طالبٌ بكلية الآداب قسم الفلسفة، نحيف الجسد، متوسط الطول، يقف على باب رئيس تحرير مجلة “المجلة”، يحملُ في يده ظرفًا به قصةً قصيرة كتبها، كان عمره واحد وعشرين عامًا، استأذن ودخل المكتب، ليجد “سلامة موسى” رئيس التحرير جالسًا على مكتبه، رحب به، واستلم منه القصة وبدأ يقرأها، ليعجب بالقصة التي كان اسمها “ثمن الضعف”، وتنشر في العدد السادس من المجلة، وتصبح أول قصةٍ لهذا الشاب، ليرى اسمه “نجيب محفوظ”، مكتوبًا بخطٍ كبير في هذه المجلة، ومن بعدها تتوالى كتابته، إلى أن يبدأ في كتابة الرواية.
في تاريخ أدبنا العربي، حالةٌ متفردة اسمها “نجيب محفوظ”، الوحيد الذي مثل هذا الأدب في جائزةٍ عالمية بحجم “نوبل للآداب”، امتلك عالمًا روائيًا ساحرًا، جاعلًا من الحارة مكانًا ينظر إليه الكل نظرةً مختلفة، مصيغًا البطل الشعبي في صورة جديدة، بعيدة تمامًا عما قبله.
منتج نجيب محفوظ الغني بكُل ما فيه من قصة ورواية ومسرح، الثابت والمستمر للآن، يقرأهُ الناس، حضوره الدائم والقوي بالنسبة للأدب العربي والعالمي أيضًا والثقافة بشكلٍ عام، يجعلنا أمام سؤال: هل روايات نجيب محفوظ صالحة لكل زمان؟ كيف لهذا الكاتب أن يستمر كل هذه السنين، وأن يخلد اسمه وسيرته وما كتبه؟
أول شيءٍ نُشر لنجيب محفوظ، في الصحف، كان عام 1928، وأول كتابٍ ترجمه كان عام 1932، وهو ما زال طالبًا لم يتخرج في الجامعة بعد
يبدو سؤالًا صعبًا في الحقيقة، ومحاولة معرفة إجابته سببت لكثير من الكُتاب معضلة، لكن إجابته بسيطة وهو ما سوف نستعرضه في هذا المقال.
الإخلاص للرواية
للإجابة عن السؤال السابق، ما جعل نجيب محفوظ وأعطاهُ كل هذا الحب ليصلح أدبه لهذا الزمان وما يليه، علينا أن نرجع لبداية الرواية في الوطن العربي، كانت بداية خجولة وفي طورها الأول، رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل، كثير من الكُتاب والنقاد يعتبرونها أول محاولة فعلًا في كتابة الرواية العربية، رغم أنه سبقها محاولة أخرى وهي “حديث عيسى بن هشام” لمحمد المويلحي، لكنهم لم يأخذوا البداية التاريخية، واعتبروا “زينب” أول رواية عربية بالفعل نظرًا لقيمتها الفنية.
وتلت هذه الرواية، محاولات أخرى مثل رواية “الأيام” لطه حسين، التي اتخذت السيرة الذاتية شكلًا لها، و”إبراهيم الكاتب” للمازني، و”عودة الروح” لتوفيق الحكيم، و”سارة” للعقاد. محاولات خمسة في كتابة الرواية، لم تُكتب إلا بهدف المحاولة والتجريب وصنع الفارق، لكن الرواية ذاتها والتخصص فيها كما قال توفيق الحكيم: جاءت مع مجيء روائي شاب موهوب كرس حياته للرواية وحدها، فلا شعر ولا مسرحية ولا سيرة ولا مشاركة من نوع آخر من أنواع الكتابة، إلا الرواية في حد ذاتها، هذا الشاب هو نجيب محفوظ، المخلص لفن الرواية، التي بدأت معهُ عهدًا جديدًا.
“إن حياتي مثل “تورتة الفرح” تستطيع بالسكين أن تقطعها إلى مراحل، كل مرحلة على حدة”.
التاريخ والتراث
أول شيءٍ نُشر لنجيب محفوظ في الصحف، كان عام 1928، وأول كتابٍ ترجمه كان عام 1932، وهو ما زال طالبًا لم يتخرج في الجامعة بعد، كان كتابًا يتناول بطريقة مبسطة تاريخ مصر الفرعونية، اسمه “مصر القديمة“، الأمر الذي دعا نجيب محفوظ لكتابة الرواية، لكن في شكلٍ تاريخي، لم يفعلهُ من قبله أحد، ليقدم ثلاث رواياتٍ تاريخية من العام 1939 للعام 1944، وهم: “عبث الأقدار” و”رادوبيس” و”كفاح طيبة”، ومن بعدها اتجهت الأنظار نحوه، وزاد تعلقه أكثر بالرواية، حتى ملكها وامتلكتهُ.
عمره 30 سنة، ويكتب ثلاثية تاريخية وترجم كتابًا، وله قصص قصيرة منشورة في جرائد كثيرة، بالتأكيد، هذا الشاب ليس مجرد كاتب عادي، هو موهوب جدًا، بالإضافة لأنه ذكي جدًا ويعرف ما يود كتابته. استلهام نجيب من التاريخ رواياته، أن يكون التاريخ المادة الأولى والفعلية له للكتابة، هو ذكاء كبير، وإخراج تلك الروايات بكتابة سلسة دليل آخر على موهبة كبيرة.
الحارة الحكاية الأولى والأخيرة
تلك الروايات التاريخية التي شق بها نجيب طريقه في الرواية، كانت مرحلة، انتقل بعدها لمنطقةٍ أخرى يكتب فيها، فالحارة أصبحت بالنسبة له مكان الحكاية الأولى والأخيرة، هي المكان الذي تربى فيه نجيب، سمع ورأى وتعلم فيها أشياء كثيرة، فكان بديهيًا أن تكون أول حكايته وتستمر معه للنهاية.
أول جوائز حصل عليها نجيب محفوظ كانت جائزة “قوت القلوب الدمرداشية عن روايته “رادوبيس“، مناصفة مع أحمد باكثير، وقيمتها 40 جنيهًا
هذا هو العالم الروائي لنجيب، الحارة، والطبقة المتوسطة، حياتها، أحلامها، صراعاتها مع نفسها قبل الطبقات الأخرى، وعالم الموظفين، فخرجت لنا روايات عبقرية تحكي تاريخًا موثقًا للحارة، مثل: خان الخليلي وزقاق المدق، والثلاثية الشهيرة بالتأكيد “بين القصرين وقصر الشوق والسكرية” التي تأخذ من الحارة مكانًا لها وثورة 1919 زمنًا تاريخيًا، ومن الممكن اعتبارها شبه سيرة ذاتية لنجيب محفوظ، فكمال عبد الجواد رأى نجيب محفوظ نفسه فيه وأخذ منهُ الكثير.
أول جوائز حصل عليها نجيب محفوظ كانت جائزة “قوت القلوب الدمرداشية عن روايته “رادوبيس“، مناصفة مع أحمد باكثير، وقيمتها 40 جنيهًا، وجائزة المجمع اللغوي عن رواية “خان الخليلي”، وجائزة وزارة المعارف عن رواية “كفاح طيبة”.
“كانت الجوائز يومها لها قيمة كبيرة من الناحية المادية ومن الناحية النفسية على المؤلف، فقد تأكدت من أن هذه الأوراق المتراكمة في مكتبي لها قيمة، ومن الذي يعترف بقيمتها؟ أساتذة كبار وأعضاء في مجمع اللغة. وطبعًا لم تكن هناك وساطة ولا محسوبية لأننا كنا كتابًا مجهولين”.
الكتابة ولا شيءٍ آخر
“لم أكن أهتم بالنشر ولا بالجوائز، وكنت ماشي مثل “وابور الزلط”، الواقع أن الرغبة في الكتابة كانت موجودة منذ زمن قديم حتى قبل تبين دوافعها”.
لم يكن لنجيب محفوظ، أي رغبة، إلا الكتابة وفقط، لا همه نشر ولا جائزة، فبداية الكتابة لديه تولدت بطريقة تلقائية نتيجة القراءة، فكان همه أن يكتب شيئًا مثل ما قرأهُ، إلى أن أصبحت تلك الرغبة في الكتابة ثابتة وتستحوذ عليه. الآن نجد بعض الكُتاب لم يقرأوا شيئًا ولم يختبروا شيئًا، ويريدون الدخول ضمن الفئة المثقفة، أو يقال عليهم هذا كاتب مثقف كبير، وهو كُل ما كتبه، لا يدخل ضمن الثقافة ولا الأدب ولا الفن، بالتعبير الدارج بـ”نكلة”.
“دخلت الأدب وأنا في نيتي أن أعمل لآخر نفس، نجحت سأستمر، فشلت سأستمر”.
التسلية والأدب
هناك فرق كبير بين كُتاب التسلية والأدب الحقيقي، ففي زمننا هذا، كثرت التسلية وأصبح الأدب الحقيقي قليلاً، يغطي عليه كُتاب التسلية، ويظنون أن بكتابتهم هذه أصبحوا كُتابًا وأدباءً كبار، لهم المجد الأدبي، لكن الحقيقة أنهم ليسوا بكُتاب ولا أدباء، هم أصحابُ تسلية، وجودهم واجب، حتى نتبين نحنُ ما الفرق بين الأدب الحقيقي والمزيف الذي يحاول بأي طريقة تجميل صورته ووضع نفسه في خانة ليست خانته ولا مكانته.
“هناك صعوبة يواجهها الكاتب، إذ ينبغي أن تأتي الأحداث والأشخاص والجو العام للعمل الفني بصورة طبيعية بعيدة عن افتعال الصنعة والتدبير المسبق”.
لا يهم إن كنت تحب نجيب محفوظ أو تكرهه، تفضل القراءة لهُ أو لغيره، ما يهم أن تعرف قدره ولا تبخسه حقه
لا أعرف تحديدًا لماذا لا يقبل كُتاب التسلية أن ما يكتبونه بالفعل مجرد تسلية، لن يخرج عن هذا ولن يبقى في ذهن الناس، سريعًا ينتهي، يقضي وقته، ولا حتى يأخذ مكانًا على رفٍ في مكتبة، وفي المقابل الكتابة كما يجب أن تكون، التي يصنع منها الفن، هي وأصحابها موجودة في كل مكان، محفوظة ويستشهد بها، حاضرة دائمًا، ولن تنتهي لأنها صادقة، هذه هي الإجابة البسيطة، الصدق فيما كتبه نجيب محفوظ، الإيمان به، نقل الواقع بصورة طبيعية، والابتعاد عن الافتعال. هؤلاء هم الأساتذة وما كتبوه هو الأدب فعلًا.
لا يهم إن كنت تحب نجيب محفوظ أو تكرهه، تفضل القراءة لهُ أو لغيره، ما يهم أن تعرف قدره ولا تبخسه حقه، وحين تود نقد عمل له، يجب أن تكون على معرفةٍ قوية به وبما كتبه، وما النقد فعلًا وكيف تنقد عملًا من الأساس.
كتابة نجيب محفوظ ورواياته تكاد تكون صالحة لكل زمان، ليس فقط لأننا لو قرأناها الآن لوجدناها تُحاكي واقعنا وتناقشه وتظهر مشاكله، أيضًا لأنها قادرة دائمًا على الإتيان بجديد، حالة خاصة، صعب أن تجد مثيلاً لها.