خلال 40 عامًا من حكم عائلة الأسد لسوريا، عانى الشعب السوري من حالة كبت ممتدة وقاهرة، منعوا خلالها حتى من التعبير اللفظي والكتابة، ولم يعبروا عن أحلامهم وآلامهم وآمالهم لأن عاقبة ذلك كانت لتكون الموت أو الغياب وراء القضبان، إلى أن جاءت الثورة السورية وانعتق الكلام وتفجر الإبداع، فكانت الانتفاضة السورية في مارس/آذار شرارةً لاندلاع الإبداع والفن من مكامنه والتعبير عنه بوسائله الصحيحة التي كانت ممنوعةً في زمن الجلادين حافظ وبشار الأسد.
فأعطت الثورة السورية مساحةً واسعةً من الإبداع، وعوضت بعضًا من جفاف السنوات السابقة، وأعطى ما رسمته هذه الانتفاضة في ذاكرة الإبداع للثورات في دول العالم، صورةً عظيمة عن الكم الهائل لما يستطيع الإنسان السوري فعله عندما يحظى بحريته، إلا أنه كان لزامًا وواجبًا بعد كل هذا، توثيق مرئي ومسموع ومكتوب لما حدث خلال السنوات الماضية، وذلك لبناء رواية صادقة عن الثورة وحقيقتها بلسان وصورة أصحابها الحقيقيين.
نفرد في “نون بوست” عدّة تقارير عن الذاكرة الإبداعية للثورة السورية وما تحتويه من فن مرئي ومسموع ومكتوب وفنون الجرافيتي والنحت، مع تسليط الضوء على أهم الأعمال التي توثق للسنوات الماضية، وكنّا قد أفردنا حوارًا مع سنا يازجي مؤسسة الموقع التوثيقي للذاكرة الإبداعية للثورة السورية، ذكرت فيه أهمية كتابة تاريخ الثورة كوثيقة تاريخية شاهدة على الثورة وما نتج عنها.
الثورة السورية منحت الكتاب والأدباء دافعًا كبيرًا للتعبير والكتابة، كما أنها صنعت كتّابًا جددًا أنجزوا أعمال لاقت نجاحًا باهرًا، وتنوعت أعمالهم بين الرواية والقصة والتحليلات السياسية والمذكرات والشعر.
وفي هذا التقرير، نلقي نظرة على عدد من أبرز تلك المؤلفات التي وإن كان مؤلفوها لا يزعمون أنها توثق الثورة كسردية وحيدة، إلا أن بمجملها مع بقية المرويات من وجهة نظر الثائرين تمثّل صورة متكاملها عن أحداثها ومعطياتها وظروف انطلاقها واستمراريتها أو حتى تعثرها.
إثبات أحقيتنا
“روايات الشعوب لقصصها لا تخدم فقط التاريخ وإنما لها أثر مباشر على واقعنا وتحدياته لأن الإنسان يرى نفسه كقصة ويفهم نفسه من خلالها ويرى موقعه من هذا العالم”، على ما تقول الباحثة الأنثروبولوجية خولة طمليه، في حديث لنون بوست، وترى أنه “يحيط الإنسان نفسه برواية يتشارك فيها مع روايات الإنسانية، فهناك قصص للمظلومين وقصص للثائرين وقصص أخرى تستلهم خيال الشعوب وتقدم لهم معاني الإنسانية”.
وتشير إلى أن “تحدي الشعوب لا يكمن فقط في نقل الواقع وإنما في تأويله أيضًا، إذ يقوم التأويل بإعادة تقديم الحدث وإيجاد معنى له. لذلك تتصل الرواية بالحرب وتحدي صاحب السلطة في روايته التي يحاول فرضها على الشعوب”، وتشير طمليه أن فكرة التأويل تحدٍ صعب.
وتوضح طمليه أن الأنثروبولوجيا تحوي شواهد متعددة عن استغلال تأويلات خاطئة عن قصص الشعوب لصالح المشروع الاستعماري. وتؤكد “تلك الشواهد أن الرواية هي الأداة المفضلة للتحكم بالشعوب واستخدامها كتبرير لأفعال الظلم والقسوة”، أما عندما “ننقل روايتنا عن طريق الفن أو الأدب فإننا نخلق أنفسنا من جديد معلنين أننا ما زلنا هنا”.
وعودًا إلى الباحثة خولة طمليه التي تقول: “تصبح القصص أكثر رمزية مع الحروب والأزمات حتى تتحول بعضها إلى أساطير، أساطير لا بمعنى الخيال ولكن قصص تربط الإنسان بوجوده وتشبكه مع الواقع وتقدم له إجابات وتصورات عن هذا العالم”.
الآن، دعونا نتعرف على أهم كتب الثورة السورية:
“عطب الذات”
في هذا الكتاب الذي مثّل ثورة في كتب الانتفاضة السورية وسرديتها، خلع برهان غليون المعارض السوري العتيق كل المجاملات السياسية وأعطى في سرده نظرة شاملة لكل الأجسام السياسية في الثورة والعلاقة بين الكيانات والمؤسسات بسلبياتها، فيما قيّم من منظوره الشخصي بعض من شاركوا في العمل السياسي ضمن منظومة المعارضة، وبنى الكتاب في قسمه الأول على المذكرات الشخصية، فغليون من أشهر شخصيات المعارضة السورية، متناولًا ذاكرته السياسية والأكاديمية ومتحدثًا عن مشاركته في ربيع دمشق وأحداثه.
أما في جزء من أجزاء الكتاب، فيتكلم غليون عن التدخل الخارجي بمسار الكيانات والفصائل الثورية، فيما يسرد الكاتب “وقائع ثورة لم تكتمل”، ويقول الباحث السوري أحمد أبازيد عن الكتاب: “ينبغي تصنيف الكتاب ضمن مراجعات الثورة السورية وأداء المعارضة السياسية، التي كان برهان أحد قياداتها وتحمّل مسؤولية تمثيلها في واحدة من أهم مراحلها”.
إلا أن الكتاب حاله كحال باقي الأشياء في الثورة لم يجد اتفاقًا من المكونات المعارضة بشأن فحوى ما جاء فيه، وفي رده على غليون كتب المعارض السوري فايز سارة ردًا تناول فيه كلام الكاتب عن الدور السلبي للمثقفين وتحميلهم فشل “المجلس الوطني”، قائلًا: “لكن وللحق فإن المسؤولية الأولى هي مسؤولية الرئيس الذي لم يضع رؤية سياسة واضحة لمسار المجلس تحدد سياساته وأهدافه، ولم يتبن سياسات أكثر تناسبًا مع الحاجة، واكتفى بالشعارات، وفي الممارسة كان متفردًا وحذرًا ومتوجسًا حتى مع الأقربين”.
“وثار الياسمين”
تورد الكاتبة إيمان محمد خواطرها التي جالت برأسها وحكاياتها التي حصلت معها في مدينة الوعر في حمص عاصمة الثورة أيام حصارها، وتتحدث محمد بلسان كل سوري عاش حالة الحصار التي فرضها جيش الأسد على المناطق لإخضاعها، وتخاطب الثورة وأهلها، فيما كان عنوان الكتاب يدل على حالة من العاطفة تجاه سوريا، وتقول محمد في مقدمة الكتاب: “لذلك عندما يثور الشعب فإن الياسمين يعلن ثورته، لينال حريته، وهو الذي اعتاد دائمًا على كسر القيود، فلا السجان قادر أن ينال من طهره، ولا الجلاد متمكن من هزيمته”.
“أيام في بابا عمرو”
تعتبر هذه الرواية من أول ما كُتب في الثورة السورية، خصوصًا أنها بنيت على أحداث مدينة بابا عمرو صاحبة المعارك الأولى بين الجيش الحر وجيش النظام، ويروي الأديب السوري عبد الله مكسور في مؤلفه، قصةً لشاب يأتي من المهجر بعد اندلاع الثورة ليوثق بكاميرته ما يحدث، ويستعرض المكسور من خلال حروفه ما يقوم به النظام وشبيحته من اعتقال وقتل.
يبدأ المكسور روايته بأن الكتابة للأوطان “مهمة قاتلة” ثم يسير بطرقات معبدة تارة ومتعرجة تارة أخرى، لتبدأ الأحداث بعودته إلى بلاد كل من فيها يريد الخروج منها، ويرى البعض أن “أيام في بابا عمرو ليست روايةً توثيقيةً لتفاصيل حدثت مع صاحبها، بل حكاية الجرح السوري الذي لم يعد يخفى على أحد، الجرح المستمر لأكثر من عامين ولم يندمل”.
“مدن اليمام”
من خلال قصة اعتقال ولدها، خطت الكاتبة ابتسام تريسي روايتها التي توثق فيها القمع الأسدي لسوريا، وتجري تريسي مقاربة بين ما فعله حافظ الأسد من إجرام في 1982 وما يفعله ابنه بشار مع الشعب السوري من أساليب قمع وتعذيب، موضحةً أن العقلية البعثية والأسدية واحدة ولم تختلف، فأبوها كان معتقلًا في عهد الأسد الأب ليعتقل الأسد الابن ولدها.
تستند الكاتبة في رصدها لما يجري من قمع للبلاد في فترة كتابتها للرواية، على صديق لها اسمته “حنظلة”، روي حنظلة للكاتبة قصصًا كثيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما تتكلم عن إعلام النظام وكيفية تعاطيه مع أحداث الثورة، وكيف اخترع قصصًا وهميةً وألصقها بنقاء الثورة.
“سوريا الثورة اليتيمة”
يوثق الكاتب اللبناني زياد ماجد في كتابه سوريا الثورة اليتيمة، أحداثًا في الثورة السورية، فيما يوجه نقدًا عنيفًا للنظام السوري وحلفائه، كما أنه يساند ضحايا النظام بقلمه، ومن الأفكار التي يوردها في كتابه، فكرة تماهي السوريين في الموت من جهة والاحتفاء به كدلالة على استمرار الثورة والتصميم على اقتلاع عائلة الأسد من جهة أخرى، إذ لم يعد لكلّ ميت جنازة تردّد فيها خصاله، حيث يقول الكاتب “إذ كيف لمئة شخص أردتهم السكاكين أو البراميل المتفجرة في ساعات معدودة أن يحتفى بهم واحدًا واحدًا في حين أنهم تماهوا وتوحّدوا في ساحة الموت وميعاده”.
“ديوان المنفى”
حضر الشعر عند عدد من السوريين في روايتهم للثورة السورية، ولعل الشاعر أنس الدغيم كان أقربهم للواقع وأبرزهم في توصيف الحالة ونظم الأبيات للثورة وأهلها. أطلق الدغيم ديوان المنفى في تركيا، وغاص الشاعر بالقضايا الاجتماعية والإنسانية المعبرة عن هموم السوريين، لكن قصيدة المنفى طغت على الباقي حتى سمي بها ديوانه، يقول الدغيم عن ديوانه: “الثورة السورية فتحت بابًا لمخزون تصويري هائل للشعراء في أمور لم يجربوها مشاهدة ولا معاينة ولا حتى في الكلام، فأصبح الشاعر يكتب وهو حر، وهذا مختلف عن كتابته وهو حبيس كلماته وحساباته”.
“حالات حرجة”
ربما يحمل هذا الكتاب خصوصيةً عالية، كون مؤلفه هو “هادي العبد الله”، الصيدلاني الذي تحوّل إلى أشهر إعلاميي الثورة السورية على الإطلاق وأحد أيقوناتها ووجوهها البارزة والذي كان حاضرًا في أغلب الجبهات وأسخنها، الفتى الذي عرفناه صوتًا باكيًا من حمص التي شهدت حربًا شعواء من نظام الأسد، يتكلم الناشط والصحفي السوري عن سرديته من قبل الثورة حتى هذه الأيام، يتكلم عن المظاهرات والمعارك والحالات الزاخمة التي مرت في شريط مشاهداته.
سرد هادي قصصه مع رفاقه الشهداء، بدءًا بمصوره الأول طرّاد الزهوري، ثم مصوره الثاني خالد العيسى، إضافة إلى رائد فارس وحمود جنيد، وكلهم أدركتهم يد الموت، يقول هادي إن عددًا من أصدقائه ومعارفه طلبوا منه أن يدون اليوميات التي عاشها منذ بداية الثورة، لكن الأمر كان صعبًا نوعًا ما لأنه عاش حصار حمص في البدايات ومعارك القصير القاسية والقلمون وريف دمشق، ولم يكن متفرغًا لكتابة اليوميات لا نفسيًا ولا فكريًا.
ويشير العبد الله إلى أن فكرة كتابه ولدت بعد أن كتب أكثر من مدونة في رثاء صديقه الشهيد خالد العيسى، وكان كما قال “من الصعب أن أكتب كل شيء عشته”، وأشار إلى أن صديقه المحرر جود اقترح عليه أن يكتب كل ما مر به من مشاهدات على الثورة السورية على أن يتولى جود مسؤولية تحرير هذا الكتاب الذي لا يحمل صورًا أدبية بقدر ما يقص من سير وشواهد من أيام الثورة.
ليست هذه الكتب هي كل ما صدر من مؤلفات عن الثورة السورية، فالحق أن هناك عشرات الكتب التي نشرها سوريون ومتابعون عرب وأجانب عن ثورة الشعب السوري، وقد اخترنا منها هذه الكتب التي رأينا أن كل واحد منها يغطي جانبًا من الثورة، وما تزال الثورة وأحداثها تعجّ بما يجب أن يُوثّق ويكتب عنه.