اتهم فريق من الخبراء التابعين للجنة العقوبات الدولية المفروضة على ليبيا المنضوية تحت لواء الأمم المتحدة عددًا ممن الدول الأعضاء في المنظمة بخرق منظومة حظر الأسلحة لأطراف النزاع الليبي، وذلك عبر تقديم الدعم العسكري للواء المتقاعد خليفة حفتر تزامنًا مع شن قواته هجومًا على العاصمة طرابلس قبل عدة أشهر.
وأفاد التقرير الذي تقول “الجزيرة” إنها حصلت على نسخة منه، أن السودان يأتي على رأس تلك الدول، عبر الفريق محمد حمدان حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، الذي لم يلتزم بالعقوبات الأممية، إذ أرسل قرابة 1000 جندي من قواته إلى الشرق الليبي لحماية بنغازي في يوليو/تموز الماضي، وتمكين قوات حفتر من الهجوم على العاصمة الليبية.
التقرير كشف أن هذه الخطوة جاءت بعد توقيع عقد بين شركة علاقات عامة كندية والمجلس الانتقالي السوداني المنتهية ولايته، لتسهيل حصول الأخير على دعم مالي من حفتر، وذلك بتنسيق مصري إماراتي سعودي، وهو ما أشارت إليه عدد من التقارير السابقة.
كما اتهم الخبراء الإمارات كذلك بخرق الحظر، وذلك بتزويد قوات حفتر بمنظومة دفاع جوي في قاعدة الجفرة، وقرب غريان، وبطائرات من دون طيار تحمل قنابل ذكية وصواريخ موجهة، علاوة على تزويده بسفينة حربية أُدخلت تعديلات عليها، وزودت بمدافع وتجهيزات هجومية.
وفي الإطار ذاته نبه التقرير إلى أن مصالح دول خارجية أخرى ضخمت وبشكل كبير حجم وشكل وتداعيات النزاع الليبي المندلع منذ عام 2011، وأدخلته مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، كاشفًا أسماء دول أخرى قدمت دعمًا لأطراف النزاع منها تركيا والأردن.
نفي سوداني
التزمت قوات “الدعم السريع” الصمت حيال الاتهامات التي كشفها التقرير المنشور، إذ لم يصدر عنها أي رد فعل حتى كتابة هذه السطور، وإن كانت قناة “طيبة” التليفزيونية السودانية قد نسبت بيانًا للمتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية، العميد عامر محمد الحسن، ذكر فيه أنّ “تلك الدعاوى تأتي في إطار الكيد الممنهج للمؤسسات القومية السودانية”، مضيفًا “قوات الدعم السريع تعمل حسب الاتفاقيات الدولية والأممية، والجيش السوداني يعمل على دعمها وتعزيز نجاحها لما تمتاز به هذه القوات من مهنية”.
المتحدث باسم القوات المسلحة السوداني أشار إلى أن “الجيش السوداني ليس شركة أمنية حتى يكون بهذا المستوى الذي ورد في التقرير الأممي المزعوم”، مؤكدًا “الجيش لن يلتفت إلى مثل هذه الأقاويل غير الصادقة”، رغم أنها ليست المرة الأولى التي تخرج فيها تقارير من هذه النوعية التي تحمل اتهامات للقوات السودانية.
قادة الإمارات أبرموا اتفاقًا مع حميدتي، لتزويد مليشيات حفتر بمسلحين من المليشيات المسلحة في السودان، التي يرتبط قادتها بعلاقات وثيقة بقائد الدعم السريع
النفي الرسمي لمشاركة قوات سودانية في نزاعات خارجية يبدو أنه لم يقنع الكثير من المهتمين بالشأن السوداني، خاصة أن هناك سوابق عدة تذهب في الاتجاه ذاته، وهو ما ألمح إليه الكاتب الصحفي السوداني أحمد الفاتح الذي كشف أنه على مدار سنوات مضت كان الجيش السوداني رهن إشارة المانحين، في إشارة منه إلى دول الخليج على وجه التحديد.
“لكن المثير للدهشة هذه المرة أنه في الوقت الذي يضغط فيه الشارع لسحب القوات السودانية من اليمن، التي شاركت بجانب قوات التحالف بقيادة السعودية، يخرج علينا هذا التقرير الذي يفيد بإعادة ارتكاب نفس الخطأ، وإن تغيرت الوجهة ناحية ليبيا، وهو أمر يستوجب التحقيق حال ثبوت صحته” هكذا أضاف الصحفي السوداني في حديثه لـ”نون بوست”.
اتهامات سابقة
في 8 من يوليو/تموز الماضي، كشفت بعض المصادر الإعلامية تلقي مليشيات حفتر دعمًا من المحور الثلاثي مصر والسعودية والإمارات، في محاولة لحسم معركة اقتحام العاصمة طرابلس، الواقعة تحت سيطرة حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، بعد الهزيمة التي تعرض لها حفتر وطرد قواته من مدينة غريان الإستراتيجية.
المصادر نقلت عن أطراف ليبية ومصرية معنية بالملف الليبي أن عمليات تحشيد تُجرى عبر الحدود المصرية الغربية، والحدود الجنوبية لليبيا، بتمويل إماراتي سعودي، لافتة إلى إجراء اتفاقات واسعة مع مليشيات ومسلحين أفارقة من دول محيطة بالسودان، للمشاركة في عملية اقتحام طرابلس مقابل أموال.
وفي التفاصيل كشفت أن قادة الإمارات أبرموا اتفاقًا مع حميدتي، لتزويد مليشيات حفتر بمسلحين من المليشيات المسلحة في السودان، التي يرتبط قادتها بعلاقات وثيقة بقائد الدعم السريع، كونه يحظى برعاية ودعم وعلاقات قوية بقادة أبو ظبي والرياض ومؤخرًا القاهرة.
التقرير الذي كشفته “الجزيرة” يؤكد وبصورة كبيرة الاتهامات التي وجهها المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، يوليو/ تموز الماضي، حين قال: “طائرات وعربات مدرعة وشاحنات صغيرة مزودة بمدافع رشاشة ثقيلة وبنادق عديمة الارتداد وقذائف هاون وصواريخ نُقلت مؤخرًا إلى ليبيا بتواطؤ ودعم واضح فعلاً من حكومات أجنبية”.
ووفق التقرير الأممي فإن طائرة مقاتلة من بلد أجنبي شاركت في الهجوم على مركز احتجاز المهاجرين في تاجوراء بالقرب من طرابلس في يوليو/تموز الماضي، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الألمانية، ورغم عدم توجيه الخبراء الأمميين المسؤولية لأي جهة بالهجوم الذي أودى بحياة نحو 50 مهاجرًا، فإنهم يشيرون إلى روابط محتملة لطائرات هجومية من الإمارات ومصر.
في يونيو الماضي، كشف حميدتي أمام حشد جماهير سوداني أن عدد القوات باليمن يصل إلى 30 ألف مقاتل، مشيرًا إلى أنه سيسحب كثيرًا من قواته
ورغم أن معظم ما جاء بالتقرير – الذي من المتوقع أن تُرفع عنه السرية منتصف ديسمبر/كانون الأول المقبل – سُرب من قبل، فإن أهميته تكمن في توثيقه لعدد من الممارسات التي تحدث على الأرض، تحديدًا مسألة انتهاك قانون العقوبات، خاصة أن فريق خبراء العقوبات قد أعده، الأمر الذي يعطيه ثقلاً كبيرًا مقارنة بغيره من التسريبات السابقة.
أما عن أبرز نقاط التقرير – وفق ما أفاد مراسل الجزيرة بطرابلس يونس آيت ياسين – فهي الإشارة إلى أن هجوم حفتر على طرابلس في 4 من أبريل/نيسان الماضي كان يهدف لعرقلة العملية السياسية رغم المسار الطويل الذي قطعته عدد من الأطراف للوصول إلى اتفاق الصخيرات وتشكيل حكومة الوفاق.
وكان موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، قد كشف في الـ4 من أغسطس الماضي، أن نحو ألف من أفراد “قوات الدعم السريع” السودانية حطُّوا رحالهم، في الشهر ذاته شرقي ليبيا، للقتال إلى جانب حفتر، حيث ذكر أن أعداد تلك العناصر قد يرتفع إلى 4 آلاف فرد في الأشهر القليلة المقبلة، وأن مستندات خاصة بدولة الإمارات، التي تدعم المشير، أظهرت صدور تعليمات بنقل المقاتلين السودانيين إلى ليبيا، عبر دولة إريتريا المجاورة.
هذا الأمر أكدته في حينها حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، حين أشارت إلى أن أغلب من سقط من قوات حفتر قتلى، من المرتزقة السودانيين الذين جُنِّدوا مؤخرًا، كما أن بعض هؤلاء المرتزقة وقعوا أسرى، ويقبعون في سجون “الوفاق”، التي أبلغت المنظمات الدولية بشأنهم، فجاءت لزيارتهم.
من اليمن إلى ليبيا
أكد التقرير الأخير على السمعة السيئة التي باتت عليها قوات الدعم السريع وقائدها، إذ يبدو أنها أصبحت أكثر استعدادًا لسفك المزيد من الدماء مقابل الحصول على مكاسب مادية أو عينية، فمن اليمن إلى ليبيا تنتشر قوات حميدتي لتدافع بالوكالة عن أنظمة وحكومات أخرى لها أجندات متباينة في الأراضي محل القتال.
عام 2015، وافقت الحكومة السودانية على إرسال كتيبة من القوات النظامية، لمؤازرة قوات التحالف السعودي الإماراتي في اليمن، لكن يبدو أن العدد المرسل لم يكن مرضيًا للعاصمتين الخليجيتين، فكان اللجوء إلى حميدتي لتعزيز هذا الدعم، وبالفعل لم يتأخر الرجل إذ زاد الأعداد المرسلة من وحدة القوات التي يتزعمها.
بعد أقل من شهر على تنحي الرئيس السوداني عمر البشير في 11 من أبريل/نيسان الماضي، لمع نجم حميدتي، الذي كان لا يعرف عنه كثير من السودانيين إلا أنه يد البشير اليمنى التي يضرب بها خصومه وقتما شاء
وفي يونيو الماضي، كشف حميدتي أمام حشد جماهير سوداني أن عدد القوات باليمن يصل إلى ثلاثين ألف مقاتل، مشيرًا إلى أنه سيسحب كثيرًا من قواته، بالتزامن مع إعلان الإمارات سحب قواتها من هناك، هذا في الوقت الذي تتحدث فيه تقارير دولية عن أن قيادات في القوات السعودية والإماراتية باليمن قادوا المقاتلين السودانيين عن بُعد بشكلٍ شبهِ كامل، موجِّهين إياهم للهجوم أو التراجع، من خلال سماعات الراديو وأنظمة تحديد المواقع GPS.
وفي 3 من نوفمبر الماضي أماطت جماعة الحوثي اللثام عن حصيلة الخسائر التي تكبَّدتها الوحدات العسكرية السودانية المقاتلة في اليمن منذ 2015 إلى 2019، التي بلغت 4253 قتيلاً، إضافة إلى 3747 جريحًا، وهو ما أجج الشارع السوداني ضد قيادة الجيش، مطالبًا بسحب قوات بلاده من هناك في أقرب وقت.
طموح حميدتي
لا يمكن إنكار أن مشاركة السودان القتال باليمن وليبيا، جاءت لأسباب سياسية واقتصادية في المقام الأول، على رأسها إنهاء عزلتها السياسية الخانقة ورفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية، من خلال الوساطة السعودية، بجانب محاولة إصلاح الخطأ الذي وقعت فيه الخرطوم بتأييد الرئيس العراقي صدام حسين في حرب الخليج الأولى (1990-1991)، الذي سبَّب فجوة خليجية وأدى إلى تجفيف صنابير المساعدات الخليجية، على مدى عقدين من الزمان.
لكن في الجهة المقابلة فإن تقديم حميدتي قرابين الولاء والطاعة لأبو ظبي والرياض على وجه التحديد تقف خلفه أهداف شخصية، فبجانب حصوله على أموال طائلة منهما فهناك أطماع سياسية وطموحات على المستوى القيادي يسعى القائد السوداني لتحقيقها من وراء مواقفه تلك.
بعد أقل من شهر على تنحي الرئيس السوداني عمر البشير في 11 من أبريل/نيسان الماضي، لمع نجم حميدتي، الذي كان لا يعرف عنه كثير من السودانيين إلا أنه يد البشير اليمنى التي يضرب بها خصومه وقتما شاء، لكنه بين ليلة وضحاها أصبح صاحب الكلمة العليا في البلاد.
وقع اختيار الدول الخليجية عليه ليكون يدها القوية في السودان بعد إسقاط نظام البشير، وأداتها الصلبة لإجهاض الحراك الثوري الذي أقلق بلا شك الكثير من الدول التي تخشى موجات الربيع العربي، خاصة أنه يقود تشكيلًا عسكريًا يبلغ قوامه 80 ألف مقاتل، وفي المقابل لعب الرجل على هذا الوتر ليتحول بفضل الدعم المقدم من تلك الدول إلى أحد الأعمدة المؤثرة في المشهد السوداني وإن تراجع دوره بعد توقيع الاتفاق بين المعارضة والمجلس الانتقالي سبتمبر الماضي.
لم ينس الشارع السوداني دور حميدتي في فض اعتصام القيادة العامة، حتى إن لم يقدم للعدالة حتى اليوم، إلا أن تاريخ الرجل مع المطالب الشعبية لم يكن على المستوى الذي يؤهله لتقلد مزيد من المناصب، ثم جاء التقرير الأخير ليسقط ورقة التوت الأخيرة عن هذا القائد الذي لم يجد غضاضة في تقديم جنود بلاده للقتال والموت نيابة عن دول أخرى مقابل مكاسب مادية وسياسية.