إسقاط العهد، كما فضل عدم استقالة الحكومة ورفض تشكيل حكومة تكنوقراط تقصيه خارجها، وحاول بأكثر من وسيلة فض التظاهرات وإنهاء الانتفاضة إلا أنه لم يتمكن من ذلك حتى الآن، كما يخشى من الفوضى بمقدار ما يراهن عليها للتخلص مما يعتبره استهدافًا أمريكيًا لقوته ونفوذه.
3- رئيس الحكومة سعد الحريري وخلفه تيار المستقبل، ويستمد الحريري قوته حتى بعد استقالته من إدراكه أنه حاجة للقوى السياسية الداخلية وللمجتمع الدولي في رئاسة الحكومة، وهو قد تماهى مع مطالب الانتفاضة لإدراكه أن ذلك يصب في مصلحته، إن لناحية استجابته لمطالب الانتفاضة من ناحية والظهور بمظهر المتماهي معها، أو لناحية استعادة صلاحياته أو جزء منها مع أي إنجاز يتحقق للانتفاضة، ومن هنا يشترط الحريري لقبول تشكيل الحكومة الجديدة أن تكون حكومة تكنوقراط بعيدة عن المحاصصة السياسية، أو يترك الخيار للرئاسة الأولى وحلفائها التصدي للمسؤوليات الجسام التي تترتب على الأزمة الاقتصادية التي تكبر ككرة نار أو ثلج.
4- حزب القوات اللبنانية، وكان يملك أربعة وزارء في الحكومة المستقيلة تقدموا باستقالتهم قبل استقالة رئيسها سعد الحريري، وتُتهم القوات أنها تقف خلف تنظيم حركة الاحتجاجات في الساحة المسيحية، وتسهم في تحريكها في بقية الساحات، وهي تستهدف إضعاف التيار الوطني الحر، لا سيما الوزير جبران باسيل كمرشح رئاسي محتمل، كما تستهدف إضعاف حزب الله لإضعاف “هيمنته” على القرار اللبناني.
5- الحزب التقدمي الاشتراكي، أيضًا لوح بالاستقالة من الحكومة أكثر من مرة، وله ثلاثة وزراء فيها، ويُتهم الحزب بالوقوف خلف الاحتجاجات في الساحة الدرزية وقيادتها من الخلف، ويستهدف إضعاف التيار الوطني الحر لأنه بات يتوجس من اشتراك التيار في محاولات إقصاء رئيس الحزب وليد جنبلاط ومحاصرته في الساحة الدرزية، كما يرى أن من مصلحته إضعاف حزب الله، وإن كان لا يعلن ذلك لاعتبارات تتعلق به، لأن من شأن ذلك إتاحة فرصة أكبر لتأثيره في مجمل المشهد اللبناني.
6- الرئيس نبيه بري ومن خلفه حركة أمل، اعتصم بري بالصمت فترة طويلة بعد اندلاع الانتفاضة، ولكنه عاد وأفصح عن موقفه منها فأكد أنه يؤيد مطالب الناس المحقة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، ولكنه يرفض الفوضى والشغب والشتائم، ويدعو إلى تشكيل حكومة تكنوسياسية، ويتمسك بسعد الحريري رئيسًا لها، ويستمد بري تأثيره كونه رئيسًا للمجلس النيابي من ناحية وحليفًا لحزب الله من ناحية ثانية.
7- قوى المجتمع المدني، وهي عبارة من مجموعة واسعة وكبيرة وبعناوين شتى من المجموعات المدنية التي ترفع شعار مكافحة الفساد أو الفوضى أو تطالب بالإصلاح أو غير ذلك من الشعارات، وربما هؤلاء كانوا السبب الرئيسي لتحريك الشارع، والبعض يعتبر أنهم المحرك الأساسي لحركة الاحتجاجات، فوجودهم دائمًا يتركز في المناطق الحيوية والمفصلية، وفي الأوقات المحورية التي تُبقي على شعلة الانتفاضة متقدة.
8- الجيش وقوى الأمن الداخلي، اللذين لم يلجأ أي منهما للقمع أو استخدام أدوات القوة في وقف التظاهرات والاحتجاجات، بل على العكس من ذلك فقد وفر الجيش الحماية الكاملة للمتظاهرين ولجأ إلى قمع بعض الذين أرادوا الاعتداء عليهم كما حصل في قمعه لمسيرة الدراجات النارية التي حاولت استهداف بعض المتظاهرين في بيروت، ويُعتبر الجيش فاعلًا أساسيًا في المشهد لناحية الحفاظ على الأمن وعلى حرية التعبير وحرية التنقل، لأن ذلك أتاح للمتظاهرين فرصة مواصلة انتفاضتهم.
9- وسائل الإعلام، وخاصة المرئية منها، وقد فتحت شاشاتها أمام المواطنين لنقل الاحتجاجات والتظاهرات من الساحات ومن كل مكان، وهذا أبقى على الانتفاضة متفاعلة، كما شجع المواطنين في المناطق كافة على الانخراط فيها دون تردد أو قلق.
10- المصارف ورجال المال، وهؤلاء لهم دورهم الفاعل أيضًا في هذه الانتفاضة، إذ إن جزءًا من الأسباب المحركة للانتفاضة مالية اقتصادية، وبالتالي فإن المصارف التي كان لها تأثير على سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي فاعل أساسي في هذه الانتفاضة خاصة لناحية قلق الناس على أموالهم وأرصدتهم ومستقبلهم المالي والاقتصادي.
11- قوى أخرى أقل تأثيرًا وهي عبارة عن قوى سياسية ومجموعات مدنية أو اجتماعية تشارك في الانتفاضة وتؤدي دورًا معينًا إلا أن تأثيرها لا يرقى إلى مستوى المجموعات الواردة آنفًا.
ب- الفاعلون من الخارج
1- الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها فرضت عقوبات اقتصادية وحصارًا ماليًا على حزب الله وعلى بعض المصارف والمؤسسات التي اتهمت بتوفير الدعم له، وتحذر من عقوبات أخرى، كما أكد مسؤولوها مرارًا ضمان حرية المتظاهرين وحمايتهم، ولوحت بوقف بعض المساعدات للجيش فيما لو حاول فض التظاهرات بالقوة، فضلًا عن الشروط التي وضعتها سابقًا على تشكيل حكومة لا يكون حزب الله مهيمنًا عليها.
2- فرنسا باعتبارها الضامن والراعي لمؤتمر “سيدر” في باريس، الذي وعد بتأمين 11 مليار دولار للبنان شرط إنجاز الإصلاحات المطلوبة، فضلًا عن ارتباط فرنسا بعلاقات مميزة ببعض القوى السياسية اللبنانية فضلًا عن الطائفية.
3- إيران وهي التي تنظر إلى ما يجري على أنه يستهدف قوة حزب الله في لبنان كرأس حربة لمقاومة المشروع الأمريكي في المنطقة، دون التنكر إلى المطالب المحقة للمواطنين على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وتستمد إيران تأثيرها من قوة وحضور حزب الله في المشهد اللبناني، فضلًا عن تحالفاتها مع بعض الأحزاب والمكونات الأخرى.
4- الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ولا يظهر تأثيرهما بشكل مباشر إلا من خلال الحديث الذي يجري في لبنان بالصالونات السياسية عن دعم مالي إماراتي سعودي لهذه الانتفاضة بشكل غير منظور أو معلن، وبالطبع لكل منهما مصلحة في إضعاف الدور والحضور الإيراني في لبنان.
هؤلاء أبرز الفاعلين في المشهد الحاليّ، لا سيما في الانتفاضة الشعبية، وبنسب مختلفة لكل منها بحسب الظرف زمانًا ومكانًا.
ثالثًا: المآلات
بالنظر إلى الأسباب التي ذكرناها وبالنظر إلى الفاعلين في المشهد والانتفاضة ورزنامة كل منهم، وحيث إن معالم الواقع الحاليّ بعد أكثر من ثلاثة أسابيع باتت أكثر وضوحًا، فإن أغلب، إن لم نقل كل ما يجري، بات يحصل تحت سقف الصراع أو التنافس الأمريكي الإيراني بشكل عام لتحديد النفوذ أو ما يُسمى بأذرع إيران في المنطقة، وبقية المسائل الأخرى تجري وتتحرك تحت هذا السقف. بمعنى آخر، فإن تعقيد المشهد يكون بهذا السبب، وتسهيل الحل يكون بهذا السبب، لأن الفاعلين الكبيرين المؤثرين هما الولايات المتحدة وإيران، وبناءً عليه، على الانتفاضة المستمرة والمتواصلة حتى الساعة، يمكن رسم المآلات التالية:
1- أن تتمكن الانتفاضة من إنجاز كل الأهداف التي رفعتها، ومنها تشكيل حكومة تكنوقراط، وبالتالي إقصاء القوى السياسية عنها، وبشكل رئيسي حزب الله، وهذا بالطبع يقود إلى إسقاط العهد، ولو بشكل غير مباشر من خلال إضعافه، ومن ثم الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون جديد ستفرضه القوى الجديدة “المنتصرة”.
هذا المآل وإن كانت نسبة تحققه بشكل كامل غير مرتفعة اليوم، إلا أنه فيما لو حصل سيعني أن حزب الله بات أمام معركة صفرية خاسرة بالنسبة إليه، وهذا يدفع إلى سؤال عن الكيفية التي سيتعامل بها مع هذا الواقع الذي سينشأ، والجميع يدرك أن الحزب لن يسمح بالوصول إلى هذه المرحلة، وإذا شعر بها وبخطرها، فإنه قد يلجأ إلى قلب الطاولة فعلًا على الجميع، وبالتالي خلط الأوراق، وهذا يأخذ البلد إلى الفوضى التي تربك الجميع، ويمتد تهديدها من كيان الاحتلال الإسرائيلي المجاور لجنوب لبنان، إلى أوروبا والمنطقة كلها، لأنها ستنشئ واقعًا جديدًا في ظل موازين الفوضى العارمة التي ستخلط كل شيء، وهنا يرى البعض أن كل المعنيين وحتى الفاعلين لا يريدون أن يصلوا إلى هذا المآل، أقله حتى هذه الساعة.
الواضح أن ما قبل 17 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 في لبنان يختلف عن ما بعد هذا التاريخ، وأن الانتفاضة الشعبية الحاليّة ستسهم برسم مشهد جديد في البلد يعكس في وجه من وجوهه مآلات الأزمات الأخرى التي تشتعل في الإقليم
2- أن تتمكن السلطة ومن خلفها حزب الله بشكل أساسي من امتصاص هذه الانتفاضة وتفريغها من مضمونها، وتلبية بعض المطالب الاقتصادية الاجتماعية وبالتالي تنفيسها وإعادتها إلى المربع الأول وفق صيغ كثيرة، وإذا نجحت السلطة والحزب بذلك فإنهما سيخرجان من هذه الأزمة أقوى، وسيمكنهما ذلك من فرض المزيد من الشروط والتحكم بالمشهد اللبناني.
وهذا تصور تحقيقه ليس سهلًا بالنظر إلى حجم المشاركين في الانتفاضة من ناحية، والضغوط الاقتصادية التي تترافق مع الانتفاضة الشعبية التي تهدف إلى الضغط على السلطة لإشعارها بخطورة الاستفراد بالحكم ومسؤولية ذلك، خاصة لناحية التصدي لمواجهة الأزمات الاقتصادية، وبالتالي فإن تحقق هذا المآل ليس سهلًا أيضًا ولا بسيطًا.
3- أن تستمر الانتفاضة في حراكها السلمي وأشكال الاحتجاج، وتستمر السلطة في المراهنة على عامل الوقت وتغير الظروف، وهذا سيقود إلى مضاعفة الانتفاضة لحجم الضغط وشكله، في مقابل عدم استجابة السلطة وتصلبها، وهذا قد يفضي إلى ارتفاع منسوب التوتر والغضب والتموضع في البلد، وصولًا إلى إحداث بلبلة قد تقود إلى حروب متناسلة على المستوى الداخلي، تضعف الجميع وتنهك البلد بكل مكوناته وصولًا إلى مرحلة يتم فيها اعتماد صيغة من الفدرلة التي تكرس منطق التقسيم، أو ربما يتم التوصل في لحظة من اللحظات إلى تسوية معينة تكون مرحلية بحيث يكون قد سُجل خلالها خسارة بالنقاط للبعض مقابل ربح بالنقاط للبعض الآخر، وهذا يعني انتهاء جولة بانتظار جولة أخرى جديدة يمكن أن تعيد خلط الأوراق كافة بحسب الظروف المستجدة عند الأطراف الفاعلة الأساسية.
الواضح أن ما قبل 17 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 في لبنان يختلف عن ما بعد هذا التاريخ، والانتفاضة الشعبية الحاليّة ستسهم برسم مشهد جديد في البلد يعكس في وجه من وجوهه مآلات الأزمات الأخرى التي تشتعل في الإقليم.