بدلًا من السفر إلى إيطاليا أو فرنسا على سبيل المثال، لوحظ في السنوات الأخيرة، زيادة كبيرة في عدد السياح الذين يتوجهون إلى دول العالم الثالث – غالبيتها بلدان إفريقية وجنوب آسيوية – مثل كينيا وتنزانيا وكمبوديا وجنوب إفريقيا وتايلاند والهند وفيتنام والبيرو وكوستاريكا، ضمن ما يُعرف بـ”السياحة التطوعية” التي تعني دمج السفر مع العمل الخيري خلال الإجازات.
تدير المنظمات الدولية والهيئات التطوعية الخيرية هذا النوع من السفر، إذ تسمح للسائح المتطوع المشاركة في المشاريع التنموية والإنسانية التي تحدث فرقًا في العالم، وبحسب اهتمامه، يمكنه الاختيار بين عشرات المشاريع والقضايا التي تتنوع بين التعليم والرعاية الصحية والبيئة، لكي تبدأ رحلته الخيرية، كمدرس في مكان ما جنوب شرق آسيا، أو في مركز للأيتام لرعاية الأطفال في بلد إفريقي، أو أن يكون جزءًا من مشروع إنقاذ الحياة البرية في أمريكا اللاتينية.
شعبية واسعة
رغم وجود العمل التطوعي لأكثر من قرن، فإن الجانب ذي الطابع السياحي منه بدأ بالظهور في الستينيات من القرن الماضي وتحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية. ومع مرور الوقت، اكتسبت هذه السياحة صيتًا واسعًا في فترة التسعينيات، وتمت صياغة مصطلح “السياحة التطوعية” بشكل رسمي في عام 1998 من قبل مجلس نيفادا للسياحة لجذب السكان المحليين لدعم السياحة في المناطق الريفية، وتدريجيًا تزايد عدد المتطوعين الذين يسافرون حول العالم، بفضل التكنولوجيا الجديدة وصعود وسائل التواصل الاجتماعي التي عززت الوعي العام بشأن القضايا الدولية، ما ساعدها في خلق شعور بالتقارب مع بقية المجتمعات.
ووفقًا لمسح أجرته شركة “Marriott Rewards Credit Card، عام 2015، قال 84% من جيل الألفية إنهم سيسافرون إلى الخارج للمشاركة في الأنشطة التطوعية، إلى جانب ذلك، نشر تطبيق “بوكينج” الشهير للسفر والسياحة، قائمة عن تنبؤات السفر لعام 2019، ووفقًا للمنصة، يفكر 68% من المسافرين حول العالم في المشاركة بالتبادلات الثقافية لتعلم مهارة جديدة، تليها الرحلات التطوعية بنسبة 54%.
ومع وجود أكثر من 1.6 مليون سائح متطوع ينفقون أكثر من ملياري دولار في السنة، يمكننا القول إن السياحة التطوعية باتت واحدة من أسرع أشكال السفر نموًا اليوم، وإن كانت هذه الأرقام تدل على شيء، فهي تشير إلى أن جيل الألفية ينظر إلى العالم من منظور مختلف، مقارنة مع الأجيال الأخرى، فعلى ما يبدو، استغنت شريحة واسعة منه عن رفاهية السفر المتمثلة بالاستجمام والفنادق، واستبدلوها بأهداف أخرى، تتمثل بالنمو الشخصي واكتسب التجارب الحياتية التي تؤثر في حياة الآخرين وتحدث تغيرات في المجتمعات ككل.
تعد هذه التجربة تحديًا للمتطوع، لأنها ترغمه على الخروج من “منطقة الراحة” الخاصة به واكتشاف نقاط القوة والضعف الحقيقية لديه
يضاف إلى تلك الأسباب، التخلص من تكاليف السفر المرهقة والميزانيات المحدودة، لا سيما أن الرحلات الجوية للبلدان النامية منخفضة التكلفة، ما يسمح للمتطوعين السفر إليها مرارًا وتكرارًا دون التقيد بالمصاريف، مع العلم أن المنظمات الدولية تمول بعض البرامج والمشاريع، وحينها لا يلزم السائح المتطوع التفكير كثيرًا بالمسائل المالية، ما يجعل السياحة التطوعية خيارًا مثاليًا للعديد من الأشخاص.
وبما أن المسافر الألفي متحمس لاستثمار طاقاته وابتكاراته ومهاراته في العالم، فلا بأس من الاستفادة منها في أكثر المناطق احتياجًا لها، خاصةً أن التطوع يمنحهم شيئًا إضافيًا على المستوى الشخصي أيضًا، إذ تعد هذه التجربة تحديًا للمتطوع، لأنها ترغمه على الخروج من “منطقة الراحة” الخاصة به واكتشاف نقاط القوة والضعف الحقيقية لديه، أما فيما يخص الصعيد المهني، فهي تزيد سيرتهم الذاتية قوة وربما تميزهم عن غيرهم من الأشخاص المرشحين للوظائف ذاتها.
ومع أنهم يجمعون بين المصلحة الشخصية والعامة في الوقت نفسه، بنية حسنة ودافع أخلاقي، إلا أن السياحة التطوعية تعرضت لانتقادات شديدة من عدة أوساط ولأسباب مختلفة.
تشكيك
لا ينظر الجميع إلى السياحة التطوعية بطريقة إيجابية، إذ يشكك بعض الأشخاص في تزايد شعبية العمل التطوعي ويتساءلون ما إذا كانت هذه الرحلات تساعد الشباب على دعم سيرتهم الذاتية وطلباتهم الجامعية والوظيفية أكثر مما تساعد المحتاجين في المناطق المنكوبة.
ففي كل عام، يزور الآلاف من السياح دور الأيتام في كمبوديا ظنًا أنهم يساعدون بعضًا من أكثر الأطفال ضعفًا في العالم، ومع ذلك، وجدت التقارير الأخيرة أن زياراتهم قد تضر أكثر مما تنفع، نتيجة لذلك، أطلقت منظمة Friends International غير الحكومية حملة تدفع السياح لإنهاء سياحة الأيتام في كمبوديا، بدعم من اليونيسف، على اعتبار أن مراكز الأيتام يجب أن تكون أماكن آمنة للأطفال وليست وجهة سياحية.
في هذا الخصوص، قال ممثل اليونيسف في كمبوديا، ريتشارد بريدل، إن عدد الأطفال الأيتام انخفض في كمبوديا، لكن السنوات الأخيرة شهدت زيادة مطردة في عدد المؤسسات السكنية في جميع أنحاء البلاد، فبحسب تجربته، أظهرت الأبحاث أن 28% فقط من الأطفال في دور الأيتام فقدوا كلا الوالدين ولكن البقية تم الضغط على عائلاتهم لوضعهم في تلك المؤسسات واستغلالهم في جمع الأموال.
يضاف إلى ذلك، دراسة بينت أن زيارة دور الأيتام تؤثر سلبًا على نمو الأطفال وتدعم نظامًا يساهم في انهيار المنظومة الأسرية، كما أشارت تقارير أخرى في نفس السياق أن عدد دور الأيتام في كمبوديا ارتفع بنسبة 65% منذ عام 2005، مما يعكس زيادة مماثلة في عدد السياح الذين يزورون البلاد، وبدلًا من الزيارات السياحية، يُنصح بالانضمام إلى البرامج التي تدعم وتشجع الرعاية الأسرية والمجتمعية بدلًا من تحويل الأيتام إلى معالم سياحية.
تساهم السياحة التطوعية في تعزيز الصورة النمطية التي تبرز صورة السائح الأبيض الذي يساعد الأطفال الأفارقة، كما تديم فكرة إفريقيا، القارة الفقيرة اليائسة التي تحتاج إلى الخير من المجتمعات الغربية
من جهة أخرى، يرى النقاد أن هناك عدة مخاطر في نداءات المنظمات والمبادرات للمشاركة بهذه الأنشطة، التي تستهدف في الغالب الطلاب الذين يعتزمون خدمة المجتمعات الفقيرة ولكنهم يفتقرون إلى المهارات والمعرفة والخبرة اللازمة في التعامل معهم، وبالتالي تصبح مشاركتهم سطحية ولأغراض شخصية ليس أكثر.
ولا شك أن نداءاتها للجمهور الغربي ومواطني الدول الغنية، يساهم في تعزيز الصورة النمطية التي تبرز صورة السائح الأبيض الذي يساعد الأطفال الأفارقة، كما تديم فكرة إفريقيا، القارة الفقيرة اليائسة التي تحتاج إلى الخير من المجتمعات الغربية، وبطبيعة الحال، لا يمكن لأطفال هذه المنطقة الهروب من الفقر والعنف دون أن يمد الغرب يده لنجدتهم.
وأخيرًا، يرى آخرون أنه يمكن توفير أموال المتطوعين ونفقاتهم في بناء مدارس ومشاريع في الدول النامية بدلًا من استنزاف الموارد على ترسيخ التبعية والقوالب النمطية للبلدان الفقيرة. ولذلك يعد الحل الأمثل للحد من هذه الفوضى هو إعادة استخدام الأموال والتمويلات التي تحصل عليها الحكومات والمنظمات في خدمة تلك المناطق عوضًا عن تصوير الغرب بمظهر الحداثة والإنسانية، كما لا ننسى أن التغيير يبدأ قبل كل ذلك من المتطوع نفسه الذي بدوره يجب أن يسأل نفسه عن أسباب تطوعه الحقيقية وما إذا كانت جهوده تحقق الغايات المتوقعة من السفر التطوعي.