لم تكن زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف للعراق الشهر الماضي، وهي الأولى له منذ خمس سنوات، مع وفد كبير يضم خبراء في جميع المجالات، تهدف فقط إلى توطين الاستثمارات الروسية في بلاد الرافدين، بل مثّلت إشارة مهمة على اشتعال صراع نفوذ مع الولايات المتحدة، ولكن وفق آليات ومفاهيم “القوة الناعمة”.
ومفهوم القوة الناعمة واسع الانتشار في تحليل السياسات الخارجية، وبإمكانه التعامل مع التطورات التي تحدث في طبيعة النظام العالمي، وخاصة في البلدان التي خرجت للتو من حروب قاتلة، وحصلت على استقرار نسبي لا يسمح للقوى العالمية بالاستمرار في تأمين مصالحها بالقوة الصلبة أو المسلحة.
تعلم روسيا أن العراق حاليًّا، في حاجة إلى أدوار أعمق، تتعدى مكافحة الإرهاب، كما أن الضغط الدولي للمضى قدمًا في الإصلاحات السياسية والحقوقية لم يعد الشغل الشاغل للقوى الدولية، بل تحسين الاقتصاد ومعالجة الفساد والتغيير من أسفل وترسيخ انحيازات لثقافات بعينها، وربما هذا سبب تحالف موسكو مع سوريا وإيران، وتحاول حاليًّا مد نفوذها بالعراق، لاستعادة مستوى التأثير الذي كانت تتمتع به قبل انهيار الاتحاد السوفيتي.
سياسة روسيا في المنطقة
تتوسع موسكو في عدد من مشاريع الدبلوماسية العامة، لتعزيز مكانتها العالمية، في السياسة والرياضة والثقافة والاقتصاد والعلوم، وتمكين الدب الروسي من دوره، كوسيط سلام إقليمي بارز، وهو نجاح ليس عشوائيًا، بل يعود إلى سياسة معلنة، تحدث عنها الرئيس بوتين عام 2012 تحت عنوان “روسيا والعالم المتغير”.
في العراق، ترسخ روسيا بصمتها التعليمية والثقافية، وبدأ السيناريو المرسوم لتنفيذ الهدف يأخذ واقعًا جديدًا، بداية من شهر سبتمبر الماضي، مع إعلان توقيع وزير التعليم العالي والبحث العلمي العراقي قصي السهيل، مذكرة تعاون علمي وأكاديمي، مع نظيره الروسي
كان واضحًا أن القيصر الروسي، يحاول ترسيخ المعاول الناعمة لبلاده في جميع أنحاء العالم، خلال رحلة شاقة يسعى فيها لإقامة نظام عالمي جديد، ينطلق من الوقائع الجيوسياسية المعاصرة، على أن يكون ذلك بشكل تدريجي ودون هزات غير ضرورية، على حد تعبيرات بوتين.
مدّ ثقافي
في العراق، ترسخ روسيا بصمتها التعليمية والثقافية، وبدأ السيناريو المرسوم لتنفيذ الهدف يأخذ واقعًا جديدًا، بداية من شهر سبتمبر الماضي، مع إعلان توقيع وزير التعليم العالي والبحث العلمي العراقي قصي السهيل، مذكرة تعاون علمي وأكاديمي، مع نظيره الروسي، ميخائيل كوتوكوف، وبموجبها يتم التوسع في نطاق المنح والزمالات التي تمنحها الجامعات الروسية، وخاصة الرصينة منها للطلبة العراقيين، وتعزيز البحوث المشتركة بين الباحثين، وإقامة فعاليات علمية مشتركة كالمؤتمرات والندوات العلمية، وعمل توأمات بين جامعات البلدين.
هذا التوقيع يؤكد اهتمام روسيا بمكانتها في العراق الجديد، ويكشف في الوقت نفسه مصداقية تصريح سابق أدلى به وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، خلال يناير الماضي، وجرى التشكيك فيه، خاصة أنه صادر عن جهة غير علمية، أكد خلاله أن نحو 4000 عراقي يدرسون بالجامعات الروسية.
يحدث ذلك في الوقت الذي لم يزد عدد طلبة العراق في أمريكا، على 1438 طالبًا، معظمهم من الكرد، الذين توترت علاقتهم بأمريكا مؤخرًا، حسب تقرير معهد التعليم الدولي، الصادر منتصف العام الماضي، بعنوان الأبواب المفتوحة، وهو أيضًا رقم ربما يكون مبالغًا فيه، في ظل اعتماده على التقارير التطوعية من المؤسسات الأمريكية.
لكنه في الوقت نفسه، يجسد حجم الترهل الأمريكي وتزايد الزهد العربي في الذهاب إلى بلاد العم سام، على مستوى المنطقة بأكملها، وليس العراق فقط، بعدما انخفض عدد الطلاب العرب، الذين اختاروا الدراسة في جامعات الولايات المتحدة، بنسبة 9% لعام 2018، وبدرجة شبه مماثلة، انخفاض أعداد الطلاب الذين يسعون للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه من مؤسسات التعليم العالي الأمريكية.
جهود موسكو وتحديها للقوة الناعمة الأمريكية في المنطقة العربية، بدأت تؤتي ثمارها، وخاصة في الخليج، حيث ينظر لها الكثير من شباب هذه البلدان الآن، باعتبارها حليفًا موثوقًا به، ليس عسكريًا فقط وإنما ثقافيًا أيضًا
حرب الأرقام بين البلدين، تؤكد هرولة موسكو لتوثيق روابطها مع العراق، بما يتخطى الاستثمارات في مجال الطاقة، ومبيعات الأسلحة، ويتعداها إلى خلق قوى ناعمة في المستقبل القريب، من المفكرين والمثقفين والعلماء، يصبح لديهم مد ثقافي وإنساني مع الروس، وهو هدف يسعون إليه وفقًا لأحدث الأساليب المدروسة منذ سنوات.
كما أنه السبب الأساسي وراء تدشين القناة الإعلامية الدولية RT أو روسيا اليوم التي أصبحت سريعًا واحدة من أكبر شبكات التليفزيون في المنطقة، التي تخدم أفكار بوتين وتروج للرؤية الروسية للمنطقة على جميع المجالات، وتحقق شهرة واسعة، وخاصة في مصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والعراق والأردن.
جهود موسكو وتحديها للقوة الناعمة الأمريكية في المنطقة العربية، بدأت تؤتي ثمارها، وخاصة في الخليج، حيث ينظر لها الكثير من شباب هذه البلدان الآن، باعتبارها حليفًا موثوقًا به، ليس عسكريًا فقط، وإنما ثقافيًا أيضًا، فالديمقراطية الموجهة الروسية تصنع الرجل الواحد القوي، وهو أفضل لهم، من ذهب المعز الأمريكي، الذي أصبح في نظرهم بلاءً ونقمةً، على مجتمعات إسلامية، لن تتخلى ولو بطريقة معيارية عن انحيازاتها الدينية، ومن المحال أن تجد حلولاً لمشكلات صراع الهوية والحداثة والكيفية المناسبة لتطبيق أنماط الفكر الغربي المؤسس للديمقراطية الليبرالية التي جرى استدعاؤها في ثورات الربيع العربي، وفشلت جميع التجارب في تطبيقها.
النفوذ الروسي الكبير في المنطقة عامة، والعراق خاصة، وحالة التعاطف الثقافي مع معطيات الفلسفة الروسية في الحكم والإدارة السياسية، أصبح يثير القلق بشكل كبير، وكشف ذلك، تقرير لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الذي أكد تراجع سمعة الولايات المتحدة في العراق، مقارنة بروسيا وإيران من خلال أدائهما في مجال القوة الناعمة.
التقرير طالب الولايات المتحدة، بأداء دور أعمق في العراق، يتعدى مجرد الانخراط في تقديم المساعدات والضغط على بغداد بشأن القضايا الاقتصادية والإصلاح، وتوفير فرص أكبر في التعليم بالولايات المتحدة، لخلق توازن ثقاقي في البلاد، يسمح للبصمة الأمريكية والتفكير الناقد المستقل، بمواجهة التحشيد للثقافة الروسية، فضلاً عن ضرورة بناء روابط شخصية مع الولايات المتحدة.
ورغم الشروخ التي حدثت بين واشنطن والأكراد، فإن المعهد يراهن في تقريره على ضرورة، تحصين الصلات القوية مع الأكراد بشكل خاص، وتعزيز وجود الجامعات الأمريكية في بغداد والسليمانية، وهي بصمة ما زالت الأقوى من نظيرتها الروسية في هذا المجال، لا سيما أن موسكو لا تناقش بحسب التقرير فكرة بناء جامعة روسية في العراق.
رغم معرفة أمريكا، أكثر من غيرها، بصعوبة الدخول في منافسة بين وسائل الإعلام المحلية، ووسائل إعلام الروس قوي التمويل، فإنها تحاول في الوقت نفسه، إيقاف السعي الروسي للهيمنة
يطالب التقرير البحثي، بإظهار الخلاف بين الثقافة والروسية، التي يجب من وجهة نظره أن تكون محل تشريح وجدل، وينصح الإدارة الأمريكية بنشاط إعلامي مكثف يضرب جهود بوتين المتسارعة للسيطرة على البيئة الثقافية والعلمية من جهة، ويسلط الضوء على النزعة الاستبداية في المنهج الروسي، وتداعيات ذلك على عدم الاستقرار، وإبقاء البلاد رهن التدخل الأجنبي والفساد، وغيرها من العلل التي تواجهها بمنتهى الشفافية الديمقراطية الأمريكية.
وحتى يحدث ذلك لا بد من إعلام جديد، يواجه نفوذ وتأثير قناة روسيا اليوم، التي يعتبرها معظم العراقيين مصدرًا موثوقًا للمعلومات أكثر من كونها ذراعًا دعائيًا ترويجيًا لسياسات بوتين في المنطقة، ويأمل التقرير في تحرك سريع مشابه، لسرعة تخصيص 15 مليون دولار، لتطوير وسائل إعلام “مستقلة” في آسيا الوسطى، تكون مهمتها خوض حرب إعلامية بالوكالة، ضد وسائل الإعلام الروسية، التي تؤثر بشكل كبير على الرأي العام في تلك المنطقة من العالم.
كما دعمت الخارجية الأمريكية، الصحفيين المحليين، لممارسة دور في تحسين الثقافة الإعلامية لدى المواطنين، لنفس الهدف “إدراك دور الإعلام في المنظومة الديمقراطية” وتعرية الوجه الاستبدادي لروسيا، التي أصبحت تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل الرأي العام في المنطقة.
ورغم معرفة أمريكا، أكثر من غيرها، بصعوبة المنافسة بين وسائل الإعلام المحلية ووسائل إعلام الروس قوي التمويل، فإنها تحاول في الوقت نفسه، إيقاف السعي الروسي للهيمنة، وإن كلفها ذلك إعادة تغيير الأنظمة القائمة، وتغيير التوجه السياسي لجميع لبلدان آسيا الوسطى، لإبقاء تفوقها الإستراتيجي على الصين وروسيا.