طالما كان المنهج السائد في دراسة الأدب العربي هو المنهج “التاريخي التقدمي” الذي يعتمد على تقسيم الأدب العربي، بمختلف أجناسه، تقسيمًا “سياسيًا”، يبدأ من العصر الجاهلي، ثم عصر صدر الإسلام، مرورًا بالعصر الأموي والعباسي، وهكذا حتى نصل إلى ما يُعرف بـ”الأدب العربي الحديث”.
لكن تحولًا نوعيًا طرأ في منتصف القرن الماضي، حينما دعا بعض المنظرين العرب إلى استخدام منهج جديد في دراسة الأدب العربي وهو “المنهج الإقليمي” (منهج البيئات كما سماه يوسف خليف)، الذي يعتمد في جوهره على بحث تأثير “المكان” في “الإنسان”.
ينطلق هذا المنهج الجديد من افتراض مفاده أن “لكل بيئة منفردة مزاياها وخصائصها التي تنفرد بها بين الأقاليم، وتلك المزايا والخصائص هي التي توجه الحياة الأدبية فيها وتؤثر في سيرها، وباختلاف هذه المميزات المادية والمعنوية، تختلف حياة الإقليم الأدبية ويختلف نظام سيرها من نشأةٍ وتدرج وتفرع”، كما يقول الشيخ أمين الخولي أحد أهم الداعين لهذا المنهج.
الشيخ أمين الخولي من المنظرين للمنهج الإقليمي في الأدب
وبحسب أشرف دعدور أستاذ الأدب الأندلسي في جامعة القاهرة، فإن هذا التحول في التركيز على دراسة تأثير المكان على الأدب والإبداع والسمات النفسية في المشرق، وظهور مصطلحات مثل “الأدب الإقليمي” و”شخصية المكان”، جنبًا إلى جنب مع المدخل السياسي التاريخي في دراسة الأدب، كان تفاعلًا مع تنظيرات فلاسفة وأدباء غربيين، مثل مدام دوشتال وسانت بوف وبرونتيير وإيبوليت تين.
ومع نضوج هذا الحقل العلمي وتبلور دراساته وتصدر أجيال للبحث فيه، تشكل إجماع على أن “نهر النيل” كان مصدر الطاقة الإبداعية التي ألهمت الشعراء المصريين والعرب الذين وفدوا إلى مصر، ففاضت ألسنتهم وكتاباتهم بآداب شكّل مجموعها شخصية مصر الأدبية. وفي هذا التقرير، سوف نتعرف على بعض جوانب تفاعل هؤلاء المبدعين مع هذا النهر العظيم.
النيل المقدس
في أرضٍ صحراوية قاحلة مثل مصر، كان الشعراء والأدباء -وهم أكثر الناس إحساسًا وقدرةً على التعبير- ينظرون إلى نهر النيل بعين المهابة والإجلال، باعتباره سر وجود الحياة والإنسان في هذه البقعة الجغرافية منذ فجر التاريخ.
فيتحدث الإمام السيوطي في إحدى مقاماته الأدبية (مقامة الروضة) التي كتبها في العصر المملوكي، عن مصر، واصفًا النيل بشكل يغلب عليه الطابع الأسطوري، قائلًا:”ويحيطُ بأرجائها النيل، وما أدراك ما النيل! سيد الأنهار، والمسخر له جميع مياه الأرض، تمده في الزيادة، كما ورد في الآثار. أصل منبعه من الجنة، وسُمي في القرآن باسمه دون غيره، ونطقت به الألسنة، وهو في الجنة نهر العسل، ويرفعه جبريل عند رفع القرآن، ومن لم يعرف فليسل، وهو الذي كاتبه عمر بن الخطاب لما حمل مصر الإصر، فكتب إليها بطاقة صدرها: من عبد الله عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، إلى نيل مصر”.
ويبدو إدراك الشعراء لدور نهر النيل في تشكيل الهُوية المصرية واضحًا، من خلال إحدى الصور الشعرية الشائعة في الأدب المصري، التي يُقارِن فيها الشاعر بين المجال الجغرافي الصحراوي الذي يرمز إلى اللاحياة، ومجال آخر كان فيه النيل، فكانت الحياة، فيقول أحد الشعراء، مؤكدًا أن حضارة الفراعين السامقة التي يحتفي بها الناس، ما كان لها الوجود، لولا هذه المنحة الإلهية المعروفة بنهر النيل:
انظر إلى الهرمين إذ برزا للعين في عُلوٍ وفي صعد
وكأنما الأرض العريضة قد ظمأت لطول حرارة الكبد
حسرت عن الثديين بارزة تدعو الإله لفرقة الولد
فأجابها بالنيل يشبعها ريًا وينقذها من الكمد
وقد دأب الشعراء على استحضار سردية الأصل المقدس للنيل في أشعارهم، اعتمادًا على الروايات التاريخية المنسوبة على لسان الخليفة عمر بن الخطاب إلى فاتح مصر عمرو بن العاص: “يخط فيها نهر مبارك الغدوات، يسيل بالذهب، ويجري بالزيادة والنقصان، كمجاري الشمس والقمر”، واستنادًا إلى التأويلات الدينية لقول الله حكايةً عن فرعون:”ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون”، فكان الشعراء يشيرون إلى النيل بصيغة الجمع، مدحًا، في أشعارهم التي تتحدث عن مصر، بنفس أسلوب القرآن، كقول محمد بن عاصم الموقفي:
منزلًا لستُ محصيًا ما لقلبي ولنفسي فيه من الأوطار
منزلًا من علوه كسماء والمصابيح حوله كالدراري
غرد به ذو البحار والأنهار في ثياب من سندس ذي اخضرار
ملهم الشعر
ومن هذا المُنطلق، باتت صفحة نهر النيل بؤرةً ومسرحًا تلتقي خلالها التجارب الشعرية، بغض النظر عن تناقضاتها، فها هو تميم بن المعز لدين الله الفاطمي يعتبر أمواج النيل رمزًا للبهجة والسرور:
نظرتُ إلى النيل في مده بموج يزيد ولا ينقص
كأن معاطف أمواجه معاطف جارية ترقص
ومع ذلك، فهو لا يستنكف أن يظهر نفس المشاهدات في صورة مختلفة كليًا، إذ يقول:
انظر إلى النيل قد عبا عساكره من المياه فجاءت وهي تستبق
كأن خلجانه والماء يأخذها مدائن فتحت فاجتازها الغرق
وكأن تياره ملكٌ رأى ظفرًا فكر إثر الأعادي محنق نزق
ومن المرجح أن تميم قد أسقط هذه الصورة على نهر النيل، تأثرًا بما تعرض له من ظلم، عندما حرمه أبوه من ولاية مصر، لحساب أخويه الأصغر منه عمرًا: عبد الله ونزار (العزيز بالله).
وقد شاع في الأدب المصري كذلك تصوير النيل كمركز لالتقاء باقي ظواهر الطبيعة، حيث تتكثف على وجه مياههِ باقي المنح الربانية الطبيعية عازفةً سيمفونية “القصد” و”النظام”، فخالق النيل، لم يخلق شيئًا عبثًا، فيقول أحدُ الشعراء الفاطميون مصورًا انعكاسَ ضوء القمر على صفحة النيل:
وقد مد في النيل بدرُ الدجى صفيحةَ سيف صقيل يماني
وبالقرب من هذه الصورة، يقول الشريف العقيلي:
النيل قد لاحت على خصره منطقةٌ من صيغة البدر
والنيل عند الشيخ عبد الغني النابلسي امتداد أرضٍ لتشكلات الطبيعة الربانية في الفضاء:
وما النيل إن جرى بالمراكب سوى الفلك الزاهي كحُسن الكواكب
أو الملك البادي بعسكر مُوجهٍ يزف بطبل الريح باهي المواكب
إذا عبثت أيدي النسيم به حكتْ دبيبَ نمل فوق نسج العناكب
وإن أشرقت شمس الضحى فكأنما على الفضة البيضاء عسجدٌ ساكب
فحي يا صاح نحو مروجه تجد مَلك الأزهار أفخر واكب
التجديد في الشعر
ألهم نيل مصر شعراءها مبحثًا شعريًا جديدًا يسمى “أدب الديارات” (جمع دير)، وهي الأديرة المسيحية التي كانت تُبنى على تضاريس عالية وبعيدة نسبيًا عن السكان، بحيث توفر العزلة المطلوبة للرهبان في صوامعهم، وتحصل في نفس الوقت على المياة عبر وصلات هندسية من نهر النيل، يستطيعون من خلالها زراعة حرم الدير بما يكفي العُبّاد مؤونة الاختلاط بالبشر، فكانت حدائق لا مثيل لها إلا في الجنة كما يقول الشعراء، وكانت ليالي مثلت مادةً خام لمشاعر الحنين مع مرور الزمن، حيث كانت هذه الأديرة قبلةً لبعض الزوار الذين يشربون الخمر كطقس ديني تطهري يُرتجى منه النسيان والغفران.
ويصف “الشابشتي” في كتابه “الديارات” ديرَ القصير قائلاً: “في أعلى الجبل، على سطح قلته، وهو دير حسن البناء، محكم الصنعة، نزه البقعة، فيه رهبان مقيمون، وله بئر منقورة في الحجر، يُستقى الماء له منها، وفي هيكله صورة مريم، وفي حجرها صورة المسيح، والناس يقصدون الموضع للنظر إلى هذه الصورة”.
ويبكي أبو حامد الأنطاكي أيامه في أحد الأديرة القريبة من دلتا النيل قائلًا:
كم بالجزيرة من يوم نعمتُ به على تصاخب ناياتٍ وعيدان
سَقيًا لليلتنا بالدير بين رُبا باتت تجودُ عليها سحب نيسان
والطل منحدر والروض مبتسم عن أصفر فاقع أو أحمر قانٍ
والنرجس الغض منهل مدامعه كأن أجفانه أجفانُ وَسْنان
لا تكذبن فما مصر وإن بعدت إلا موطن أطرابي وأشجاني
ليالي النيل لا أنساكِ ما هتفتْ ورق الحمامُ على دوحٍ وأغصان
وفكرة إلهام النيل شعراءَ مصرَ أفكارًا ومواضيع إبداعية جديدة هي حقيقة راسخة في أعراف الأدب المصري وبين دارسيه، وتشهد عليها أبيات المغربي علي بن سعيد:
أيا ساكني مصر غدا النيل جاركم فأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر
وكان بتلك الأرض سحر وما بقى سوى أثر يبدو على النظم والشعر
ولا يعتبر عوض الغباري، أستاذ الأدب المصري ورئيس قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، أن ما ورد في شعر “الديارات” من وصفٍ، مجرد محاكاة للطبيعة على طريقة نظرية الفن عند أرسطو طاليس، وإنما نحن إيذاء صور مركبة تركيبًا سلسًا ملائمًا للسجية العربية في البلاغة، التي كانت ترى “التشبيه جميلاً إذا نجح الشاعر في تقديم الشيء كما هو في الواقع، عن طريق إحكام وجه الشبه بين طرفي التشبيه، وكذلك الاستعارة التي تكمن قيمتها الفنية في قدرة مبدعها على التصوير الذي يستغرق في الغموض ولا يستغلق على الفهم”.
البُعد عن السياسة
وعلى طريقة وصف المرشح الرئاسي الأسبق أحمد شفيق، لساكن الوادي بأنه “سهل المعشر”، فيبدو أن نهر النيل، بطبيعة امتداده، أورث المصريين صفاتٍ تنفرهم من السياسة ومجالها النفسي المرتبط بالصراع، وسهل في الوقت ذاته عملية السيطرة على السلطة، من خلال “دولة مركزية” تبسط سلطتها على هذا الوادي، وتتحكم في شؤون باقي الأقاليم بالتبعية.
وفي هذا الصدد يؤكد عوض الغباري “الشخصية المصرية كانت تخاف من تقلبات السياسة، وتؤثر العافية، طلبًا للأمان، في مجتمع زراعي يرتبط بالأرض، ويحب الاستقرار، ولا يميل إلى ما يؤدي إلى اضطراب حياته. لذلك، فقد لجأ الشاعر أيضًا إلى الطبيعة معادلًا موضوعيًا لحبه للحياة، وبعده عن كل ما يعكر صفوها أو يهدد أمنها”.
وقد ضُربت بأشعار ابن وكيع التنيسي الأمثالُ في تقديم نظرية مختلفة عن الحياة، متأثرةً بفعل نهر النيل في المزاج والجغرافيا المصرية، ومن ذلك قوله:
علل فؤادك فالدنيا أعاليل ولا يشغلنك عن اللهو الأباطيل
وإن أتوك وقالوا: كن خليفتنا فقل لهم إنني عن ذاك مشغول
فإن ذلك أمر مع نفاسته ونُبله بفناء العمر موصولٌ
وارضِ الخمول فلا يحظى بلذته إلا امرؤ خامل في الناس مجهولُ
و”تنيس” هي مكان بحيرة المنزلة، بين دمياط وبورسعيد، وقد سُميت بمدينة الزهر والخمر تيمنًا بشاعرها “ابن وكيع”، كما يقول الدكتور حسين نصار، ووصفها “المسعودي” بأنها “كانت أرضًا لم يكن بمصر مثلها استواء، وطيب تربة. كانت جنانًا، ونخلًا، وكرمًا، وشجرًا، ومزارع، وكانت فيها بحار (بحيرات) أعلى ارتفاعًا من الأرض، ولم ير الناس بلدًا أحسن من هذه الأرض ولا أحسن اتصالًا من جنانها كرومها ولم يكن بمصر بلد يقال إنها تشبهها إلا الفيوم”.
ويرسم ابن وكيع في أبيات أخرى صورة توضح مبتغاه من الحياة، وتعكس في نفس الوقت جانبًا مهمًا من التكوين النفسي والاجتماعي المصري، الذي كان النيل الرافد الأهم في تشكيله على الإطلاق قائلًا:
أسمى الأماني كلها وأجل منها ما يُنال
كأس ومسمعة وإخوان تحادثهم ومال
وعند ابن النقيب صورةٌ مماثلة، استخدم فيها التورية تصور انغماس المصري في أرضه وإيثاره السلامة:
أقول وقد شنوا إلى الحربِ غارةً دعوني فإني آكل العيش بالجبن
التورية كمراوغة
وهكذا، كان يحاول المصري الهرب من السياسة ومتاعبها، والاستئناس بالماء والزرع بدلًا منها، مسلمًا أموره لله، ومكرسًا معظم الوقت للطبيعة، مجتهدًا في ترويضها والاستفادة من خيرها.
لكن الذي طبع الطبيعة، جعل في خرقها ضرورةً لإدراك طبيعتها، فكان النيل العظيم الذي يجري طوال العام، يفيض أحيانًا، فتغرق الأرض، ويموت المحصول، فيسخط الفلاح الذي بات فلاحًا مع إيقاف التنفيذ، وكان الأكثر من الفيضان هو الجفاف، فارتبط وجدان الفلاح بمقاييس النيل التي عرفها الفراعنة وكانت نواة للأدوات الحديثة في التنبؤ بسلوك الطبيعة. فمدحها الشعراء:
انظر إلى مقياس مصر وغن لي في روضة المعشوق من عشاق
وافخر بمصر على البلاد فنيلها يقضي على الأوصاف باستغراق
ويُفسر الصفدي في “فض الختام عن التورية والاستخدام” ولع الأدباء المصريين بالتورية وفنون التعبير غير المباشرة بأنهم “قد شربوا ماء النيل، وهو أحد أنهار الجنة، وترشفوا منه حلاوةً لا تكون في حشا القطر مُستجنة. ومن عذبت قطراتُ مياههم لطفت كلماتُ شفاههم. وإذا كانوا قد نشأوا في حلية الحلاوة، ثنوا في المحاورة طلية الطلاوة”.
فيا تُرى كيف يتفاعل شعراء مصر وفلاحوها مع المخاطر المنتظرة من سد النهضة الإثيوبي المقرر افتتاحه منتصف العام المقبل إيذانًا ببدء ملْء الخزان؟ وهل سيتقلص ارتباط المصريين بالنيل وتتبدل رؤيتهم عن ذواتهم ومن ثم آدابهم؟