بعد دخول المظاهرات الاحتجاجية في العراق شهرها الثاني، ما زالت أفق الحل السياسي بعيدةً المنال، ففي ضوء حالة التعنت الحكومي عن تقديم برنامج إصلاحي واضح من حيث الآليات والمدد الزمنية، نجد في المقابل إصرار شعبي على المضي بهذه التظاهرات حتى الرمق الأخير، لإجبار الحكومة العراقية على الانصياع للمطالب الشعبية، وهو ما يعكس حالة عدم يقين إلى المدى الذي يمكن أن تصل إليه الأمور في العراق.
إن الإشكال الحاصل اليوم هو إصرار الطبقة السياسية الحاليّة في العراق، على التعاطي مع مطالب المتظاهرين ضمن الأطر الدستورية التي انتفض ضدها المتظاهرون، فبعد أربع حزم إصلاحية تقدمت بها الحكومة العراقية منذ انطلاقة التظاهرات الشعبية في الأول من أكتوبر الماضي، ما زلت هناك حالة عدم ثقة من المتظاهرين بهذه الحزم، وذلك بسبب عدم ملامستها المطالب الجوهرية لهم، ففي الوقت الذي تراوحت به خيارات الطبقة السياسية الحاليّة بين تقديم الحزم الإصلاحية تارةً والحلول الأمنية تارةً أخرى، في محاولة للهروب من شبح استقالة الحكومة أو الذهاب باتجاه الانتخابات المبكرة، نجد في المقابل مطالبات شعبية باستقالة الحكومة وحل البرلمان وتشريع قانون جديد للانتخابات ومفوضيتها، وهو ما أظهر حالة عدم استجابة من الكتل السياسية الممثلة في البرلمان، لما لذلك من تداعيات مستقبلية على استحقاقاتهم السياسية والحزبية.
هل يمكن إصلاح النظام السياسي في العراق؟
يمكن القول إن النظام السياسي في العراق هو بالأساس نظام ريعي غير قادر على خلق الفرص بين المواطنين، نظام مبني على توازنات سياسية داخلية وأخرى خارجية، ومن ثم فإن أي محاولة لإصلاح هذا النظام وبالشكل الذي يمكن أن يؤثر على هذه التوزانات قد تؤدي بالنهاية إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، فضلًا عن ذلك فإنه على الرغم من الدعوات التي تذهب باتجاه ضرورة التحول نحو النظام الرئاسي، فإنه بالمقابل إذا استمرت أسباب فشل النظام البرلماني الحاليّ في العراق ذاتها في ظل النظام الرئاسي، فإن الفشل سيكون النتيجة النهائية التي تنتظر هذا النظام أيضًا، وعليه فإن عملية إصلاح النظام السياسي في العراق تحتاج إلى صفقة سياسية شاملة، تعالج كل أسباب الفشل السياسي الذي يمر به العراق اليوم.
فالمشكلة ليست مشكلة نظام، بل مشكلة طبقة سياسية تفتقر لأبسط أبجديات فهم العمل السياسي، ولعل السبب الحقيقي في ذلك هو قانون الانتخابات الذي أوصل الكثير من الشخصيات غير المؤهلة سياسيًا وقانونيًا لممارسة العمل التشريعي في العراق.
أين مرجعية النجف مما يحصل؟
تدرك مرجعية النجف أنها مسؤولة مسؤولية أخلاقية وسياسية عن حالة الانسداد السياسي الذي وصل إليه العراق اليوم، وهنا لسنا بصدد تحميلها مسؤولية فشل الطبقة السياسية التي دعمتها في يوم ما، بقدر ما هي مسؤولة عن إيقاف هذا الفشل، فضلًا عن أنها تدرك جيدًا بأن أغلب الكتل السياسية الشيعية اليوم بدت مرتبطة بطريقة أو أخرى بإيران سياسيًا وعقائديًا، ولهذا تحاول اعتماد سياسة أنصاف الحلول لدفع المشهد السياسي بعيدًا عن المجهول، فأغلب خطاباتها عبارة عن توصيات سياسية لوضع خرائط طرق للأزمة الحاليّة.
وبالتوافق مع ما ذكر أعلاه، تتفهم مرجعية النجف بأن انحيازها لطرف دون آخر “المتظاهرين – الحكومة”، قد يربك المشهد السياسي المعقد، فدعم موقف المتظاهرين قد يدفعهم للتصعيد ضد الحكومة، في حين دعم موقف الحكومة قد يزيد من شلال الدم وتصاعد لغة القمع، وهو ما دفعها حتى هذه اللحظة إلى اعتماد لغة متوازنة بين الطرفين، وعلى الرغم من موقف المرجعية الأخير بعد لقاء مبعوثة الأمين العام للأمم المتحدة جنين بلاسخارت بالمرجع الأعلى السيد علي السيستاني، من ضرورة الاستجابة السريعة لمطالب المتظاهرين والكف على استهدافهم، فمن غير الممكن أن نتوقع حدوث جديد يذكر في هذا الإطار.
الموقف الأمريكي
ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية حتى هذه اللحظة تتحرك بخطى ثابتة حيال الأحداث الجارية في العراق، فبعد بيان السفارة الأمريكية في بغداد الأسبوع الماضي، الذي أشار إلى ضرورة الاستجابة لمطالب المتظاهرين، شكل بيان البيت الأبيض اليوم الموقف الأكثر تطورًا للولايات المتحدة المتحدة.
إذ أشار البيان إلى ضرورة الإسراع بإجراء الانتخابات المبكرة والكف عن قمع المتظاهرين ونقد إيران، وعلى الرغم من وضوح الرؤية لدى الإدارة الأمريكية عما يجري في العراق اليوم، فإنها قد لا ترغب برحيل الحكومة الحاليّة، فهي ترغب برؤية عراق ضعيف خالٍ من سيطرة إيران، وليس عراقًا قويًا خاليًا من النفوذ الإيراني، بمعنى أوضح إن مشكلة الولايات المتحدة الأمريكية في العراق هي إيران وليست الطبقة السياسية العراقية، فهي لا ترغب بأن يكون البديل عراقًا قويًا، لأن هذا سيشكل تحديًا كبيرًا لوجودها في العراق مستقبلًا، خصوصًا إذا جاء نظام سياسي يستند لهوية عراقية وطنية.
فالمطالعات الصحفية لصحف مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز وول ستريت جورنال وغيرها، تقدم موادًا إعلاميةً واضحةً للإدارة الأمريكية عما يحصل في العراق، إلا أن فلسفة التحرك الأمريكي مبنية على تطورات الموقف الإيراني وليس الشعبي العراقي، لأنها تدرك جيدًا أن الذي يرفض النفوذ الإيراني من غير الممكن أن يقبل النفوذ الأمريكي.
إن المشهد السياسي العام في العراق مفتوح اليوم على خيارات عديدة، ففي ظل حالة الضبابية السياسية التي يمر بها العراق اليوم، بدأت تفاعلات الموقف الإقليمي والدولي تتفاعل مع الحدث العراقي، وهو ما قد يدفع المشهد العراقي نحو مزيد من التشابك السياسي والعكس صحيح أيضًا، وعليه يمكن القول إن الذي يحدث في العراق اليوم هو في جزء منه مرتبط بتطورات المشهد الإقليمي وتداعياته، إلا أن كلمة السر حتى هذه اللحظة بيد المتظاهرين العراقيين الذين غيروا قواعد اللعبة السياسية اليوم في العراق، فهم الأقدر اليوم على تقرير المستقبل الذي ينتظر المشهد السياسي العراقي القادم.