في الرابعة والنصف فجرًا من يوم الأمس، أنزلت طائرات الاحتلال قنابلها الصاروخية على منزلٍ بحي الشجاعية شرق غزة، ليتبين بعد وقتٍ يسير أن المستهدف هو بهاء أبو العطا، أحد ألمع وجوه المقاومة في غزة، الذي كان داخل المنزل لحظة قصفه، ليرتقي وزوجته شهداءً، وبمسافةٍ ليست بعيدة عن غزة، وبفارقٍ زمني قليل، كانت طائرات الاحتلال تشن غارةً أخرى على حي المزة غربي العاصمة السورية دمشق، مستهدفةً منزل القيادي في حركة الجهاد الإسلامي أكرم عجور الذي نجا من اغتيالٍ، قضى فيه نجله رفقة شابٍ آخر.
أعلنت فصائل المقاومة النفير العام وأمطرت التجمعات الاستيطانية ومدن الاحتلال بنحو 250 صاروخًا حتى ساعات صباح اليوم، كما تعرضت مواقع وآليات جيش الاحتلال في محيط غزة لقصفٍ بقذائف الهاون والآر بي جي، فيما واصل الاحتلال، ومنذ ظهيرة الأمس هجماته على أهدافٍ متنوعة في القطاع، بدأت باستهداف مقراتٍ حكومية ومواقعٍ عسكرية تتبع للمقاومة، كما طالت الاستهدافات مقر الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان وسط غزة.
وأعلنت مدارس وجامعات القطاع تعليق الدوام فيها منذ صباح الأمس، وشهدت ساعات المساء، كثافةً في غارات الاحتلال التي بدأت تتركز على مجموعات المقاومين وكذا منازلٍ وأراضٍ زراعية، نجم عنها ارتقاء 12 شهيدًا، وإصابة العشرات، وكان الاحتلال قد أعلن منذ صباح الأمس إغلاق الحواجز البرية مع قطاع غزة، وتقليص مساحات الصيد في البحر بوجه الصيادين حتى إشعارٍ آخر.
لم يظهر اسم بهاء أبو العطا على الصفحات العبرية إلا في الفترة الأخيرة، مع ادعاء بيانات جيش الاحتلال بوقوفه وراء عملياتٍ نفذتها المقاومة خلال العام الأخير
ربما هذه هي جولة التصعيد الأكثر احتدامًا بين المقاومة في غزة والاحتلال الصهيوني، منذ الجولة التي اندلعت قبل عامٍ على إثر تسلل إحدى القوات الصهيونية الخاصة إلى غزة، وعدا عن اغتيال مازن فقها، فإن اغتيال أبو العطا هو الأول من نوعه منذ حرب صيف العام 2014، على صعيد الاستهداف المباشر والمحدد لقياداتٍ سياسية وعسكرية بارزة في المقاومة، وجاء الاغتيال بتوصية من رئيس أركان الاحتلال ورئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، وأعطى رئيس وزراء الاحتلال ووزير دفاعه – حينها – بنيامين نتنياهو، الضوء الأخضر لتنفيذ العملية منذ أسبوع، وذلك بعد عرضها وموافقة مجلس الوزراء عليها، ومنذ ذلك الحين، خضع أبو العطا لمراقبة مكثفة من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
أبو العطا: “يفعل ما يحتاج إليه، في أي وقتٍ يريد”
يعرف أهل غزة ومقاوموها بهاء أبو العطا حق المعرفة، فالرجل الذي ولد في العام 1977، التحق بحركة الجهاد الإسلامي أواخر التسعينيات، وتدرج في صفوف جناحها العسكري (سرايا القدس) حتى صار عضوًا في مجلسها العسكري، ومسؤولًا عن المنطقة الشمالية من القطاع، وأشرف أبو العطا خلال سنوات انخراطه في العمل المقاوم على التخطيط والتنفيذ لعملياتٍ عديدة نُفذت ضد الاحتلال وجيشه، وساهم في تطوير قدرات المقاومة الصاروخية وتمكين ترسانتها العسكرية في قطاع غزة خلال السنوات الأخيرة، إضافةً إلى ذلك فإن الرجل يتمتع بعلاقاتٍ طيبة ووثيقة مع غالبية أجنحة المقاومة الفلسطينية وقيادتها في غزة. وكان الشهيد أبو العطا، قد تعرض لمحاولات اغتيالٍ سابقة، كان آخرها خلال حرب صيف العام 2014 على غزة، حين كان برفقة الشهيد القائد دانيال منصور، كما أصيب في محاولة اغتياله وعدد من قيادات سرايا القدس خلال حرب العام 2012.
لم يظهر اسم بهاء أبو العطا على الصفحات العبرية إلا في الفترة الأخيرة، مع ادعاء بيانات جيش الاحتلال بوقوفه وراء عملياتٍ نفذتها المقاومة خلال العام الأخير، تنوعت بين إطلاقٍ لصواريخٍ وطائراتٍ مسيرة وعمليات قنصٍ لجنود على السياج الفاصل شرق وشمال غزة، وازدادت حدة التحريض ضد أبو العطا بشكلٍ ملحوظ بداية الشهر الحاليّ، عقب إطلاق المقاومة لرشقةٍ من الصواريخ على مستوطنة سديروت، أصاب أحدها منزلًا، وعلى إثرها قصفت قوات الاحتلال مواقعًا تابعة للمقاومة في غزة.
ذكر حينها عمدة مستوطنة سديروت ألون ديفيدي، أبو العطا واصفًا إياه بمن “يجعل حياتهم بائسة، وبينما يعيشون هم في خوف، يتجول هو بحرية“، وتوقعت صحف محللون صهاينة يومها ذهاب الجيش لخيار تنفيذ عملية اغتيال انتقائية ضد أبو العطا، وقال وزير دفاع الاحتلال السابق أفيغدور ليبرمان، عقب عملية الاغتيال إنه كان قد أوصى منذٍ عام باغتيال أبو العطا، ولكن رفض نتنياهو حينها التوصية لاعتباراتٍ عديدة.
حرب الإعلام ودق الأسافين
ما كان ملحوظًا في تداعيات التصعيد الذي اندلع يوم الأمس، هو تركيز الاحتلال، قبل الاغتيال وبعده، وعبر تصريحات مسؤوليه من جانب وتقارير صحافييه من جانبٍ آخر، على نقطتين، أولها، علاقة أبو العطا الوطيدة بإيران، الداعم الأول لحركة الجهاد الإسلامي، إذ وصف بكونه “رجل طهران الأول في غزة“، ساعيةً من وراء ذلك، للرمي بأن المقاومة في غزة مرتهنة، وقبل كلٍ شيء، لقرارٍ إيراني، بعيدًا عن حقيقة معركتها مع الاحتلال واعتبارات الوضع الأمني في غزة، وبالتالي، وضعت عمليات إطلاق الصواريخ من غزة خلال الفترة الماضية تحت مظلة التوتر الإيراني – الاسرائيلي الحاليّ.
القائد أبو العطا شارك في اللقاءات التي عقدتها قيادة الجهاد الاسلامي مع المخابرات المصرية في القاهرة مؤخرًا، وأشارت بعض المصادر أنها جاءت، في إطار جهود النظام المصري لمحاولة ضمان الهدوء الأمني في غزة
أما النقطة الثانية، وهو تركيزها على ادعاء إعاقة أبو العطا لإتمام التفاهمات بين الاحتلال والفصائل في غزة، ومساحات العمل المتاحة للرجل في غزة، التي كان ينوي استغلالها لتنفيذ سلسلة من العمليات خطط لتنفيذها في وقتٍ قريب، بحسب ادعاء الاحتلال، وهي تحاول هنا، وبصورةٍ سافرة، دق أسفين بين فصائل المقاومة، فأشارت إلى أنها وجهت رسالة من خلال مصر وموفد الأمم المتحدة نيكولاي ميلادنوف، تحذر فيها حماس من المشاركة في موجة التصعيد الحاليّة، كما ركزت بيانات جيش الاحتلال على القول إن الهجمات تستهدف مقدرات وعناصر الجهاد الإسلامي حصرًا، وكأن هذه معركة الجهاد الإسلامي وحيدًا، وليس معركة غزة بأكملها، بما فيها مقاومتها بأجنحتها كافة.
الجدير بالذكر أن القائد أبو العطا شارك في اللقاءات التي عقدتها قيادة الجهاد الإسلامي مع المخابرات المصرية في القاهرة مؤخرًا، وأشارت بعض المصادر أنها جاءت، في إطار جهود النظام المصري لمحاولة ضمان الهدوء الأمني في غزة، وإلزام الجهاد الإسلامي بتفاهمات الفصائل مع الاحتلال، وجاء عقب اللقاءات إطلاق السلطات المصرية سراح عناصر من الجهاد الإسلامي كانت قد اعتقلتهم خلال السنوات الماضية.
صراعاتٍ داخلية؟
على ذات الصعيد، أشارت بعض الصحف العبرية إلى أن عملية الاغتيال تأتي في سياق التجاذبات الداخلية المتعلقة بتشكيل الحكومة العالق وقضايا الفساد التي تعصف بنتنياهو، بعيدًا عن أي اعتباراتٍ أمنية خطيرة، وجارتها في ذلك الصحافة الفلسطينية، التي أصبحت هذه الرؤية أحد تقاليدها، بنسب كل ممارسة صهيونية تجاه الفلسطينيين إلى الأوضاع السياسية داخل الاحتلال وحكومته حصرًا. ولا شك أن التجاذبات الداخلية لها تأثيرها ووزنها في قرارات الاحتلال وممارسته، لكن من غير المعقول إعلاء هذا الأمر واعتباره العامل الأول الوحيد الذي تجري تحت ظله الأحداث، الذي ينفي بشكلٍ أو بآخر، الفعل المقاوم من المعادلة.
آخرون أحالوا عملية الاغتيال إلى مجيء نفتالي بينيت كوزير أمنٍ للاحتلال، بعد تعيين نتنياهو له قبل أيامٍ فقط، يتجاهل هذا كون تعين بينيت مؤقتًا داخل حكومة انتقالية، عدا أن وزير الأمن لا يتمتع بصلاحياتٍ حقيقية فيما يخص السياسات الأمنية والعسكرية للاحتلال، وخصوصًا في وجود شخص مثل نتنياهو برئاسة الوزراء.
الردع ومعادلات الاشتباك
منذ صباح الأمس، أعلنت قيادة الجبهة الداخلية للاحتلال وقف الدراسة في مناطق واسعة تبدأ من محيط تل أبيب وكل المدن المحتلة المحيطة بها وحتى التجمعات الاستيطانية في محيط غزة، تحسبًا من رد المقاومة، كما مُنع المستوطنون من مزاولة الأنشطة الزراعية في محيط غزة، وتحت ضربات المقاومة وصواريخها، أوقفت حركة القطارات في النقب والجنوب، وأغلقت الطرق المتاخمة للسياج الفاصل، وأعلنت التجمعات الاستيطانية المحاذية لغزة حالة التأهب القصوى وفتح الملاجئ العامة.
شهدت ساعات الليلة المتأخرة هدوءًا نسبيًا، لتعود الأمور لسابق عهدها بعد فجر اليوم، فواصلت قوات الاحتلال قصفها لأهدافٍ مختلفة في غزة، واستمرت المقاومة في إطلاق رشقاتٍ صاروخية على مستوطنات وبلدات الجنوب
وعلى الرغم من إعلان غرفة العمليات المشتركة انعقادها الدائم لبحث سبل الرد المناسب، فإن إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون، على ما بدا، قد اقتصر في أغلبه على الجهاد الإسلامي الذي واصل ضرباته الصاروخية طوال يوم الأمس، ابتدأها بقصفٍ لتل أبيب.
وشهدت ساعات الليلة المتأخرة هدوءًا نسبيًا، لتعود الأمور لسابق عهدها بعد فجر اليوم، فواصلت قوات الاحتلال قصفها لأهدافٍ مختلفة في غزة، واستمرت المقاومة في إطلاق رشقاتٍ صاروخية على مستوطنات وبلدات الجنوب، قبل أن تدوي صافرات الإنذار كذلك في محيط مدينة القدس.
من غير المعلوم، ما ستفضي عنه ساعات التصعيد القادمة، التي قد نرى فيها تصاعدًا للأحداث أو انخفاضًا في حدتها يصل للذهاب لتثبيت تهدئة، يبقى ذلك رهينة الظروف الميدانية أولًا، ورغبة المقاومة في تثبيت معادلات اشتباكٍ وردع واضحة، ومحاولة الاحتلال في كبحها.
فلا شك، أن هذه المواجهة سيكون لها ما بعدها على صعيد الردع المتبادل الذي حكم العلاقة بين المقاومة في غزة وجيش الاحتلال خلال السنوات الماضية، الذي تُظهر جولات التصعيد الأخيرة أن المقاومة تفقد جزءًا ليس بسيطًا منه، تحت وطأة انعدام رغبتها الواضحة بعدم الدخول في مواجهةٍ مفتوحة مع الاحتلال، والنابعة من منطق تأخير المواجهة بهدف مراكمة القوة من جانب، والوضع الإنساني القاسي في غزة من جانبٍ آخر، الذي يُشكل القنبلة الموقوتة الحقيقة، التي قد تدفع الأمور، وفي أي وقتٍ قادم، للانفجار الكبير في غزة.