أيام قليلة وتبدأ شركة النفط السعودية “أرامكو” طرحها الأولي لنسبة من أسهمها في البورصة السعودية، المقرّر له في 17 من نوفمبر/تشرين الثاني وينتهي في 4 من ديسمبر/كانون الأول، فيما تُسعر الأسهم في 5 من ديسمبر/كانون الأول، بحسب البيان الصادر عن الشركة أول أمس السبت.
البيان لم يتطرق إلى نسبة الأسهم الفعلية التي ستُطرح، إلا أنه أشار إلى أن الشركة ستبيع ما يصل إلى نحو 0.5% من الأسهم للمستثمرين الأفراد، بحيث سيكون هناك فئة واحدة من الأسهم العادية ويحق لكل حامل سهم تصويت واحد، فيما سيتمتع كل مساهم بحق الحضور والتصويت في الجمعيات العامة، علمًا بأن الشركة لن تتمكن من إدراج أسهم إضافية لمدة 6 أشهر بعد بدئها التداول الأولي وفق اللوائح المعمول بها.
حالة من الترقب تخيم على هذه الخطوة التي يعتبرها فريق مغامرة للتسويق السياسي لولي العهد الرامي إلى تعزيز رؤيته “2030” بأي طريقة في الوقت الذي تعاني فيه المملكة من أزمات اقتصادية خانقة، فيما يراها فريق آخر نقلة نوعية في مفهوم المواطنة، حيث مشاركة المواطنين السعوديين في ملكية الشركة التي تسيطر عليها العائلة الحاكمة.
وبينما ظلت الشركة ذات أهمية محورية في سلطة آل سعود، كونها ظلت تحت هيمنة الأسرة الحاكمة لسنوات طويلة ساهمت في تعزيز ثروات العائلة، الأمر الذي انعكس فيما بعد على نفوذها السياسي، أما الآ فإن ابن سلمان جعل الشركةَ في المركز من خطته الرامية إلى تعبيد الطريق نحو كرسي الحكم.. فهل تقف الدوافع الاقتصادية منفردة وراء عملية البيع؟
مخاطر الاكتتاب
في مقاله المنشور بمجلة Foreign Policy الأمريكية استعرض الباحث في شؤون منطقة الشرق الأوسط والدراسات الإفريقية في “مجلس العلاقات الخارجية” الأمريكي، ستيفن كوك، المخاطر المحتملة وراء دفع المملكة نحو الاكتتاب في أكبر شركاتها التي تعد مصدر الأمان والطمأنينة لها على مدار السنوات الماضية.
المخاطرة الأولى تتمحور حول توقيت العملية، فشهر ديسمبر/كانون الأول ليس وقتًا مناسبًا لطرحٍ عام أوليّ، ذلك لأن مستثمري المؤسسات الدولية الذين حققت استثماراتهم العوائد السنوية المرجوّة يميلون إلى الأحجام عن المخاطرة في ذلك الوقت، في حين أن المستثمرين الآخرين الذين لم يحققوا الأهداف المرجوّة لن يريدوا المجازفة بتورطٍ أكبر في استثمار قد يفشل، ومن ثم يكون لديك المستثمرون الذين ساءت أوضاعهم تمامًا لدرجة الاستعداد للرهان على أي شيء، وأقل ما يقال عن ذلك إنها ليست بيئة استثمارية كبيرة في أحسن الأحوال.
فيما تتعلق المخاطرة الثانية بحسب كوك بالحسابات التي أجراها المستثمرون الدوليون، فقد خُطِّط أن يكون الاكتتاب العام على مرحلتين: عرض محلي وآخر دولي، ورغم النقاشات التي أخذت تدور بشأن أي بورصة دولية ستُدرج أسهم أرامكو فيها، فإن كثيرًا من المحللين لا يعتقدون حقًا أن ذلك الإدراج سيحدث أبدًا.
الكثير من الآراء تذهب إلى أن أهدافًا سياسية تقف وراء عملية الطرح، فالأمير الطامح في الكرسي يأمل في تسويق الشعارات التي رفعها على مدار الأعوام الأربع الماضية
ومن ثم فإنه من المحتمل أن يُسمح للمستثمرين الأجانب بالحصول على جزء فقط من المعروض من خلال سوق الأسهم في السعودية، أي سيجري التعامل معه على أنه ما يُطلق عليه خبراء الاستثمار “عرض ترويجي” لبناء طلب على أسهم الشركة، وفي حال عدم الوصول إلى السعر المأمول سيكون ولي العهد أمام خيارين: المضي قدمًا على أي حال، أو إيقاف العملية برمتها، وكلاهما سيترك الأمير في “هيئة الأحمق” بعد ذلك الترويج والإعداد الطويل لعملية الاكتتاب العام.
ثم تحمل البيئة الجيوسياسية الحاليّة في المنطقة المخاطرة الثالثة لعملية الاكتتاب، حيث إنها لا تساعد في إنجاح طرح عام أوليّ، وصحيح أن السعوديين سعوا إلى تهدئة الأمور مع إيران منذ الهجمات النفطية في 14 من سبتمبر/أيلول الماضي، إلا أن ذلك لا يعني أن المنطقة باتت آمنة، فاحتمالات استهداف الشركة أو المملكة بهجمات أخرى من الحوثيين أو الحرس الثوري لا تزال قائمة وهو ما يضع الاكتتاب في موقف صعب.
الرأي ذاته اتفقت معه شبكة “بلومبيرج” في افتتاحيتها أول أمس، حيث كشفت أن الاضطرابات السياسية وأعمال الإرهاب كالتي وقعت في البقيق منتصف سبتمبر قد “تؤثر ماديًا وسلبيًا” على أرامكو وسعر السوق للأسهم، هذا بخلاف قانون العدالة الأمريكية ضد رعاة الإرهاب، المعروف باسم Jasta، فقد ينسحب من هذا القانون بندًا لمقاضاة أرامكو، على غرار المطالبة المرفوعة مؤخرًا ضد موتيفا.
الشبكة الأمريكية كشفت كذلك أن أي قرار سيادي تتخذه المملكة كعضو في منظمة أوبك “ترسله الحكومة للشركة ويمكن أن يكون له تأثير مباشر على الشركة”، وهو ما يزيد من تخوفات المستثمرين حيالها، هذا بخلاف التغيرات المناخية التي ربما تقلل من الطلب العالمي على الهيدروكربونات والمنتجات القائمة على الهيدروكربون، وهو ما قد يزيد من احتمالية مقاضاة الشركة والشركات التابعة لها بسبب عوامل التلوث البيئي.
وقد اختتمت بلومبيرج افتتاحيتها بالمخاطر الناجمة عن تأثير الوضع المالي للشركة السعودية بتعامل أرامكو بالدولار في توزيع الأرباح، وفي حال إذا لم يعد الريال السعودي مرتبطًا بالدولار الأمريكي وتغيرت على أساسه قيمة العملة المحلية السعودية، فقد يكون على الشركة إنفاق أموال إضافية لتمويل أي أرباح وهو ما سينعكس بالفعل على قدراتها المالية.
إعادة التأهيل السياسي لولي العهد
الباحث في شؤون منطقة الشرق الأوسط والدراسات الإفريقية في “مجلس العلاقات الخارجية” الأمريكي في مقاله يرى أن هناك شيئًا آخر يجري داخل كواليس عملية الاكتتاب، وصفها بأنها “عملية إعادة التأهيل السياسي لولي العهد”، لافتًا إلى أن أنصار ابن سلمان سيزعمون أنه لا يحتاج إلى إعادة تأهيل لأنه دائمًا ما حظي بدعمٍ وتأييد واسع في السعودية.
وأضاف أن ذلك قد يكون صحيحًا، ومع ذلك فلتحقيق رؤية 2030، يحتاج ابن سلمان إلى بعض السمعة الجيدة والنوايا الحسنة التي تمتع بها حتى منتصف عام 2017، لكن هناك مشكلة واحدة فقط وهي أن الاكتتاب العام الأولي لأسهم أرامكو ينطوي على مخاطرة أكبر بكثير مما يُقرّ السعوديون به.
كما أوضح كوك أن ولي العهد يعتقد أن الاكتتاب العام يأتي في وقت مناسب، إذ سيوفر زخمًا وقوة دافعة لرؤية 2030، التي لم تتقدم كما كان يأمل السعوديون، كذلك فإن مجرد خطوة تعويم الأسهم، ستتيح له التأشير على تحقق شيء ما من قائمة خطوات رؤيته، علاوة على أنه يعني أيضًا تغيير السردية التي هيمنت على النقاشات المتعلقة بالسعودية منذ منتصف عام 2017، بل وبالأحرى منذ اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
الكثير من الآراء ذهبت إلى أن أهدافًا سياسية تقف وراء عملية الطرح، فالأمير الطامح في الكرسي يأمل في تسويق الشعارات التي رفعها على مدار الأعوام الأربع الماضية، وفي ظل عدم وجود تمويل كافٍ لترجمة هذه الشعارات ما كان أمامه إلا المخزون الإستراتيجي الأقوى في المملكة للاعتماد عليه.
أنصار هذا الرأي يميلون إلى أن الاكتتاب العام لا يعدو كونه مجرد عرض يهدف إلى تسليط الضوء على رؤية ابن سلمان ومجهود العلاقات العامة الشاق الذي يبذله ليروّج لاضطلاعه بحملةٍ ستنقل المملكة إلى آفاق القرن الحادي والعشرين، مثله مثل مشروع نيوم وغيرها من المشروعات التي تندرج في حقيقتها تحت شعار الدعاية السياسية أكثر منها مشروعات اقتصادية.
وعليه يرى هذا الفريق أن النتائج الاقتصادية المتوقع حصادها من وراء هذه الخطوة لن تلبي مطلقًا أحلام السعوديين وطموحاتهم إزاء خطوة بحجم التي تتم الآن، وهي الخطوة التي كانت مستبعدة لسنوات طويلة، إذ ظلت الشركة منذ نشأتها حكرًا على العائلة المالكة وفقط، ليبقى السؤال: هل تساهم عملية الاكتتاب في تنويع اقتصاد المملكة؟
عدد من العائلات السعودية – بعضُ أفرادها كانوا ممن احتُجزوا بفندق ريتز كارلتون عام 2017 ضمن ما أطلق عليه حملة لمكافحة الفساد – تتعرض للضغط لدفعهم إلى المساهمة بمبالغ ضخمة بالشركة
تنويع الاقتصاد السعودي
العائد المتوقع من وراء عملية الطرح الأولي للشركة يترواح وفق ما ذهبت التقديرات بين 24 مليار دولار و115 مليار دولار، هذا في حال أن سارت الأمور على ما يرام، وهنا تساؤل: هل تكفي هذه الأموال لتغطية حجم النفقات الكبيرة وسد العجز في الموازنة الذي يواصل تصاعده للعام الخامس على التوالي؟
وفي قراءة سريعة لنوافذ الصراع السعودي، داخليًا كان أو خارجيًا، نجد أن هذه الأموال من الصعب أن تحقق الاكتفاء، فالجبهات المفتوحة في اليمن وسوريا فضلاً عن كلفة التصعيد مع إيران، تلتهم الجزء الأكبر من موازنة المملكة، الأمر الذي يحتاج إلى مئات المليارات لتغطيتها بالصورة المأمولة.
ومع ذلك يبدو أن العوائد المتوقعة من الطرح ستُستخدم في الغالب لإنجاز أهداف ولي العهد فيما يتعلق بإعادة تشكيل الاقتصاد والمجتمع السعوديين، لكن هذا الأمر يتطلب المزيد من الحذر والتأمل، فبينما يؤمل السعوديون أنفسهم بتنويع اقتصادهم حتى لا يكون اعتمادهم الكامل على النفط، يفند الواقع وبصورة كبيرة تلك الآمال.
جدير بالذكر أن مديري الأموال بمن فيهم “أليانز بيرستين” و”يونيون برايفاتفوندس إنفسمينت” ومقرها فرانكفورت بألمانيا يعتقدون أن أرامكو تساوي أقل من 1.7 تريليون دولار، وهو المبلغ الذي يقال إن ابن سلمان مستعد لقبوله، هذا بجانب قلق تلك الشركات من أن الحكومة السعودية – التي قد تبيع نحو 2% فقط من أرامكو – لن تعطي رأيًا كافيًا للأقلية من المساهمين.
الضغط على العائلات الثرية
وفي تقرير مشترك آخر لعدد من الباحثين أفاد أن السعودية ستعتمد على الصين والعائلات الثرية بالمملكة لإنجاح الاكتتاب العام لأرامكو، في ظل عزوف المديرين الماليين الدوليين، كاشفًا أن عددًا من العائلات السعودية – بعضُ أفرادها كانوا ممن احتُجزوا بفندق ريتز كارلتون عام 2017 ضمن ما أطلق عليه حملة لمكافحة الفساد – تتعرض للضغط لدفعهم إلى المساهمة بمبالغ ضخمة بالشركة، من بينها عائلتا العليان والوليد بن طلال، كما يتم حاليًّا السعي للحصول على التزامات من عائلتي المجدوعي وتركي لنفس الغرض، وفق ما ذكر التقرير.
وجاء في التقرير الذي نشرته “بلومبيرغ” أنه بعد مرور أسبوع على إعلان طرح أرامكو بالبورصة السعودية، بدأت ملامح الصفقة في التشكل، إذ يُقبل عليها المستثمرون ذوو الأهداف السياسية والإستراتيجية، ولكن يبدو أن كثيرًا من المديرين الماليين الدوليين اختاروا عدم المشاركة على الأقل حتى يقرر ولي العهد خفض طموحاته بشأن قيمة الصفقة.
“الضغط على المواطنين الأثرياء للاستثمار في أرامكو في محاولة لتعزيز تقييم الشركة لن يؤدي إلا إلى تعزيز المخاوف بشأن الحوكمة” فيريسك مابلكروفت
وفي الإطار ذاته يشير التقرير إلى أن الصين التي تعتبر أكبر مستورد للنفط قد يكون لها دور هي الأخرى في عملية الشراء، فقد تلتزم بما يصل إلى عشرة مليارات دولار من خلال صناديق الثروة السيادية وغيرها من الشركات المملوكة للدولة، وذلك وفقًا لأشخاص مطلعين على الوضع.
ووفق التقرير فإن مديري الصناديق يظلون متشككين حتى مع تخفيض الرياض التقييم المستهدف لأرامكو من تريليوني دولار إلى نحو 1.7 تريليون، لافتًا إلى أن ولي العهد حاصر نفسه من خلال المطالبة بتقييم تريليوني دولار للشركة، وهو رقم يعتمد على مقارنة احتياطيات السعودية النفطية الهائلة مع تلك الموجودة لدى شركات النفط العالمية الكبرى مثل شركة إكسون.
المحلل الرئيسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشركة فيريسك مابلكروفت، توربيورن سولتفلدت، يقول إن الضغط على المواطنين الأثرياء للاستثمار في أرامكو في محاولة لتعزيز تقييم الشركة لن يؤدي إلا إلى تعزيز المخاوف بشأن الحوكمة، لافتًا إلى أن مديري الصناديق يشعرون بالقلق من أن الحكومة – التي قد تبيع ما يقارب 2% فقط من الشركة – لن تعطي رأيًا كافيًا لمساهمي الأقلية.
وعلى الأرجح فإن الأيام القادمة ستحمل الكثير من التطورات بشأن عملية الطرح الأولي للاكتتاب بعملاق النفط السعودي، وفي ظل تنوع الدوافع والأهداف وراء هذه الخطوة في هذا التوقيت تبقى كل الخيارات متاحة، لكن تبقى مسألة تحقيق هذه العملية لطموحات السعوديين السؤال الأبرز الذي يحتاج إلى إجابة.