عادة ما ينظر الأهالي في المجتمعات الشرقية المحافظة لمستقبل أبنائهم بصورة نمطية تتمحور حول الدراسة ثم الالتحاق بكلية الطب أو الهندسة أو ما إلى ذلك، لكن ماذا سيحدث لو كان الابن يريد كسر هذا القالب المجتمعي واختار لنفسه أن يصبح مغنيًا أو عازفًا، حتى لو كان من أكثر المجتمعات تحفظًا كقطاع غزة؟!
يحتمل هذا الاختيار جوانب كثيرة، أولها كسر حواجز الخوف المجتمعية والحدود الثقافية المفروضة من البيئة المحيطة، وثانيها تحمل المصاعب التي ستواجهه في طريقه نحو الغناء، ومن هنا تبدأ قصة المغني الفلسطيني الشاب أحمد الحداد الذي أتى من غزة لإسطنبول طلبًا للموسيقى.
قصة البداية ورفض المجتمع
بدأت حكاية الحداد وهو في سن الـ16، عندما ذهب في زيارة عائلية إلى مصر، وكانت نقطة تحول مهمة في حياته، حيث اشترى آلة الجيتار من مصروفه حتى يتعلم عليها، وبالفعل بدأ يتمرسها عليها رويدًا رويدًا، وتأكد لحظتها أن هذا الطريق الذي يحب السير فيه، وبعد عودته إلى قطاع غزة لم يتقبل الوسط الذي يعيش فيه الحداد حبه للموسيقى والتطور للعمل في هذا المجال، ودعاه أهله إلى صرف النظر عن ذلك تمامًا لأنها لا تؤتي أُكلها والانتباه إلى تعليمه وإنهاء الثانوية العامة.
يقول أحمد: “بعد إنهائي للثانوية كان حلمي أن أدرس الموسيقى، أو أي شيء له علاقة بهذا المجال لكن لا يوجد في القطاع أي معهد لتعليم الفنون والموسيقى إلا واحد للأطفال، ولم أكن أعلم عن كيفية التقديم للتعلم في الخارج، فكيف يحدث ذلك ولا توجد عوامل التشجيع المادي والمعنوي من حولي؟!”.
استسلم الشاب للواقع من حوله وقال في داخله إن حديث أهله ومجتمعه كله هو الأفضل، فلا فائدة من تعلم الموسيقى وبدأ دراسة الإعلام لكنه لم يجد نفسه مندمجًا بعيدًا عن هوايته التي يحبها وكان يحلم بإكمال تعملها فعاد ليتعلم ذاتيًا الغناء والعزف، حتى أصبح مدرسًا في معهد يُعلم الموسيقى للأطفال، وعازفًا فيما يُسمى “حفلات الشوارع” في غزة التي وصفها بأنها أحد الجوانب المظلمة في رحلته، كونها لا تُلبي أي احتياجات للفنان، هي فقط وسيلة لكسب الرزق.
وأخيرًا تحول الحلم إلى حقيقة، فقد استطاع الحداد وبعض زملائه تشكيل فرقة موسيقية للغناء وتنظيم الحفلات في القطاع المحروم منها لسنوات طويلة، وكان يعمل كمغنٍ للفرقة لكن سرعان ما انتهت الفرقة نظرًا لعوامل كثيرة، أبرزها عدم حرية الغناء، فكان يحدث أن تمنع الحكومة هناك الحفلات بل وتمنع تأدية بعض الأغاني، وبعدها ساءت الظروف الاقتصادية لدى سكان القطاع فلم تعد هناك فرصة عمل في هذا المجال.
إن قطاع غزة يعيش داخل سجن بمعنى الكلمة، فهو مغلق سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا، وهذا يؤثر على كل من يسكنه، فيصل الناس لنقطة إما الانفجار والتمرد على الواقع أو الرضوخ له، وبهذه المرحلة فكر المغني الشاب بالخروج للعالم الخارجي الذي قال “إنه لا يعرفه” ليشق طريقه للموسيقي خارجًا من بيئة محدودة الإمكانات.
رحلة الخروج
بعد محاولات استمرت أشهر عديدة للخروج من قطاع غزة عبر معبر رفح البري، في رحلة السفر المتعبة التي تتناولها جميع وسائل الإعلام وأصبح من الجلي للقارئ تصور صعوبة إجراءات السفر، تمكن الحداد من الوصول إلى مصر التي بحث فيها عن فرص للتعلم أو العمل بلا جدوى، فالأمر يحتاج لتراخيص كثيرة والدراسة تحتاج لمبالغ كبيرة.
يقول الحداد: “في هذا الوقت أدركت أنني يجب أن أشق طريقي نحو تركيا التي فتحت أحضانها لأبناء القطاع المحاصر، وفيها المجتمع الأكبر والأوسع والحياة هناك بالتأكيد ستكون أسهل بكثير”.
تركيا أرض الفرص.. لكن الحياة ليست وردية
“وصلت تركيا وأنا متفائل جدًا بها، ومتلهفًا لأعوض ما فاتني من تعلم ما هو جديد في عالم الموسيقى وحلمي بالعمل فيما أحب”، هكذا يصف الحداد لحظة هبوطه من الطائرة في إسطنبول، ويكمل “شرعت في بدء دراسة اللغة التركية ومن ثم بت أبحث عن أماكن أمارس فيها الغناء والعزف”.
كحال أي زائر جديد لإسطنبول، سمع الحداد عن ما يحدث بالتقسيم من حفلات وتجمهرات، وأن أي مغنٍ يستطيع الذهاب هناك في شارع الاستقلال والغناء كيفما يحب، وذهب مسرعًا ليغني بحرية مطلقة، لكنه لم يدرك أن الحياة ليست وردية اللون وبهذه السهولة والبساطة بعد! ذهب المغني إلى التقسيم حاملًا معه جيتاره، ثم أخذ زاوية في شارع الاستقلال وبدأ بالعزف والغناء بأغانٍ عربية وإنجليزية، وأخذ يذهب أكثر من يوم هناك، وفي آخر مرة جاءه شخص تركي أخبره بأن لا يعود ليغني هنا نهائيًا.
لم ييأس الحداد في تعريف الناس على ما يُقدمه رغم إمكاناته البسيطة، لكنه أصر على تقديم فنه لهم، فتوجه لمنطقة اسمها كادي كوي في إسطنبول للغناء على شطها، يصف هذا اليوم بقوله: “وقفت أمام الناس وبدأت بالغناء، وتجمهر الجمهور قليلًا لكن لأنني لم أغن بالتركية أداروا لي ظهورهم، ثم جاء شخص أيضًا أخبرني عليك الرحيل وعدم الغناء هنا”.
شاء القدر أن يلتقي الحداد بأحد أصدقائه وزميله في الفرقة التي شكلاها في غزة معًا، في إسطنبول، حيث نظما حفلات لهما ودعيا أصدقائهما وتعرفا على جمهور جديد، وأعجب بهما بعض الموسيقيين الأتراك الذين أصبحوا يدعوهما للغناء في حفلاتهم الخاصة.
حاجز اللغة والثقافة الجديدة تسبب مخاوف كثيرة لدى أي شخص، فما بالك بإسطنبول التي تجمع عدة ثقافات مختلفة
“إن الجمهور التركي كبير وينقسم لنصفين: الأول متشدد لسماع اللون التركي فقط، والآخر لين لسماعه باقي الألوان كالعربي والإنجليزي، وتمكنا من دمج هذه الثقافات ببعضها البعض، فاليوم أنا أغني باللغة التركية أيضًا، ولقد استمتع الجمهور التركي بغنائي بلغته وأصبح يطلب أغانٍ عربية وفلسطينية بتفاعل كبير” بحسب ما قاله الحداد.
بكل تأكيد حاجز اللغة والثقافة الجديدة تسبب مخاوف كثيرة لدى أي شخص، فما بالك بإسطنبول التي تجمع عدة ثقافات مختلفة، وهذه الرهبة استطاع الحداد التغلب عليها بوقت قياسي، والفضل في ذلك يعود إلى الأغاني التركية المشهورة والمتداولة التي حفظها ليتعلم اللغة من خلالها، ويدخل قلوب الجمهور التركي.
يصف الحداد إسطنبول بأنها قاسية ومتعبة، لكنها في الوقت نفسه أرض غنية بالفرص تستوعب الجميع، فهنا لا أحد يطلب منك تراخيص ولا قوالب اجتماعية ترفض احتراف الفن ولا أحد يملي عليك ما عليك غناءه، وأبسط الأمور أنني أتمكن من التدرب والغناء في منزلي والشارع وفي أي مكان دون أن يغضب أحد، بل على العكس، ترى الجيران يشجعونك والناس يتفاعلون معك.
ما بين الغناء والعمل
على الرغم من أنه يعمل في حفلات كثيرة بإسطنبول ولديه جمهور عربي وتركي، بل وأصبح يُدرس بعض الطلاب العزف على الجيتار، فإنه يعمل الآن كمسوق لشركة عقارية حتى يستطيع الاستمرار في تعلم الموسيقى والالتحاق بمعهد وحتى يستطيع تطوير معداته وفرقته ويكون شخصيته ولونه الموسيقي الخاص به.
“كنت في إحدى المرات أغني في أحد الشوارع بجانب التقسيم، وكانت هناك مريضة سرطان تركية تأتي لتستمع إليّ وتصفق لي، وعندما علمت بأنني فلسطيني أصبحت تأتي مع أصدقائها كل يوم وتقول لهم: استمعوا لهذا المغني الفلسطيني، إنه يجيد التركية كأنه تركي، هذه تركيا وهذه فلسطين”، يقول أحمد إنّ هذا أحلى موقف حدث له!