لم يكن اختيار أبو خالد لمعهد البحوث العربية بالقاهرة لاستكمال مرحلة الدراسات العليا اختيارًا عشوائيًا، إذ استقر في مخيلته أن الحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه من إحدى الجامعات المصرية أسهل بكثير من نظيراتها في البلدان الأخرى، خاصة في السنوات الأخيرة على وجه التحديد.
عبد الله أو كما يلقب بـ”أبو خالد”، الشاب السعودي الذي لم يتجاوز عمره 35 عامًا، جاء إلى مصر في أول زيارة له قبل عشرة أعوام تقريبًا، حينها لم يتعد على تخرجه من جامعة الإمام بالمملكة أكثر من عامين، وجهت له العديد من النصائح باستكمال دراسته العليا في أي من الجامعات المصرية والعودة لبلاده حاملًا شهادة عليا.
لم تكن الشهادات العليا تستهوي الشاب السعودي المرفه، خاصة أنها لن تضيف له شيئًا، غير أن كثرة الإلحاح عليه دفعته لإعادة التفكير مرة أخرى في الأمر، حتى من باب الوجاهة الاجتماعية، لكن الأمور تغيرت تمامًا حين تقلد مراتب عليا في مهام وظيفته بإحدى قنوات التليفزيون السعودي.
في هذا الوقت استهوى عبد الله فكرة دعم سيرته الذاتية بشهادة ماجستير أو دكتوراه تدعم موقفة الوظيفي وتدفع به إلى منصات الترقي في السلم الإداري، وبعد تفكير طويل قرر السفر إلى القاهرة ليبدأ أولى خطوات التسجيل لدرجة الماجستير، ولم يأخذ وقتًا طويلاً في اختيار الجامعة التي سينتسب إليها، إذ انحصرت معظم النصائح في المعهد التابع لجامعة الدول العربية.
صورة تعبيرية
لماذا مصر؟
“لا شك أن الجامعات المصرية من أعرق الجامعات في الشرق الأوسط وبالتالي فإن الحصول على شهادة عليا من إحداها شيء كبير يضاف لأي طالب عربي”، هكذا استهل الشاب السعودي حديثه، معربًا عن كامل تقديره لتاريخ التعليم في مصر وسمعتها الطيبة في السابق على الأقل.
اختيار المعهد جاء بعد استطلاع للرأي أجراه الباحث بشأن طبيعة المناهج التي تُدرس في قسم الإعلام الذي يود الالتحاق به، كذلك مستوى الأساتذة ومدى تجاوبهم مع الطلاب
وأضاف أن حضوره للقاهرة جاء بعد إلحاح شديد من أصدقائه، بعضهم مصريين والآخر سعوديين، حيث أشاروا عليه بالالتحاق في مرحلة الماجستير بالمعهد الذي أسس عام 1945، ثم في الدكتوراه بالانضمام إلى إحدى الجامعات المصرية.
اختيار المعهد جاء بعد استطلاع للرأي أجراه الباحث بشأن طبيعة المناهج التي تُدرس في قسم الإعلام الذي يود الالتحاق به، كذلك مستوى الأساتذة ومدى تجاوبهم مع الطلاب، هذا بخلاف صعوبة الرسائل ومدى التركيز على التفاصيل البينية التي تطيل أمدها.
“وبعد أكثر من زيارة قمت بها للمعهد رفقة أصدقاء لي، بعضها حضرت محاضرات بجانب بعض الزملاء واستمعت لمناقشة الأستاذ للطلاب، قررت الالتحاق”، هكذا أضاف، وعلى الفور تحدث أحد الأصدقاء الفلسطينيين الدارسين في المعهد مع أستاذ بقسم الإعلام هناك وعرفني عليه، فوجدت ترحيبًا كبيرًا منه وشجعني على الانضمام، مؤكدًا لي أن الأمر لن يستغرق وقتًا طويلاً، مبديًا تقديره للدارسين العرب وطموحهم العلمي.. وهنا كانت البداية.
عامان دراسة تمهيدية
تقتضي طبيعة الدراسة بالمعهد عامان دراسيان تحت مستوى “تمهيدي” لإمكانية التسجيل في درجة الماجستير، واختار أبو خالد نظام “الانتساب” حتى يعفى من حضور المحاضرات، فكان يسافر إلى بلاده ليباشر عمله هناك ثم يعود أوقات الاختبارات منتصف ونهاية العام وفقط.
لم تأخذ الدراسة وقتًا ولا جهدًا منه، إذ ساعده في ذلك بعض الملخصات التي يقوم بها عدد من الباحثين المتعاونين مع المعهد، بمقابل مادي، التي تحتوي على أبرز الموضوعات المهمة في المنهج الدراسي، وفي الغالب يأتي منها الامتحان، هذا بخلاف مرونة بعض الأساتذة في الإيحاء ببعض الأسئلة المحتملة في ورقة الامتحان، وليس هذا متاح لكل الدارسين كما يقول الطالب، لكنها تتوقف على درجة القرب بين الطالب والأستاذ.
لم يتردد المشرف طويلاً في دراسة الموضوعين المقدمين، وعلى الفور أقر أحدهما، ليعود عبد الله إلى المكتب مرة أخرى، وفي غضون أقل من يومين، فوجئ الباحث السعودي بأحد الموظفين العاملين في المكتب العلمي يتصل به ليخبره بأن خطة البحث جاهزة
وبسرعة البرق انتهى العامان بحصول أبو خالد على درجة الدبلومة بتقدير جيد جدًا، ليدخل مرحلة جديدة، حيث اختيار موضوع التسجيل الخاص بدرجة الماجستير، وهنا كان لا بد من مساعد، لكن الأصدقاء لم يتركوا له فرصة للتفكير، وعلى الفور اصطحبوه إلى إحدى المكتبات العلمية في منطقة المنيل بالقاهرة، هذا المكان الذي وصفه صاحبه بـ “المخزن الإستراتيجي للرسائل”.
هناك التقى الشاب السعودي بالدكتور عاصم، الأكاديمي بجامعة القاهرة الذي يملك هذا المكتب لإعداد الرسائل العلمية للطلاب العرب على وجه الخصوص، وبعد مناقشات بشأن طبيعة دراسة عبد الله، حدد الأستاذ الجامعي موضعين لعرضهما على الأستاذ الذي قرر الشاب التسجيل معه، وهو نفس الأستاذ الذي التقى به قبل عامين حين قرر الالتحاق بالمعهد.
لم يتردد المشرف طويلاً في دراسة الموضوعين المقدمين، وعلى الفور أقر أحدهما، ليعود عبد الله إلى المكتب مرة أخرى، وفي غضون أقل من يومين، فوجئ الباحث السعودي بأحد الموظفين العاملين في المكتب العلمي يتصل به ليخبره بأن خطة البحث جاهزة، وعليه أن يأتي لاستلامها لعرضها على مجلس المعهد.
5 آلاف دولار ثمن الشهادة
“بعد ماراثون من الفصال مع مدير مكتب المنيل الخاص بإعداد الرسائل العلمية، توصلنا في النهاية إلى 5 آلاف دولار قيمة إجمالية للرسالة، تتضمن خطة البحث والمصادر وكتابة الرسالة والإحصاء وإعداد برومو العرض وصولاً إلى تجليدها بعد مراجعة المشرف” وفق ما ذكر الباحث السعودي.
وعما إذا كان هذا المبلغ كبيرًا قال عبد الله: “عندنا في المملكة أضعاف هذا الرقم، غير أن الميزة هنا في مصر أنك لا تتحمل أي شيء، هذا بجانب أن مشرف الرسالة يكون على درجة من اليقين أنك أعددتها في مكتب خارجي، ومن ثم لا يأخذ وقتًا طويلاً في مراجعتها وهو المطلوب إثباته”.
بعد عام ونصف تقريبًا انتهى المكتب من التعديلات النهائية للرسالة وعرضت على مجلس القسم الذي شكل الأساتذة الذين من المفترض أن يناقشوا الباحث، وفي أقل من أسبوع حدد موعد المناقشة، ليحصل أبو خالد على درجة الماجستير في الإعلام بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف
لم يتطلب مكوث أبو خالد في القاهرة لمباشرة رسالته، فالأمر أسهل من ذلك بكثير، فما عليه إلا مراسلة المشرف بالتطورات وإيفاد الرد للمكتب لإتمام التعليمات المطلوب إجراؤها على الرسالة، حيث اقتصرت مهمته على دور المراسلة بين المشرف والمكتب.
وبعد عام ونصف تقريبًا انتهى المكتب من التعديلات النهائية للرسالة وعرضت على مجلس القسم الذي شكل الأساتذة الذين من المفترض أن يناقشوا الباحث، وفي أقل من أسبوع حدد موعد المناقشة، ليحصل أبو خالد على درجة الماجستير في الإعلام بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف.
فرحة عارمة خيمت على أبو خالد وأسرته التي جاءت لحضور المناقشة، وبعدها خرج الجميع، المشرف واللجنة والباحث وأسرته، للاستمتاع بحفل عشاء على أحد يخوت القاهرة احتفالاً بحصوله على الدرجة العلمية التي بلا شك سترفع مكانته الوظيفية في بلاده، ولم ينس صاحب الماجستير “الطازج” أن يفكر في الدكتوراه لكن هذه المرة ستكون وجهته جامعة المنصورة (شرق).
سوق الشهادات العلمية
الأمر لم يكن مفاجئًا للكثيرين، إذ إن سوق الشهادات العلمية في مصر نظير مقابل مادي بات ظاهرة مدوية، ألقت بظلالها الفجة على التعليم خلال العقود الأخيرة، لتحتل بها مصر المرتبة الأولى عربيًا، إذ باتت قبلة الدارسين العرب الأولى، فبها نحو 79 جامعة: 27 منها حكومية و4 جامعات أهلية و20 جامعة خاصة و12 أكاديمية، إضافة إلى 8 كليات عسكرية تتبع وزارة الدفاع، وأيضًا ثلاث جامعات مصرية خارج البلاد، و5 فروع لجامعات مصرية خارج البلاد.
إضافة إلى تلك الجامعات فهناك مئات المؤسسات التعليمية الخاصة غير التابعة لوزارة التعليم العالي المصرية، التي تنتشر في السنوات الأخيرة بصورة ملفتة للنظر، وتحمل أسماء أكاديميات عالمية مثل كامبريدج أو أكسفورد أو الجامعة الأمريكية للعلوم، ومن ثم فهي هدف أساسي للكثير من الدارسين العرب.
ورغم مأساوية المشهد، فإننا توجهنا بالسؤال إلى الأستاذ الجامعي صاحب المكتب العلمي المتخصص في إعداد الرسائل العلمية، لسؤاله عن طبيعة عمله، ورغم محاولة الهروب من الإجابة فإنه وبعد ضغط وإلحاح شديد أكد أن الوضع المعيشي والظروف الاقتصادية السبب الرئيسي وراء عمله الإضافي.
وأشار في حديثه أن راتبه لا يتعدي 6 آلاف جنيه وهو على درجة أستاذ، علمًا بأن لديه 3 أبناء في مراحل التعليم المختلفة، كلفة الدروس الخصوصية لهم فقط تتجاوز 3000 جنيه، ومن ثم لم يجد أمامه إلا فتح هذا المكتب حتى يتمكن من الإنفاق على أسرته ومصاريفه الشخصية كأستاذ جامعي.
وفي السياق ذاته ألمح إلى أن الحكومة ومؤسسات الدولة على دراية تامة بطبيعة عمل المكتب الذي حصل على كامل التراخيص الرسمية، ورغم أن الرخصة جاءت كمكتب خاص بكتابة الرسائل العلمية فقط، فإن كل المكاتب المشابهة له تعد الرسائل من الألف إلى الياء نظير مقابل، مضيفًا: “كله عارف وكله بياكل”.
مصر جاءت في المرتبة الـ139، وهو المركز قبل الأخير في محور جودة التعليم الأساسي “الابتدائي” والمركز الـ111 في جودة التعليم العالي والتدريب في مؤشر جودة التعليم العالمي، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس لعام 2015- 2016.
وتابع “أنا لا أعمل إلا مع الباحثين العرب، ومعظمهم يريد الشهادة من باب الوجاهة الاجتماعية، نحن نساعده في الحصول على وجاهته نظير مقابل مادي يفتح عشرات البيوت هنا في مصر”، مؤكدًا أن معظم مشرفي الرسائل العلمية للطلاب العرب على دراية تامة بهذه المكاتب وطبيعة عملها، ومع ذلك تقبل الرسائل وتناقش وتمنح الدرجة العلمية.
وبسؤال أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة عن هذه الظاهرة أفاد أن كل ما يهم المشرف أن تكون الرسالة مكتملة، وأن يلتزم الباحث بما يطلب منه، وليس من حق الأستاذ هنا تتبع خطوات الطالب لمراقبة كيف يعد رسالته، لافتًا إلى أن هذا السوق بات رائجًا في مصر خلال السنوات الأخيرة وهو ما أدى إلى تراجعها في مؤشرات التعليم الدولية.
وأضاف “نحن كمشرفين نتحرى الدقة في كل تفاصيل الرسالة بحيث تكون خاضعة للمعايير العملية التي تقرها لائحة التعليم العالي، لكن يجب ألا ننسى أن المكاتب العلمية التي تساعد الباحثين لا سيما العرب في رسائلهم تحت إشراف أساتذة وأكاديميين ذوي خبرات كبيرة، ومن ثم تخرج الرسالة من تحت أيديهم كاملة، وهنا لا يجد المشرف أمامه إلا الموافقة عليها وتشكيل لجنة لمناقشتها في أقرب وقت”.
وعليه فإن فساد منظومة التعليم في مصر رغم جهود مكافحته لا تزال رائحته تملأ المكان بصورة دفعت العديد من المسؤولين المعنيين بهذا الشأن إلى تسليط سهام النقد والتوبيخ، وهو ما عبر عنه وزير الثقافة السابق حلمي النمنم، حين أكد في تصريحات له أن الجامعات المصرية أصبحت الأولى على مستوى العالم في نسبة السرقات العلمية، وهو ما يفسر خروجها من التصنيف العالمي السنوي للجامعات الذي يضم جامعات حديثة النشأة في الوقت الذي تستبعد فيه جامعات عريقة تاريخيًا كجامعة القاهرة التي كانت في وقت من الأوقات قبلة لعلماء وباحثي العالم.
يذكر أن مصر جاءت في المرتبة الـ139، وهو المركز قبل الأخير في محور جودة التعليم الأساسي “الابتدائي” والمركز الـ111 في جودة التعليم العالي والتدريب في مؤشر جودة التعليم العالمي، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس لعام 2015- 2016.