باتت المناطق التي سيطرت عليها قوات الجيش التركي والجيش السوري الحر خلال العمليتين العسكريتين “درع الفرات وغصن الزيتون”، في مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي بعد طرد تنظيم داعش وميليشيات حماية الشعب الكردية، تحمل اسمهما بدءًا من ريف حلب وتشمل أعزاز وجرابلس والباب وعفرين وضواحيها جميعًا، وصارت تعرف من قبل طيف واسع بـ “مناطق درع الفرات وغصن الزيتون”.
تبلغ مساحة تلك المناطق التي تخضع للنفوذ التركي أربعة آلاف كيلومتر مربع، ويقدّر عدد سكان مناطق درع الفرات بـ750 ألف نسمة، وعدد سكان مناطق غصن الزيتون بـ350 ألف نسمة، ليزيد العدد على مليون نسمة تعيش في المنطقتين.
أجواء نسبية من الأمان والاستقرار يعيشها أبناء المنطقة ومن انضم إليهم من النازحين، يرجع ذلك تحديدًا إلى غياب الطيران الحربي عن الأجواء ونهاية عهد القصف مع دخولها في الحماية التركية، هذا ما يقوله معظم القاطنين في تلك المناطق، فرغم وجود مناطق محررة في محافظة إدلب وريف حلب الغربي تنعم بالكثير من الخدمات على مختلف الأصعدة المعيشية، فإن الخلاص من قصف المدافع والطائرات كان المعيار الأول الذي استقطب كثيرًا من النازحين للحياة في درع الفرات وغصن الزيتون الذي ساهم أيضًا في استقرار السكان المحليين هناك.
الطريق الرئيسي – مدينة عفرين
حياة سهلة
ذلك ما أوضحه عبد الله أبو حاتم شاب نازح من الغوطة الشرقية يعمل بأحد مستشفيات عفرين ويستكمل دراسته الجامعية في مدينة أعزاز، واصفًا الحياة في منطقته بأنها أكثر سهولة وأريحية بالمقارنة مع إدلب وريف حلب الغربي.
المحال التجارية والمشاريع الكبيرة في تلك المناطق في ازدياد متواصل، وهذا لا ينافي حقيقة أن الناس غير قادرين بالمجمل على افتتاح مشروعهم الخاص، فنسبة العاملين منهم كبيرة ويعود ذلك للمؤسسات العامة والخدمية التي استحدثتها الحكومة التركية ولدعمها لها بدفع رواتبهم
عدد كبير من الناس تضج شوارع المدن والبلدات بهم في وضح النهار يسعون في أعمالهم وحوائجهم، حياة طبيعية اعتيادية يمارسها المدنيون هناك، غالبيتهم يتسمون بالبساطة وهم من أصحاب الطبقات تحت المتوسطة، فعند سؤالك لأي مدنيّ تصادفه في الطريق عن الوضع المعيشي في هذه المناطق يعبّر عنه بكلمات ترى من خلالها أن الناس نسبيًّا قادرون على التكيّف مع المعيشة، فهم يستطيعون تأمين حاجياتهم اليومية من سكن وغذاء ودواء بلا مبالغة ولو بسيطة، أي أنهم لا يصلون لخط الفقر، ولكن بالتوازي مع ذلك معظم الناس هنالك غير قادرين على افتتاح مشروعهم الخاص أو تحصيل رأس المال من أعمالهم.
إلى جانب ذلك فإن المحال التجارية والمشاريع الكبيرة في تلك المناطق في ازدياد متواصل، وهذا لا ينافي حقيقة أن الناس غير قادرين بالمجمل على افتتاح مشروعهم الخاص، فنسبة العاملين منهم كبيرة ويعود ذلك للمؤسسات العامة والخدمية التي استحدثتها الحكومة التركية وتدعمها بدفع الرواتب.
روتين
يقول أمين أبو محمد، مدنيّ من سكان منطقة الدرع ويعمل في إحدى المنظمات الإنسانية في أعزاز: “أخرج إلى عملي في الصباح الباكر وأعود قبل المساء بقليل وهذا روتين غالب الناس هنا، فهم إما موظفون في المنظمات الإنسانية والمؤسسات العامة والحكومية أو عاملون ومهنيون في المحال التجارية، وللجميع ذات سياق العمل اليومي، فالحياة هنا رغم توافر الخدمات والسلع والبضائع وسعرها المقبول نوعًا ما إلا أنها تحتاج لعمل يومي دونما انقطاع لتستطيع الحياة”، مضيفًا “الناس هنا ليسوا في حالة نفور من إدارة وإشراف الحكومة التركية للمناطق، فقد قدمت خدمات هائلة للمنطقة التي تخضع لنفوذها، ولكن ذلك لا يبرر الفلتان الأمني المتواصل في المنطقة”.
وبجانب ذلك، يقوم الناس بأعراسهم وأفراحهم، ويمارسون التظاهرات السلمية بشكل دوري تضامنًا مع المناطق المنكوبة ولتأكيد مطلبهم الأول والأخير بحق هذا الشعب بالحرية.
يعود السبب وراء أريحية وسهولة الحياة في تلك المناطق بشكل نسبي إلى مساهمة الحكومة التركية في إعمار تلك المناطق خدميًّا، يأتي في مقدمة ذلك تقديم الحكومة التركية الدعم المادي واللوجستي للمجالس المحلية في مناطق الدرع والغصن وأبرز تلك المجالس (أعزاز والباب وجرابلس وعفرين وأخترين ومارع) من خلال الاهتمام بالجانب العمراني في نشأة المجالس ودفع رواتب الموظفين فيها، ناهيك عن أنها تدفع رواتب المعلمين ورجال الشرطة والعاملين في قطاع الصحة في المشافي التي استحدثتها في هذه المناطق، أي أنها تقدم الدعم شبه الكامل للمؤسسات العامة.
حديقة الأمة العثمانية – مدينة أعزاز
العديد من المشافي والنقاط الطبية أسستها وزارة الصحة التركية في منطقتي الدرع والغصن، أبرزها مشفى الحكمة في مدينة الباب ومشفى جرابلس والمشفى الأهلي في مدينة أعزاز.
مشفى الأهلي – مدينة اعزاز
ومن ناحية أخرى فقد منحت الحكومة التركية عن طريق أمانة السجل المدني وثائق رسمية من إخراج قيد وشهادات ميلاد ودفاتر عائلة وذلك سواء للمواطنين المحليين أم النازحين دون تمييز، ومن خلال ذلك أُسست دائرة الأحوال المدنية في المراكز الرئيسية للمدن التي تعمل على إصدار بطاقات تعريفية (هويات) جديدة متوافقة مع النظام المعمول به في تركيا، وهي تحتوي على صورة للشخص ورقم وطني وبصمة إلكترونية وشيفرة.
كما شيدت الحكومة التركية أبراج تغطية لتقوية شبكة الاتصالات التركية والإنترنت المرافق لها، ناهيك عن أنها قامت بتقوية شبكة الاتصال أساسًا.
وفي إطار ذلك يذكر أن جميع الموظفين والعاملين في القطاعات والمؤسسات المدعومة من الحكومة التركية يتلقّون رواتبهم بالليرة التركية من الحكومة التركية، ولم يُقتصر على محلات الصرافة لتسهيل الحركة المالية بل افتتحت الحكومة التركية أربعة مراكز لمؤسسة البريد والبرق التركية (PTT) في أعزاز والباب وجرابلس والراعي.
تحولت مدن أعزاز والباب وجرابلس وعفرين إلى مراكز تجارية كبيرة للبضائع التركية إثر افتتاح الحكومة التركية لعدة معابر رسمية وهي: معبر باب السلامة في مدنية أعزاز ومعبر الراعي شمال مدينة الباب ومعبر جرابلس ومعبر قرية حمام الحدودية من ناحية مدينة عفرين، ما جعل جميع أنواع السلع والبضائع متوافرة في الأسواق وتلبّي حاجيات المواطنين.
السوق الشعبية – مدينة أعزاز
يقول شهاب الدين طالب جامعي من الشام، إن الخدمات المتوافرة في مناطق الدرع جيدة جدًا وتناسب حياة الفرد العادية، فالكهرباء لا تنقطع وخدمات المياه بدأت بالوصول لجميع النواحي تقريبًا، والأسعار في الأسواق مناسبة وسطيًّا ولا يوجد غلاءٌ كثير، ويذكر شهاب أن التوسع العمراني ملحوظ بشكل كبير استجابةً للوافدين من المناطق المنكوبة في ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي أخيرًا، وحركة التوسع ليست عشوائية بل تجري بتنظيم عمراني بإشراف الحكومة التركية التي تساهم بشكل واضح في تعبيد الطرقات وترميم البنى التحتية.
ويضيف لنون بوست “فرص العمل متوافرة بكثرة في أعزاز والباب وعفرين وما حولها ولكن أجور العاملين قليلة جدًا”، ويعلّل ذلك بأن السبب يعود للحكومة التركية في سياسة دعمها لجميع المؤسسات العامة هنالك.
عفرين
إلى ذلك، يرى مدير مكتب الطلبة في جامعة حلب الحرة عمير شعبان أن استئجار منزل في مدينة أعزاز ليس بالأمر الهيّن، فالإيجارات مرتفعة جدًا بالنسبة للمواطنين ومعيشتهم، يقول “لقد بحثنا كثيرًا مع إدارة الجامعة لإيجاد منازل للطلبة بأسعار مقبولة ولم نجد”، وإثر استطلاع رأي الكثير من النازحين لتلك المناطق في موضوع الإيجارات كانت الإحصاءات تشير للغلاء الكبير، وتذكر إحدى العاملات في سجل الديوان في المجلس المحلي لمدينة أعزاز لو أن أجور العاملين والموظفين أكثر مما هي عليه لناسبت بعض الشيء أسعار إيجارات المنازل، ولكن لا علاقة للحكومة التركية حتى اليوم بهذا الجانب ولم تتدخل المجالس المحلية لتضع حدًّا لهذا الموضوع.
يقول عبد الله الحايك من القاطنين في مدينة أعزاز: “لا يوجد خوف لدى السكان من تقدم النظام لهذه المناطق، فالمنطقة آمنة هنا من قصف طائرات النظام ولا سبيل له للتقدم لتلك المناطق”، معلّلًا ذلك بخضوعها للنفوذ التركي.
انتهاكات تعكر صفو المنطقة
العبوات الناسفة والمفخخات والألغام لم تغب عن الحياة في منطقتي درع الفرات وعفرين، ففي سبتمبر/أيلول من عام 2019 حدث تفجيران بالقرب من السوق المحلية في مدينة أعزاز ذهب ضحيتهما أربعة مواطنين والعديد من الجرحى، ليست المرة الأولى، فقد سبقها العديد من التفجيرات في المدينة، وفي نهاية أغسطس/آب من ذات العام تفجير آخر في سوق الهال في مدينة عفرين، كانت ضحاياه لا تقل عن تسعة مواطنين والكثير من الجرحى، وفي مطلع فبراير/شباط الماضي من هذا العام انفجر لغم أرضي بسيارة في بلدة بزاعة القريبة من مدينة الباب، وكانت البلدة نفسها قد تعرضت لانفجار دراجة نارية مفخخة، وفي بلدة قباسين التابعة لمدينة الباب أيضًا دراجة نارية مفخخة تسفر عن سقوط 17 مواطنًا بين قتيل وجريح في أغسطس/آب 2018.
كثيرون ممن اعتبروا هذه المناطق الأكثر أمانًا في الشمال السوري، فكّروا بالهجرة إلى تركيا على خلفية التفجيرات وما تبثه من رعب، ومن حالة عدم استقرار وأمان في المنطقة، محمد مصطفى ناشط إعلامي مقيم في جرابلس ذكر أن السكان في تزايد مستمر ولكن الهجرة باتجاه تركيا ما زالت مستمرّة أيضًا.
وثق المرصد إجبار مجموعة مسلحة من فرقة الحمزات المدعومة من الحكومة التركية أحد المواطنين في قرية كوكان التابعة لناحية معبطلي بريف عفرين على إخلاء منزله بقوة السلاح، وبعد رفضه انهالوا عليه بالضرب المبرح مما تسبب بإصابته بجروح خطيرة
من جانب آخر، لا تخلو المنطقة من ظاهرة الانفلات الأمني، فالجرائم في مدن الدرع والغصن كثيرة تعكر صفو المدن والبلدات، من سرقات وقتل وخطف، فقد وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان العديد من الحالات، في عفرين هاجمت مجموعة مسلحة محلًّا للمجوهرات والصرافة حيث اعتدت على صاحب المحل وسرقت كيلوغرامين من الذهب ومبلغ يقدّر بـ2500 دولار أمريكي، وقد سبقت تلك الحادثة أخرى مشابهة لمسلحين مجهولين أيضًا هاجموا محلًّا للصرافة واستولوا على مبالغ بقيمة 15 ألف دولار أمريكي.
في الباب وجرابلس عدة حالات كانت عبارة عن اشتباكات بين مسلحين مجهولين ورجال الشرطة الحرة تارة والمدنيين تارة أخرى، في حوادث تشليح للمارّة أو سطوٍ على محال تجارية أو استهداف عابر لمجموعة عسكرية، وتقدّر أعداد الضحايا بما لا يقل عن 25 قتيلًا، ولم يخل الأمر أيضًا من اشتباكات بين الشرطة العسكرية والمدنية نفسهم في مدينة الباب.
عائلة من منطقة الشيخ حديد بريف عفرين تّختطف ويطلب الخاطفون مبلغ 25 ألف دولار أمريكي مقابل الإفراج عنهم، وفي عفرين مجموعات مسيطرة على المدينة تحت إشراف الحكومة التركية عمدت إلى خطف عائلة مكونة من 9 أفراد، وبحسب الأهالي فإن الاختطاف كان بعد تحرير المدينة مباشرة ولم ترد أنباء عنهم أبدًا.
العديد من القرى في ريف عفرين شهدت عمليات إخلاء لأهلها بشكل جزئي أو كلي، واستيلاء على ممتلكاتهم ومنازلهم ومزارعهم وتحويلها لمقرات عسكرية، من الفصائل المدعومة من الحكومة التركية، ولحد هذه اللحظة لا يوجد تبرير لهذا.
وعلى مدى عامين شهدت معظم المناطق في الدرع والغصن احتجاجات على ممارسات الفصائل العسكرية هناك، مطالبة الفصائل بإخلاء مقراتها والابتعاد عن المدن والمراكز الرئيسية إثر ما يحصل من تفجيرات من جهة ومن سياسة عسكرية تضطهد المدنيين من جهة أخرى.
بعد درع الفرات وغصن الزيتون، بدأت أنقرة عملية عسكرية مع فصائل الجيش الوطني السوري أسمتها “نبع السلام”، ما يعني أن منطقة جديدة تلوح في الأفق في شمال سوريا، وتزداد بذلك مساحة الأراضي التي تقع تحت إشراف وإدارة الحكومة التركية، لتزداد بذلك مساحة المنطقة الآمنة التي تتعهد تركيا بإقامتها، والتي يُأمل أن تتخلص أيضًا -إلى جانب خلاصها من القصف والغارات- من الانتهاكات التي تقوم بها الفصائل المحسوبة على تركيا والثورة، ومن التفجيرات وعمليات السطو والجرائم الجنائية، لينعم أهالي هذه البلدات والمدن ومن نزح إليهم بالأمان الحقيقيي.