ترجمة وتحرير: نون بوست
إن حساب أنماط ودورات الماضي، يمكن أن يجعلنا نفهم التاريخ بشكل أفضل. فهل يمكن أن يساعدنا التاريخ على تجنب حدوث أزمة قد تلوح في الأفق؟
في عددها الأول الصادر سنة 2010، كانت المجلة العلمية البريطانية “نيتشر” تتطلع إلى عقد من التقدم الباهر. بحلول سنة 2020، ستصبح الأجهزة التجريبية المتصلة بالإنترنت قادرة على استنتاج استفسارات البحث الخاصة بنا من خلال مراقبة إشارات الدماغ مباشرة. في هذه المرحلة، ستكون الإنسانية في طريقها إلى التخلص من الاعتماد على الوقود الأحفوري.
بعد بضعة أسابيع، ألقت رسالة نُشرت في نفس المجلة بظلالها على هذا المستقبل المشرق. فقد حذرت من أن كل هذه التطورات يمكن أن تنحرف عن مسارها بسبب تصاعد عدم الاستقرار السياسي في العالم، الذي من المفروض أن يبلغ ذروته في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بحلول سنة 2020. ووفقا لما أوضحته الرسالة، تمر المجتمعات البشرية بفترات نمو يمكن التنبؤ بها، وخلالها يزداد عدد السكان وتزداد نسبة الرخاء. بالتزامن مع تلك الفترات، تحدث فترات تدهور في العالم يمكن التكهن بها. تستمر هذه “الدورات العلمانية” قرنين أو ثلاثة قرون وتُتوج باضطرابات واسعة النطاق تتراوح بين الانتفاضات العُمّالية والثورات.
يستمر كاتب الرسالة في التنبؤ بأن الاضطرابات في الولايات المتحدة سنة 2020 ستكون أقل حدة من الحرب الأهلية الأمريكية، ولكنها أسوأ من أحداث العنف التي وقعت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات عندما ارتفعت معدلات جرائم القتل
خلال العقود الماضية، حافظت الرسالة على مصداقيتها، حيث بدأ عدد من المؤشرات الاجتماعية المقلقة بالظهور والارتفاع على غرار غياب التوزيع العادل للثروات والمديونية العامة في الدول الغربية، مما يشير إلى أن هذه المجتمعات قد اقتربت من فترة مليئة بالاضطرابات.
يستمر كاتب الرسالة في التنبؤ بأن الاضطرابات في الولايات المتحدة سنة 2020 ستكون أقل حدة من الحرب الأهلية الأمريكية، ولكنها أسوأ من أحداث العنف التي وقعت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات عندما ارتفعت معدلات جرائم القتل، وانتشرت المطالبة بالحقوق المدنية، واشتد التيار المعارض لتدخل الولايات المتحدة في حرب الفيتنام، ونفّذ الإرهابيون آلاف عمليات التفجير في مختلف أنحاء العالم.
في الواقع، لم يكن مؤلف هذه الرسالات التي تحمل هذه التحذيرات الصارخة مؤرخا بل كان عالم أحياء. خلال العقود القليلة الأولى من حياته المهنية، استخدم بيتر تورشين – أستاذ علم البيئة والبيولوجيا التطورية والأنثروبولوجيا والرياضيات بجامعة كونيتيكت الأمريكية- مجموعة من الحسابات المعقدة لإظهار كيف أن تفاعلات الحيوانات المفترسة والفرائس تنتج ذبذبات في الجماعات الحيوانية التي تعيش في البرية. وقد سبق لبيتر أن نشر في مجلات “الطبيعة والعلوم” وذاع صيته في هذا المجال، ولكن بحلول أواخر التسعينيات كان قد أجاب على جميع الأسئلة البيئية التي لطالما جلبت اهتمامه، ليجد نفسه بعد ذلك مولعا بالشأن التاريخي.
في هذا السياق، سعى تورشين إلى تحديد ما إذا كان التاريخ، تماما كعلم الفيزياء، يتبع قوانين محددة. وفي سنة 2003، نشر تورشين كتابا بعنوان “القوى المحركة لمسار التاريخ”، درس من خلالها الدورات العلمانية في فرنسا وروسيا منذ نشأتها وحتى نهاية القرن الثامن عشر. في نفس السنة، أسس مجالا أكاديميا جديدا أطلق عليه اسم “كليوداينميكس”، الذي سعى عبره إلى اكتشاف الأسباب الكامنة وراء حدوث هذه الأنماط التاريخية ونمذجة تلك الأنماط باستخدام لغة الرياضيات.
بعد سبع سنوات، أنشأ تورشين أول مجلة في هذا المجال بصفة رسمية وشارك في تأسيس قاعدة بيانات تضم معلومات تاريخية وأثرية، تحتوي على بيانات أكثر من 450 مجتمع على مر التاريخ. يمكن استخدام قاعدة البيانات لمقارنة المجتمعات على مر الأزمنة والأمكنة، وكذلك لرصد تنبؤات حول انعدام الاستقرار السياسي الذي قد يحدث مستقبلا. وفي سنة 2017، أسس تورشين مجموعة عمل تتكون من مجموعة من المؤرخين وخبراء علوم العلامات والفيزيائيين وغيرهم للمساعدة في التنبؤ بمستقبل المجتمعات البشرية بالاعتماد على الأدلة التاريخية.
بيتر تورشين، أستاذ علم البيئة والبيولوجيا التطورية والأنثروبولوجيا والرياضيات بجامعة كونيتيكت بالولايات المتحدة.
إن مقاربة تورشين التاريخية، التي تستخدم البرامج الحاسوبية للبحث في الأنماط الموجودة في قدر هائل من البيانات التاريخية، أصبحت متاحة في الآونة الأخيرة فقط بفضل تطور قوة الحوسبة وانخفاض تكلفتها وتطوير مجموعات البيانات التاريخية الضخمة. في المستقبل، يعتقد تورشين، أنه سيقع اختبار النظريات التاريخية على ضوء قواعد البيانات الضخمة، ليتم دحض النظريات غير الملائمة.
يرى تورتشين أن توقعه لسنة 2020 لا يعدو كونه مجرد اختبار لنظرية مثيرة للجدل. ومن المحتمل أن يكون أيضا تلميحا لما قد يقع في المستقبل: عالم يخلقُ فيه العلماء ما يعادل التحذيرات المناخية القاسية للظروف الاجتماعية والسياسية المستقبلية إلى جانب تقديم الإرشادات حول كيفية الاستمرار على قيد الحياة في هذا العالم.
يَعتبر العديد من المؤرخين أن هذا النهج الرياضي للتاريخ يمثل مشكلة، حيث يعتقدون بأنه يمكن استخلاص الدروس من الماضي ولكن بشكل محدود للغاية. فعلى سبيل المثال، فقط عدد ضئيل من المؤرخين اليوم يبحثون عن قوانين عامة تظل سارية المفعول لفترات زمنية مختلفة ومجتمعات مختلفة، أو قواعد صالحة للتنبؤ بالمستقبل بطريقة مجدية.
يعتقد مؤرخون آخرون أن عمل تورشين، الذي لا يتضمن التاريخ والرياضيات فحسب بل يستند أيضًا إلى أبحاث الخبراء الاقتصاديين وعلماء الاجتماع الآخرين وعلماء البيئة، يوفر تصحيحًا في غاية الأهمية لعقود من التخصص في هذه المجالات
من جهته، يعلق تورشين الذي كان يعمل أستاذا في قسم البيئة وعلم الأحياء التطوري بجامعة كونيتيكت بالقول إن “النظم الاجتماعية معقدة للغاية لدرجة أننا بحاجة إلى نماذج رياضية”. والأهم من ذلك أن القوانين الناتجة تعتبر احتمالية وليست حتمية، مما يعني أنها قد تقوم على عنصر الصدفة. من جهة أخرى، لا يعني هذا أنها خاطئة تماما، فإذا أشارت التنبؤات الجوية إلى احتمال هطول المطر بنسبة 80 بالمئة، فإنك ستهرع بالتأكيد إلى حمل مظلة. ويفيد بيتر ج. ريتشرسون، وهو باحث بارز في مجال التطور الثقافي بجامعة كاليفورنيا، بأن الأنماط التاريخية موجودة وأن أفكار تورشين تعتبر “الحساب السببي الوحيد المعقول” لها.
في سياق متصل، يعتقد مؤرخون آخرون أن عمل تورشين، الذي لا يتضمن التاريخ والرياضيات فحسب بل يستند أيضًا إلى أبحاث الخبراء الاقتصاديين وعلماء الاجتماع الآخرين وعلماء البيئة، يوفر تصحيحًا في غاية الأهمية لعقود من التخصص في هذه المجالات. وقد كتب عالم الآثار في المتحف الميداني للتاريخ الطبيعي في شيكاغو، غاري فينمان، بعد ورشة عمل شاركه فيها تورشين وزملاؤه سنة 2016: “نحن في المجالات العلمية والاجتماعية التاريخية في أمس الحاجة إلى هذا النوع من الجهود الشاملة والتعاونية والمقارنة”. ومع ذلك، يشعر الآخرون بالحماس تجاه الأفكار الجديدة التي قد تنشأ عن دراسة المجتمعات الإنسانية بالطريقة ذاتها التي تُستخدم لدراسة النظم البيولوجية المعقدة.
عندما بدأ تورشين في البحث عن المواصفات الرياضية للتاريخ في أواخر التسعينيات، تفطن إلى أن باحثًا آخرا مهد له الطريق قبل عقدين من الزمن وتوصل إلى جملة من المعلومات حول هذا المجال. لقد تحوّل عالم الرياضيات جاك غولدستون إلى مؤرخ، وبصفته طالبا في جامعة هارفارد استخدم الرياضيات ذات مرة لتحليل أفكار أليكسيس دي توكفيل حول الديمقراطية. وقد أخبرني مؤخرًا: “لقد حاولت صياغة حجة دي توكفيل على شكل مجموعة من المعادلات، ولكنني لم أحصل على نتيجة جيدة”. أصبح غولدستون أول شخص يطبق نظرية التعقيد على تاريخ البشرية، ويستنتج أن غياب الاستقرار السياسي كان دوريًا. وتمثلت النتيجة في الحصول على وصف رياضي للثورة، وهو نصف نموذج حول مفهوم التغيير الاجتماعي الذي درسه تورشين.
بلفاست أثناء الاضطرابات: يعتبر العديد من المؤرخين أن هذا النهج الرياضي للتاريخ يمثل مشكلة، حيث يعتقدون بأنه من الممكن استخلاص الدروس من الماضي ولكن بشكل محدود للغاية
أدرك غولدستون أن المكونات المختلفة للمجتمع والدولة والنخب والجماهير، ستستجيب بشكل مختلف للضغط ولكنها ستتفاعل معه أيضًا. بعبارة أخرى، كان غولدستون يتعامل مع نظام معقد إلى درجة جعلت الرياضيات أفضل أسلوب لتحليل سلوكه. إن النموذج الخاص به والمتعلق بالسبب وراء اندلاع الثورات يقوم على مجموعة من المعادلات، ولكن الوصف اللفظي كان كالآتي: يتجاوز نمو السكان قدرة الأرض على استيعابهم، ما يؤدي إلى إنخفاض مستوى معيشة الجماهير ويعزز من احتمال لجوئهم إلى التعبئة الشعبية العنيفة.
في هذا السياق، تحاول الدولة مواجهة الأمر من خلال وضع حد أقصى للإيجارات لكن مثل هذه التدابير تنفر النخبة التي تضررت مصالحها المالية وأصبحت أقل استعدادًا لقبول المزيد من الخسائر. لهذا السبب، تحاول الدولة الاستفادة من خزائنها لإخماد الجماهير، مما يؤدي إلى زيادة الدين الوطني ويقلل من قدرتها على مواجهة المزيد من الضغوط.
في هذا الصدد، اقترح غولدستون بعض الطرق لقياس إمكانات التعبئة الجماهيرية وفقا لما أسماه مؤشر الضغط السياسي “بساي” (Ψ) الذي ارتفع قبيل الثورة الفرنسية والحرب الأهلية الإنجليزية، وخلال صراعين تاريخيين أساسيين في القرن السابع عشر يتمثلان في الأزمة العثمانية في آسيا الصغرى والانتقال من سلالة مينغ إلى شينغ في الإمبراطورية الصينية.
مع ذلك، دائما ما يتسبب عامل أخير في اندلاع الصراع، على غرار فشل الحصاد أو حصول عدوان أجنبي. وعلى الرغم أنه من الصعب دائما التكهن بدقة بلحظة الانفجار إلا أنه يمكن قياس الضغوط الهيكلية وتقدير حجم خطورة الأزمة. هذه الأنماط ليست محصورة في الماضي، وبينما كان غولدستون يضع اللمسات الأخيرة على مؤلفه الكبير “الثورة والتمرد في العالم الحديث المبكر” كان الاتحاد السوفيتي بصدد الانهيار. وقد أشار إلى أن مؤشر بساي ارتفع بشكل كبير داخل الكتلة السوفيتية خلال العقدين السابقين لعام 1989.
عندما عثر تورشين على كتاب غولدستون وجده رائعًا. لكن النموذج حسب رأيه لم يكن مكتملا، حيث يقول: “لقد وصف كيفية وقوع المجتمعات في أزمة لكن لم يبين كيف تخرج منها”. لهذا السبب، قرر تورشين إكمال النموذج ومعرفة ما إذا كان ينطبق على المجتمعات البشرية على هامش أكبر بكثير من الوقت. ركز غولدستون على الفترة الحديثة المبكرة، أي حوالي أربعة قرون انطلاقا من 1500، في حين قرر تورشين العودة إلى ما يقرب من 8000 عام إلى الوراء لفترة العصر الحجري الحديث ما يعني ضرورة جمع كميات هائلة من البيانات، وقد كان محظوظا في هذا الصدد.
كيف يمكن لمعادلة ما التنبؤ بجان دارك أو أوليفر كرومويل؟
على الرغم من أن السجل التاريخي يظل مجزأ أو غير مكتمل، إلا أنه أصبح من الممكن حاليا معرفة المزيد من الأشياء حول كيفية عيش الناس المنقرضين حتى إن لم يخلفوا أثرا مكتوب. وقد أوضح تورشين في كتابه “الديناميات التاريخية” نمطًا من الدورات العلمانية في المجتمعات التي تطورت في فرنسا وروسيا الحديثة، بداية من الألفية الأولى قبل الميلاد إلى عام 1800 تقريبًا. كما أظهر تورشين وجود تذبذبات أقصر في استقرار هذه المجتمعات تستمر لحوالي 50 عامًا وهو ما أطلق عليه “دورات الآباء والأبناء” التي تتمثل في وعي جيل ما بالظلم اجتماعي ومعالجته بعنف لينفر الجيل التالي من العنف بسبب نشأته في أعقابه، ثم يبدأ الجيل الثالث دورة جديدة. في هذا الشأن، يبدوا أن الكثير من العلماء كانوا متشككين في تحليلات تورشين كما كانوا غير واثقين في غولدستون قبل أكثر من عشر سنوات.
إلى حدود الآن، قام مؤسسو سيشات و”مجموعة الخبراء”، بمن فيهم المؤرخون البارزون وعلماء الآثار وعلماء الأنثروبولوجيا، بجمع بيانات عن المجتمعات بدأ من جبال الأنديز والحوض الكمبودي وآيسلندا وصولا إلى صعيد مصر. عند تحليل هذه البيانات، كشف تورشين أن الفترات العلمانية وفترات الآباء والأبناء، تتناسب مع أنماط عدم الاستقرار التي عاشتها جميع أنحاء أوروبا وآسيا منذ عصر المزارعين الأوائل، الذي كانوا يتواجدون في مصر القديمة والصين وروما، وفي جميع المجتمعات التي كانت متواجدة خلال الفترة ما قبل المرحلة الصناعية.
لكن السؤال الذي ينبغي طرحه، هل كانت لهذه الدورات دور في المجتمعات الصناعية الحديثة؟ قام تورشين بتحديث مؤشر بساي ليعكس القوى التي تشكل سوق العمل الحديث، واختار مؤشرات جديدة تتناسب أكثر مع العالم الصناعي. وشملت هذه التحديثات الأجور الحقيقية لحشد الجماهير وتكلفة التعليم في جامعة ييل لمنافسة النخبة وأسعار الفائدة على الملاءة المالية للدولة.
في حين تميل المجتمعات إلى الدخول في أزمة عبر المسار الذي رسمه غولدستون، وجد تورشين أنها تخرج من هذه الأزمات عبر مجموعة من المسارات المحتملة
ثم قام تورشين باحتساب مؤشر بساي في الولايات المتحدة من سنة 1780 إلى يومنا هذا. كان هذا المؤشر منخفضا خلال ما يسمى بعصر المشاعر الطيبة سنة 1820، وسجل ارتفاعا خلال ستينيات القرن التاسع عشر، وانخفض مجددا في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية. منذ سنة 1970 ارتفع هذا المؤشر بشكل مطرد. لكن هذا لا يعني أنه محكوم علينا بالعيش في أزمات. فقد تجنبت العديد من المجتمعات الكوارث، وكان تورشين بصدد وضع نموذج لمعرفة كيفية قيامهم بذلك.
في أواخر الثمانينيات، سافر تورشين إلى غابات لويزيانا، حيث مولت صناعة الأخشاب أبحاثه المتعلقة بآفة تسمى خنفساء اللحاء والأمبروزية. في ذلك الوقت، كان الإجراء المعتاد للسيطرة على الخنفساء هو رش مبيدات الحشرات في الموقع المصاب. كشف تورشين أن هذا النوع من التصدي لهذه الآفة ليس فعالا لأنه تسبب في مقتل خنفساء أخرى تقضي بدورها على هذه الآفة. وكانت الاستراتيجية الأفضل تتمثل في إزالة الأشجار المصابة. على نطاق أوسع، كشف تورشين أنه كان من الممكن القيام ببعض التدخلات في نظام بيئي معقد للتقليل من حدة هذه الأزمات وزيادة فرص الشفاء من هذه الآفات. ومن جهته، يأمل تورشين في اكتشاف استراتيجيات مماثلة لتخفيف الأزمات في المجتمعات البشرية.
في حين تميل المجتمعات إلى الدخول في أزمة عبر المسار الذي رسمه غولدستون، وجد تورشين أنها تخرج من هذه الأزمات عبر مجموعة من المسارات المحتملة. وفي حال لم تقع أحداث مزعزعة للاستقرار، قد تتعافى الدول من أزماتها كما فعلت إنجلترا بعد الثورة المجيدة شبه الدامية التي اندلعت سنة 1688. لكن صدمة إضافية صغيرة يمكن أن تدفعها نحو نتيجة أسوأ، حتى تصل للانهيار. كان الاتحاد السوفيتي يعيش أزمات قبل أن وقوع كارثة تشيرنوبل النووية سنة 1986، لكن ميخائيل غورباتشوف ربما لم يكن مخطئا عندما اعتبر هذا الحدث سببا في سقوطه.
لفهم هذه المرحلة بشكل أفضل، يخطط تورشين وعلماء آخرون لبناء مجتمعات قائمة على المحاكاة بالكمبيوتر تتكون من آلاف أو ملايين الأفراد، وبرمجتهم على التصرف وفقا للقوانين التي استخلصوها من المجتمعات الحقيقية. ويمكنهم إخضاع تلك المجتمعات القائمة على المحاكاة للضغوط ومراقبة تأثيراتها على الدولة والنخب والمواطنين. وبمجرد وصول مؤشر بساي إلى مستويات عالية، يمكن لهذه الضغوط أن تتسبب في صدمة للمجتمعات أو تزيد من صمودهم من خلال تعزيز البنية التحتية للمجتمع.
يشير تورشين إلى الصفقة الجديدة للولايات المتحدة في الثلاثينيات، التي يعتبرها فترة وافقت خلالها النخب الأمريكية على تقاسم ثرواتها المتنامية بشكل أكثر إنصافا.
تشير تجربتنا مع أزمة المناخ إلى أنه حتى لو استطعنا التنبؤ بالمستقبل بالطريقة التي يمكننا بها التنبؤ بالطقس، والتوصل إلى مجموعة من التدابير الوقائية لتجنب الانهيار الاجتماعي، لا يعني ذلك أننا سنكون قادرين على التحلي بالإرادة السياسة للعمل عن مثل هذه التوصيات. وعلى الرغم من أن المجتمعات البشرية كانت أفضل في إعادة بناء نفسها بعد الكوارث أكثر من قدرتها على منع حصول هذه الكوارث في المقام الأول، إلا أن هناك بعض الاستثناءات. ويشير تورشين إلى الصفقة الجديدة للولايات المتحدة في الثلاثينيات، التي يعتبرها فترة وافقت خلالها النخب الأمريكية على تقاسم ثرواتها المتنامية بشكل أكثر إنصافا.
يعتقد تورشين أن المؤرخين سوف يتبعون قريبا علم التعقيد، تماما كما فعل علماء الأحياء قبل نصف قرن. وسوف يدركون أن هذا العلم يسمح لهم برؤية الأمور بشكل أعمق، للتعرف على الأنماط غير المرئية للعين البشرية. في السنوات القليلة الماضية، تم إنشاء عدد قليل من المؤسسات على غرار مركز دراسات الخطر الوجودي في جامعة كامبريدج، الذي يهدف إلى تشجيع صناع السياسة على التفكير في الدروس التي قدمها لنا التاريخ.
بالنسبة إلى تورشين، تعتبر جل هذه تطورات مشجعة. ومع أننا على مشارف سنة 2020، لا تزال المؤسسات التي تعنى بالتشريع في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة منقسمة على أسس أيديولوجية لدرجة أنهم بالكاد يستطيعون العمل المشترك. في كلا البلدين، استولى أعضاء النخبة الساخطين على السلطة باسم الشعب، بينما فشلوا في معالجة الأسباب الكامنة وراء انزعاج المجتمع بسبب اتساع فجوة عدم المساواة وهشاشة الدولة.
المصدر: الغارديان