بينما يشتعل الشارع اللبناني تنديدًا بالسياسات المالية والنقدية التي قال إن المصرف المركزي اعتمدها منذ سنوات، وجاءت لمصلحة المصارف، خرج حاكم مصرف لبنان “البنك المركزي” رياض سلامة – عكس المتوقع – برسائل طمأنة – كلامية- للبنانيين بشأن واقعهم ومستقبلهم المالي.
سلامة خلال مؤتمر صحفي عقده في مبنى البنك المركزي الرئيسي بالحمرا، ظهر أمس، وقال بمنتهى الشفافية إن بلاده مرت بمراحل كثيرة “واستطعنا المحافظة فيها على سعر صرف الليرة. ابتداء من 2015، واجهنا العقوبات التي كان لها تأثير على حركة الأموال إلى لبنان”.
وأضاف أن مصرف لبنان لعب الدور المرسوم له كما حدده القانون رغم الضغوط التي تعرض لها اقتصاد بلاده خلال العامين الماضيين، لافتًا إلى أن ذلك تجلى في الحفاظ على الثقة بالليرة اللبنانية التي هي أداة لتأمين نمو اقتصادي واستقرار اجتماعي، منوهًا “هذا النجاح في المحافظة على الليرة نقيسه بمقدار ما خدم اللبنانيين وقدم لهم العيش الكريم”.
نجح حاكم البنك المركزي خلال مؤتمره في إلقاء الكرة بملعب السياسيين محملاً إياهم مسؤولية تردي الوضع الاقتصادي بهذه الكيفية، في الوقت الذي كان يتوقع فيه الكثيرون أن يأتي خطابه على عكس ذلك، لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيًا للشارع الذي لم ينخدع بالرسائل المراد توصيلها إليه ليواصل الاحتجاج والتظاهر.
تأتي تصريحات سلامة في الوقت الذي تتصاعد فيه أزمة سيولة كبيرة وشح في الدولار، وبعد تحديد المصارف سقفًا للمبالغ التي يمكن سحبها وتقييد عمليات التحويل من الليرة اللبنانية إلى الدولار، مما أثار حالة هلع لدى المودعين والتجار الذين يدفعون للموردين بالدولار.
ظروف استثنائية
أعلن المسؤول الأول عن السياسة النقدية اللبنانية أن بلاده تعيش ظروفًا استثنائيةً، وسط تراجع النمو من 8 إلى 2%، مؤكدًا: “استطعنا الحفاظ على الليرة اللبنانية”، وذلك في ظل التظاهرات المطلبية التي تجوب كل المناطق اللبنانية وأمام مصرف لبنان المركزي أيضًا، وإعلان نقابة موظفي المصارف إضرابهم المفتوح بدءًا من اليوم الثلاثاء احتجاجًا على التعديات التي يتعرضون لها خلال أدائهم وظيفتهم.
وفي الإطار ذاته أوضح قائلًا: “اعتمد لبنان خلال الـ27 سنة الماضية سياسة ساعدت على الأزمات، خدمت اللبنانيين وحافظت على القدرة الشرائية، ووفرّت التمويل للقطاعات والإسكان والصناعة والسياحة والطاقة البديلة، إلا أنها فُهمت بطريقة خاطئة في بعض الأيام”، منوهًا أن الهدف الأساسي لمصرف لبنان هو “الحفاظ على الثقة بالليرة اللبنانية باعتبارها أداةً لتأمين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، والحفاظ على أموال المودعين”.
وفي كلمته أرجع سلامة تحوّل ميزان المدفوعات من الفائض إلى العجز لعدة أسباب، في مقدمتها: الحرب على سوريا والعقوبات الأمريكية والمشاكل الداخلية كالفراغ الرئاسي والصعوبات في تشكيل الحكومة وتراجع التصنيفات الائتمانية للبنان والتقارير السلبية، بجانب تراجع السيولة في الأسواق وبالتالي ارتفاع الفوائد.
هذا بخلاف توسع القطاع العام وارتفاع العجز إلى 11% عام 2018، وتراجع النمو إلى نحو صفر% عام 2018، وبالتالي ارتفاع نسبة البطالة وتوسع تأثيرها على فئات مجتمعية أكبر، وتعثّر المواطنين في تسديد القروض السكنية، علاوة على الهندسة المالية عام 2016 التي سمحت بتكوين احتياطات دعمت الليرة ورفعت رسملة المصارف، ولم تستعمل هذه الهندسات المال العام.
حمّل سلامة استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري خلال وجوده في السعودية قبل عام تقريبًا مسؤولية الوضع النقدي في البلاد
كما أشار إلى أن الودائع التي أخذها المركزي بالدولار من المصارف دفع عليها ما بين 6.15 و6.89 فوائد، لافتًا في الوقت ذاته إلى أن احتياطي مصرف لبنان من دون الذهب يصل إلى نحو 38 مليار دولار من بينها “الأوروبوند” والنقدي واستثمارات المركزي يبلغ نحو 30 مليار دولار.
وعن الواقع المصرفي الحاليّ كشف حاكم البنك المركزي أنه بين يوليو وسبتمبر 2019 ارتفعت موجودات مصرف لبنان ملياري دولار، هذا بجانب ما تعرض له القطاع المصرفي من انتكاسة بعد فرض عقوبات على جمال ترست بنك، الأمر الذي دفع إلى التوجه لسحب كميات كبيرة بالليرة اللبنانية من صناديق مصرف لبنان.
وبشأن رؤيته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه كشف سلامة أن المرحلة الجديدة تتطلب عددًا من الإجراءات المستقبلية على رأسها: المحافظة على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية وتمويل بعض العمليات التجارية والاستيراد وتأكيد التعميم السابق الذي سمح بتلبية الحاجات بالدولار لاستيراد ما يتعلّق بالبنزين والأدوية والقمح والتأكيد أن لا مصارف متعثرة.
موضحًا أن هناك 30 مليار دولار جاهزة للاستخدام من الاحتياطات، ومصرف لبنان طلب من المصارف الأخرى تلبية الضروريات وتحديدًا في عملية تحويل الأموال إلى الخارج، كذلك دراسة كل التسهيلات التي خفضتها منذ مطلع الأزمة، مع الإبقاء على السقف ذاته للبطاقات المصرفية، وحماية لبنان في موضوع العقوبات.
يذكر أن سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة اللبنانية تم تثبيته منذ عام 1999 على 1507.5 ليرة للدولار، بينما ارتفع سعره منذ سبتمبر/أيلول الماضي ليبلغ حاليًّا 1900 ليرة، مما أثار قلق وخوف اللبنانيين.
الكرة في ملعب السياسيين
ارتأى سلامة لنفسه استخدام أسلوب الهجوم كوسيلة للدفاع، فبدلاً من إقرار الواقع الذي آلت إليه المنظومة المصرفية اللبنانية كما كان متوقعًا في كلمته، ألقى الكرة في ملعب السياسين مرة أخرى، محملاً إياهم الجزء الأكبر من مسؤولية ما وصل إليه لبنان خاصة فيما يتعلق بشح الدولار وأزمة السيولة النقدية.
البداية حين حمّل استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري خلال وجوده في السعودية قبل عدة أشهر مسؤولية الوضع النقدي في البلاد، إذ أوضح أن ذلك “تزامن مع توسع في حجم القطاع العام، ووصلنا إلى عجز مرتفع عام 2018 تجاوز 11% من الناتج المحلي الإجمالي. كما أننا شاهدنا تراجعًا في التصنيف الائتماني المتعلق بلبنان، إضافة إلى تقارير عدة سلبية، ما زعزع الثقة، وكذلك فعلت الشائعات وبثّ الأخبار من أشخاص غاياتهم سلبية، ما أضر بمعنويات الأسواق. وفي ظل هذه المعطيات كان هدف مصرف لبنان أن يلعب دوره كما حدّده القانون، وهذا الدور يتجلى بالحفاظ على الثقة بالليرة التي هي أداة لتأمين نمو اقتصادي واستقرار اجتماعي”.
يبدو أن رسائل الطمأنة التي بعث بها رياض سلامة لم تصل لطموحات الشارع، الذي بات لا يؤمن إلا بما هو على أرض الواقع بعيدًا عن التنظير والكلمات المعسولة
كما لفت كذلك إلى أزمة تشكيل الحكومة وعدم استكمال البناء السياسي، الذي كان له دور محوري في الأزمة، إذ أوضح حاكم المصرف المركزي في توجيهاته بشأن الإجراءات التي يجب اتخاذها لتحسين الأوضاع الإسراع في تشكيل الحكومة العتيدة، ومن ناحية ثانية أن تكون الموازنة القادمة من دون عجز وتتضمن تأمين الخدمات الأساسية للمواطن.
وفي السياق ذاته ركز على الآثار السلبية التي أنتجتها الصراعات السياسية على الاقتصاد، لا سيما على مستوى انتخاب رئيس الجمهورية حيث الفراغ الرئاسي لمدتين طويلتين على حد قوله، وتشكيل الحكومات الجديدة وتأجيل إرجاء الانتخابات النيابية، حيث تتفوق المصالح السياسية والشخصية على مصلحة المواطنين واقتصاد البلاد واستقرارها نقديًا وماليًا واجتماعيًا.
الرأي ذاته ذهب إليه رئيس اتحاد نقابات موظفي المصارف في لبنان، جورج حاج، الذي أشار إلى أن حل الأزمة المالية في البلاد، يتمثل في “تأمين الاستقرار السياسي في البلد على الفور وإعادة الثقة بالمسؤولين وبقدرتهم في المجال المالي والاقتصادي”.
حاج في تصريحاته لوكالة “الأناضول” حذّر من تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، معتبرًا أن “لبنان بلد المعجزات، لكنه أمام أزمة خطرة ومن الضروري تكاتف وتعاون الفرقاء فيما بينهم لحل تلك الأزمة، وإلا فإن الاقتصاد في خطر والشعب على شفير الإفلاس”، مضيفًا “مصرف لبنان حاول في السنوات المنصرمة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وأعطت هذه المحاولات نتائج في غاية الإيجابية، لكن لا شك في أن هذه الخطوة كلفت الكثير، خصوصًا أن مصرف لبنان دفع مبالغ طائلة لتحقيق ثبات في سعر العملة المحلية”، واصفًا الوضع الاقتصادي الحاليّ بأنه “غاية الخطورة، بل بات أخطر بكثير من السابق”.
احتجاجات مستمرة
ميدانيًا.. يبدو أن رسائل الطمأنة التي بعث بها رياض سلامة لم تصل لطموحات الشارع الذي بات لا يؤمن إلا بما هو على أرض الواقع بعيدًا عن التنظير والكلمات المعسولة التي تخرج في أوقات الأزمات، فالأرض هي المحك، وفق ما يشير المحتجون الذين أعلنوا مواصلة حراكهم.
ففي أثناء وعقب كلمة حاكم مصرف لبنان تجمع آلاف المتظاهرين في مناطق عدة بالبلاد، من بينها أمام المصرف المركزي، كما تظاهر العشرات أمس أمام منزل سلامة قرب بيروت، وهم يقرعون على الطناجر ويرددون هتافات بينها “كلن يعني كلن سلامة واحد منن”.
أصرّ المتظاهرون في حراكهم على رفع ذات الشعارات رغم تقديم الحريري استقالته، التي تتمحور في رحيل بقية الطبقة الحاكمة وتسريع عملية تشكيل حكومة تكنوقراط مصغرة وإجراء انتخابات مبكرة ومحاسبة جميع الفاسدين في السلطة ورفع السرية عن حسابات السياسيين المصرفية، إذ يمارسون حزمة من الضغوط لأجل تحقيق تلك المطالب منها قطع طرقات حيوية ومحاصرة مؤسسات حكومية.
ومما زاد المشهد تعقيدًا ما أعلنه المجلس التنفيذي في “اتحاد نقابات موظفي المصارف”، إذ قرر في جلسة طارئة عقدها أمس، إعلان الإضراب العام في القطاع والتوقف عن العمل من صباح اليوم حتى عودة الهدوء إلى الأوضاع العامة التي يحتاج إليها القطاع لمعاودة العمل بشكله الطبيعي المعتاد.
ويتزامن ذلك مع التصريحات التي أدلى بها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، حين قال إن هناك مطالب عديدة في الحراك الذي يشهده لبنان ليست محل إجماع، والحزب ليس مضطرًا لإعلان أي موقف بشأن تشكيل الحكومة، في حين أعلن رئيس البرلمان نبيه بري تأجيل جلسة تشريعية كان من المقرر عقدها غدًا.
نصر الله في كلمة متلفزة أمس الإثنين بمناسبة احتفاله بيوم الشهيد أوضح أن من مطالب الحراك التي لا إجماع عليها إلغاء الطائفية والمطالبة بقانون انتخاب جديد، معتبرًا أن مقاومة الفساد في لبنان تحتاج إلى قاض نزيه ومستقل لا يخضع لضغوط السياسيين، مضيفًا أن آليات مكافحة الفساد ليست موجودة عند حزب أو حراك في الشارع، مؤكدًا أن خطوة إنقاذ البلاد بيد الجهاز القضائي.