تعاملت النخب السياسية مع الاحتجاجات الشعبية في العراق على أنها تمثل تهديدًا وجوديًا لحكمها، فجابهتها بسيل كبير من الاتهامات ثم بررت عمليات قتل المتظاهرين، وسارعت النخب ذاتها إلى كتابة اتفاق سياسي بحروف رسموها بدماء أريقت في ساحات التظاهرات، هدفهم الإبقاء على السلطة الحاليّة وإنهاء الاحتجاجات المطالبة بإسقاط نظام الحكم.
ينص الاتفاق الذي كشفته وكالة الصحافة الفرنسية على أن “الأحزاب السياسية اتفقت خلال اجتماع ضم غالبية قيادات الكتل الكبيرة على التمسك بعادل عبد المهدي والتمسك بالسلطة مقابل إجراء إصلاحات في ملفات مكافحة الفساد وتعديلات دستورية، وتوفير الدعم للحكومة لإنهاء الاحتجاجات بكل الوسائل المتاحة”.
صدقت سوح التظاهرات ما جاء في الاتفاق السياسي لإنهاء الاحتجاجات، فبعد ساعات من كشف تفاصيله ازداد حجم العنف المستخدم ضد المتظاهرين، وكذلك حصيلة الضحايا في بغداد والمحافظات الجنوبية، في محاولة لإجهاض أكبر حركة احتجاجية شهدها العراق الجديد.
تقارير أمنية تشوه وجه السلمية
الخبير الأمني والإستراتيجي الدكتور هشام الهاشمي يقول: “التقارير الأمنية الحكومية صنعت صورة سيئة لأصحاب القرار عن سلمية الاحتجاجات، والسبب أن القادة سماعون للكذب وسماعون للفاسدين، تشويه السلمية ملف كلف الحكومة اقتصادًا وجهدًا كبيرًا ومغامرة قد لا تنتهي إلا بخسارتهم كل مكتسباتهم الاقتصادية والسياسية، صنعة متكاملة للتشويه من جيوش إلكترونية وقنوات فضائية وصحف وحسابات على منصات التواصل الاجتماعي، تمويل كبير وشركات فنية غير عراقية متخصصة في الكذب وتشويه الحقائق”.
الهاشمي كشف لــ”نون بوست” مضمون بحث يعده بشأن احتجاجات طلبة الجامعات في بغداد قائلًا: “عقب 25 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أكد 80% من الطلبة أن سبب خروجهم إلى ساحة التحرير هي السلمية التي تتمتع بها، وأن الخطابات الحكومية في تشويه سلمية الاحتجاج لم تؤخرهم عن الخروج إلى سوح التظاهرات”.
ويضيف الهاشمي قائلًا: “نحو 60% من عينة البحث أكدوا أن مشاركتهم في التظاهرات السلمية أحدثت تأثيرًا في سلوكهم الشخصي وشعورهم بمسؤوليتهم تجاه وطنهم، و90% من الطلبة أوضحوا أنهم قبلوا الشعارات والخطابات التي تبنتها التظاهرات”.
كل العراق جنوبٌ أينما تقفُ
يحاول المتظاهرون التخفيف من حدة العنف المستخدم ضدهم في العاصمة بغداد عبر فتح جبهات أخرى في المحافظات الجنوبية التي تعاني هي الأخرى من استخدام العنف المفرط بحقّ محتجيها، حيث يواصل البصريون احتجاجاتهم رغم الإجراءات الأمنية المشددة بعد أن فرضت السلطات في البصرة الغنية بالنفط والشباب الثائر طوقًا أمنيًا لمنع المتظاهرين من الاقتراب من المباني الحكومية وذلك في إجراء جديد لها.
وتواصل منذ عدة أيام معظم المدارس والجامعات إغلاق أبوابها في جنوب العراق، بعدما أعلنت نقابة المعلمين إضرابًا عامًا في محاولة لإعادة الزخم إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي تعم البلاد منذ أسابيع.
ورغم دعوات السلطات لـ”العودة إلى الحياة الطبيعية”، يواصل المتظاهرون المطالبة بنظام حكم جديد وتغيير الطبقة السياسية، فيما تحاول القوات الأمنية مجددًا سد كل الطرقات المؤدية إلى سوح الاحتجاج بالكتل الإسمنتية، وخلف تلك الكتل، تتمركز قوات مكافحة الشغب التي تواصل إطلاق الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية على المتظاهرين مخلفة عشرات الضحايا كل يوم.
مئات المتظاهرين يتوجهون نحو مبنى الحكومة المحلية في ناحية المعقل بمحافظة البصرة والقوات الأمنية تتراجع إلى الخلف بسبب كثرة المحتجين #الشرقية_نيوز
Posted by AlSharqiya تلفزيون الشرقية on Monday, November 11, 2019
سلاح نفسي
تمارس السلطات العراقية حربًا نفسية على المتظاهرين في محاولة منها لتضييق الخناق عليهم، إذ يتلقى كثير منهم تهديدات بالقتل عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو في قلب التظاهرات، ويتزامن ذلك مع حملة اعتقالات نفذتها السلطات العراقية بحقّ المتظاهرين السلميين، عن طريق الشرطة السرية في ساحة التحرير، فيما تشهد المدن العراقية أيضًا عمليات اختطاف منظمة تطول الناشطين في حركة الاحتجاج الحاليّة، وتصل في أحيانٍ أخرى إلى عمليات اغتيال، والهدف من كل ذلك تخويف المحتجين وإرهابهم وإجبار الآخرين على العودة إلى منازلهم.
إطالة زخم الاحتجاج
إطالة زخم الاحتجاج داخل ساحة التحرير – وهي حالة مختلفة عن ساحات الاحتجاج والاعتصام في بقية المدن العراقية – سيجابه – إذا تحققت على أرض الواقع – مزيدًا من التهديد والمخاطر، وهذا ما قد يستدرج الأمور إلى سيناريوهات معقدة جدًا في وقت تحاول السلطات شيطنة الحراك السلمي في العراق.
الكاتب والصحفي تمام عبد الحميد يقول في هذا الإطار: “السلطة العراقية والأحزاب تستحوذ على مقدرات الدولة وأجهزتها، لذا فمن السهل عليها اختراق صفوف المتظاهرين بعناصر مدنية قد تحمل الأعلام العراقية وتردد الشعارات الوطنية ذاتها، غير أن تلك العناصر تمارس أدوات خفية كنقل معلومات أو نشر إشاعات داخل الساحة، من شأنها ترويع المحتجين والتأثير على عزيمتهم، وهناك أمثلة عديدة على ذلك، نقلاً عن شهادات لبعض الناشطين في ساحة التحرير”.
ويضيف عبد الحميد لـــ”نون بوست”: “السلطات العراقية تعي جيدًا أن استمرار الاحتجاجات بهذه الوتيرة قد يعقد المشهد عليها ويضعها في حرج أكبر أمام المجتمع الدولي والمنظمات الدولية الرصينة، وهذا ما جعلها تحاول زعزعة الاستقرار والحالة الإيجابية التي ولدت داخل ساحات الاحتجاج”.
ويؤكد عبد الحميد “18 يومًا ليست بالقليلة، وإذا تمكن المحتجون من إطالة هذه الفترة إلى أسبوع آخر مع الحفاظ على زخمهم وصورتهم المذهلة الجميلة هذه، فأعتقد أن المجتمع الدولي سيواجه حرجًا كبيرًا مع الاستمرار في التزام الصمت”.
وأشار الصحفي العراقي إلى أن تفعيل الرقابة الذاتية داخل ساحة التحرير والعمل على كشف العناصر السلبية أو المرتبطة بالأحزاب وفضحهم، بل طردهم منها كما حصل في بداية الحراك، سيساعد على تقليل موجة الترهيب العام داخلها، ويسهم في الحفاظ على استمرار الزخم ومواصلة الضغط على السلطات، وكذلك المجتمع الدولي لتنفيذ ما يريده الشعب.
وعود تخديرية
تراهن الأحزاب الحاكمة على عامل الوقت لإنهاء المظاهرات في العراق، ووأد حركة الاحتجاج السلمي كما فعلت من قبل، وتناور الحكومة بدورها بوعود معسولة للمتظاهرين وبإصلاحات عاجلة مرة أخرى، على أمل أن يتسرب الملل مع مرور الوقت إلى نفوس المحتجين، للقضاء بعدها على احتجاجهم الشعبي، خصوصًا مع دخول فصل الشتاء في العراق.
ومع تواصل الاحتجاجات ترفض الطبقة السياسية تقديم تنازلات جوهرية تتعلق بتغيير نظام الحكم، ويقابل المحتجون ذلك برفع سقف مطالبهم، لا سيما بعد ارتفاع حصيلة ضحاياهم في كل يوم جديد، ويؤكد ذلك فكرة خسارة النخب السياسية الرهان على الزمن.
العنف المفرط بحقّ المحتجين السلميين يعكس نظرة النخب الحاكمة لحركة الاحتجاج العراقي، التي تعتبرها تهديدًا وجوديًا لها، وبات القمع تحولًا نوعيًا في سلوكها وكشفت وجهها الحقيقي وزيف الحرية التي نادى بها السياسيون منذ 16 عامًا.
تتجاهل الطبقة السياسية أو تتناسى أيضًا أسباب هذا الحراك الشعبي الذي ولَّدَ إصرارًا جديدًا لدى المتظاهرين، ولا شيء يخمد هذا الغضب إلا تحقيق المطالب، والمطالبُ نفسها تحولت من خدمية إلى سياسية، بأربع كلمات يرددها المحتجون: “الشعب يريد إسقاط النظام”.