في الوقت الذي يتحدث العالم، عن الصعوبات التي تواجهها الجمهورية الإيرانية، أمام العقوبات المتزايدة عليها من المجتمع الدولي، وليس الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، والتوقعات المتشائمة من الخبراء والباحثين المتخصصين، يخرج وزير الاقتصاد والمالية الإيراني، فرهاد دجبسند، لسانه للعالم، ويؤكد في تصريح يقلب كل معايير الحسابات الاقتصادية، صعود الاستثمارات الأجنبية التي استقطبتها بلاده خلال العام الحاليّ، الذي يبدأ من مارس في إيران، وبزيادة نسبتها 20%.
تصريح دجبسند، جاء خلال كلمته، في أثناء مراسم إحياء ذكرى الشهداء في قرية خورشيد كلا، بمدينة كلوكاه بمحافظة مازندران شمال إيران، واعتبر التطورات الاقتصادية مؤشرًا واضحًا لقدرة الإيرانيين على عبور هذه الظروف الصعبة، وزيادة رخاء المواطنين وتحدي العناد الأمريكي.
التحالف مع المواطن
يعرف وزير الاقتصاد الإيراني، أن فسلفة العقوبات في مجملها على إيران، محاولة لتقليب الشارع عليها، ودفعه للثورة ضد سياساتها، لذا يسعى من خلال مثل هذه التصريحات، لترميم الشرخ الذي ربما حدث بالفعل بين الحكومة والشعب، بسبب طول الأزمة والضغوط الدائمة على البلاد التي تؤثر بشكل مباشر على استقرار حياة المواطن ورفاهيته ووضعه بصفة دائمة تحت رحمة التوازنات الإيرانية في الداخل والخارج.
دجبسند أكد للحشود التي تحدث أمامها أنهم حققوا ضربة رغم الحظر، فالبلاد لم ترضخ للضغوط الأجنبية عليها، واستمرت في خطة تخصيب اليورانيوم، وضاعفت من خطواتها بنسبة 5%، بعد أن تخلفت الدول الكبرى عن التزاماتها بموجب اتفاق عام 2015 الذي انسحبت منه واشنطن، وهو استمرار لسياسة الند بالند التي تضعها الإدارة الإيرانية فوق كل اعتبار، صيانة للكرامة الإيرانية من وجهة نظرها.
يمكن العودة إلى أرشيف الاستثمارات الذي يؤكد بالفعل أن الإدارة الإيرانية استقطبت نحو 554.4 مليون دولار من الاستثمارات الأجنبية، خلال الأشهر الأربع الأولى من السنة التقويمية الإيرانية الحاليّة (21 من مارس – 22 من يوليو)
وبالتالي لم تلتزم بوقف سقف التخصيب عند 3.67%، كما كان متفقًا عليه من قبل، في الوقت الذي تحدت العقوبات وحققت نموًا إيجابيًا في مجال الصادرات غير النفطية، وأصبح الهدف الأسمى الآن، إدارة هذه الأموال بصورة جيدة والاهتمام برخاء المجتمع الذي تحمل الكثير، ويبقى السؤال: كيف حدث ذلك!
يمكن العودة إلى أرشيف الاستثمارات الذي يؤكد بالفعل أن الإدارة الإيرانية استقطبت نحو 554.4 مليون دولار من الاستثمارات الأجنبية، خلال الأشهر الأربع الأولى من السنة التقويمية الإيرانية الحاليّة (21 من مارس – 22 من يوليو)، وهي زيادة بنسبة 60% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وتعتبر قطاعات الصناعة والتعدين والتجارة الإيرانية، صاحبة العلامة شبه الكاملة، في الصفقات التي تمت، وتتوقع إيران زيادة بمقدار 10 أضعاف في الاستثمار بقطاعي الصناعة والتعدين بحلول نهاية خطة التنمية الوطنية الخمسية السادسة (2021).
حوافز تاريخية
تعمل إيران بشكل ممنهج للوصول إلى هذه النتيجة، منذ عام كامل، وتحديدًا بداية قرب إدخال العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ، إثر انسحابها في مايو من العام الماضي، من الاتفاق النووي، وبموجب ذلك أبلغت واشنطن بلدان العالم أجمع بضرورة وقف كل وارداتها من النفط الإيراني، ابتداءً من الـ4 من نوفمبر لعام 2018، وإلا واجهت عقوبات مالية أمريكية قاسية.
كانت اللحظة مناسبة للتحدي، قدمت إيران سريعًا حوافز على الأسعار والضرائب، للمستثمرين الذين يرغبون في العمل بالقطاع الخاص وإنقاذ مشروعات الدولة المعطلة التي تبلغ نحو 76 ألف مشروع تم تعطيلهم بسبب الانقلاب الأمريكي على إيران، وخوف الكثير من الشركات الأجنبية وانسحابها بالفعل من المشهد الاقتصادي، خوفًا من القبضة المدمرة لترامب، وبعد أن تراجعت قيمة العملة الإيرانية بشكل سريع.
كما قدمت وزارة الشؤون الاقتصادية والمالية، حوافز خاصة للمستثمرين الأجانب المحتملين، منها حصول كل مستثمر على إقامة إيرانية مدتها خمس سنوات إذا استثمر 250 ألف يورو، أو ما يعادلها بعملات أخرى، يقبلها البنك المركزي الإيراني، وفقًا للنظام الداخلي، كما سمحت لهم بالاستثمار عن طريق فتح حسابات بالبنوك الإيرانية، وشراء سندات الاستثمار والأوراق المالية وكذلك الاستثمار في قطاع الإسكان.
المثير أن الدولة التي واجهت حالة من الخناق الشديد على مصادر أموالها، كانت تضع أعينها على الجبهة الداخلية، ورفضت تسليمها لترامب يوجهها كيف يشاء، واتخذت قرارات سريعة، بتوجيه مسار السيولة النقدية المتاحة في البلاد، إلى مشروعات الإسكان الاجتماعي والتوظيف وتنشيط حركة التصنيع، وفق طموحات الحكومة والمواطنين.
في أغسطس 2018، بدأ بالفعل سريان العقوبات الأمريكية، وعلى الفور أكملت شركات أوروبية كبرى، مخططات انسحابها من السوق الإيرانية، وخاصة التي لها جانب كبير من عملياتها في الولايات المتحدة، وكانت ستصبح أول أكباش الفداء للصراع بين البلد الفارسي وأمريكا، ليهبط الريال الإيراني من جديد إلى مستوى قياسي أمام الدولار بالسوق غير الرسمية، وبلغ سعر الدولار 97500 ريال إيراني، مقابل 85500 ريال إيراني، قبل أسبوع واحد فقط.
استعادة التوازن
بعد حالة من عدم الاتزان للاقتصاد الإيراني، بفعل الضربة الأمريكية الجديدة، استعادت السلطة توازنها سريعًا، وأسفرت حزم الدعم عن إبقاء شريحة مهمة من المسثمرين، كان لديهم مشروعات منذ أواخر عام 2015، واستقطاب المزيد من رؤوس الأموال في القطاع الصناعي، لإدارة نحو 150 مشروعًا صناعيًا، بتكلفة تبلغ نحو 3.5 مليار دولار، ووافق عليها مجلس الاستثمار الأجنبي منذ بداية العام الحاليّ.
الصراع والصراع المضاد، ربما يثبت أن الاقتصاد الإيراني، ليس بالضعف الذي كان يتوقعه ترامب، فهو لا يمكن مقارنته بالاقتصاد الفنزويلي على سبيل المثال، الذي يعد هو الآخر هدفًا وصيدًا سهلاً للعقوبات الأمريكية، وينزل ترامب به أشد العقاب لإضعاف النظام الحاكم، وتنجح هذه السياسة بالفعل في إعاقة قدرة فنزويلا على ضخ النفط وتصديره، ما قطع أهم مورد من أعمدة الدخل الحكومي للبلاد.
بعض السياسات الاقتصادية التي تدور على هذا النحو في إيران، تؤكد أن الدبلوماسيين الأوروبيين، نجحوا في إقناع طهران بضرورة اتباع سياسة النفس الطويل والعمل في المساحة الخلفية التي تخلفها العقوبات الأمريكية، فمع تعظيم الحوافز ستجد إيران السوق المناسب لها، وهناك دول ومؤسسات تحترف التعامل مع مثل هذه الأجواء.
النصائح الأوروبية، تحققت على الفور، بإعلان الصين عزمها استثمار نحو 280 مليار دولار في قطاعات النفط والغاز والبتروكيميائيات الإيرانية التي تتضرر من جراء الحظر، ليصبح هذا الاستثمار الهائل، نقطة رئيسية في اتفاق جديد بين الدولتين، وخريطة طريق لاتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة المبرمة عام 2016، التي سافر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف سريعًا إلى الصين أواخر أغسطس الماضي لتفعيلها.
بكين لم تكتف بذلك، بل أعلنت الاستثمار بـ120 مليار دولار في قطاع النقط والبنى التحتية الصناعية في إيران، على أن يجري دفع هذا المبلغ الهائل خلال السنوات الخمس الأولى من سريان الاتفاق، مع إمكانية تقديم استثمارات إضافية في الفترات المماثلة اللاحقة في حال موافقة الطرفين، وفي المقابل تمنح إيران الشركات الصينية حق الأولوية في المشاركة بالمناقصات في أي مشاريع جديدة أو مجمدة أو غير مكتملة لتطوير حقول النفط والغاز، علاوة على جميع المشاريع في مجال البتروكيميائيات، بما في ذلك تقديم التكنولوجيا والكوادر لتنفيذ هذه المشاريع.
تحسبًا لأي ضربة أمريكية من الخلف، حصلت الصين لنفسها على الحق في التأخر بتسديد هذه الأسعار لعامين، وبالعملة الوطنية الصينية اليوان أو أي “عملات سهلة” أخرى، تحقق بكين أرباحًا بها عبر مشاريعها في إفريقيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، دون اللجوء إلى تعاملات بالدولار الأمريكي، وبالتالي عملت الصين بمبدأ مصائب قوم عند قوم فوائد، وحصلت على خصم إجمالي بمقدار نحو 32% على جميع المنتجات النفطية والغازية والبتروكيميائية من إيران، وحصلت أيضًا على محبة عظيمة من الحكومة والشعب الإيراني، باعتبارها صديقًا وفيًا للبلاد، ويقف معه في أشد أزماته، وضد واحد من أشرس أعدائه.
وتأمل الإدارة الإيرانية التي تناور حاليًّا، بسياسة رد الفعل، وتستقطب حلفائها للاستثمار وضخ المزيد من الحيوية في الاقتصاد لمواجهة الآلة الأمريكية التدميرية الجديدة التي ترفع لواء العقوبات في وجه معارضيها، وفي الوقت نفسه تبقى على إشعال حالة من التخويف ـ من بعيد ـ بملفها النووي، ودون الدخول مباشرة في أي سياسات هجومية خطرة، لا تمكنها من إجراء حوار بمساعدة الاتحاد الأوروبي، حال رحيل ترامب عن البيت الأبيض عام 2020، خاصة أن هناك احتمالاً قويًا بعدم حصوله على فترة رئاسية ثانية، بسبب سلوكه الانفرادي بمعزل عن شركائه الذين دفعهم للنفور منه.
وبالتالي سيكون من صالح إيران إبقاء شعرة معاوية مع الغرب وعدم التمادي في سياسة العداء بإنتاج صواريخ جديدة، والاستمرار في تخصيب اليورانيوم كرد على حملة ترامب عليها، والإبقاء على سياستها الاقتصادية التي تعرف جيدًا اللعب على انتهازية المستثمرين والصراعات في العلاقات الدولية التي أشعلها ترامب، وجعلها آلةً سحريةً وتبريدًا تلقائيًا لكل أزمة يضع فيها شركاءه في المنطقة والعالم.