في جميع أنحاء العالم وفي كل الأزمنة، كان الإنسان بارعًا في خلق أنواع مختلفة من الآليات والتكتيكات لحلّ النزاعات والردع، ومن بينها فكرة الدولة العازلة التي ازدادت شعبيتها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كوسيلة لمنع دول متجاورة ومتعادية من الانخراط في أنشطة عسكرية ضد بعضها البعض. واليوم، لا يزال العالم يلجأ إلى هذا النظام كأداة لإدارة ودرء الصراعات بين القوى المتنافسة بطريقة منظمة ومنهجية.
وبحسب، توماس روس، أستاذ جامعي متقاعد في الجغرافيا بجامعة نورث كارولينا، في القرن العشرين، كان هناك ما لا يقل عن 32 دولة عازلة، مثل لبنان وإيران والعراق وكوريا وكمبوديا في آسيا وبولندا وبلجيكا في أوروبا، ولكي نفهم طبيعة هذه الدول، نقدم في هذا التقرير لمحة عامة عن المفاهيم الأساسية لفكرة المنطقة العازلة والصورة الجغرافية لها وخصائصها، مع توضيح بعض الأمثلة المختلفة من العالم.
الدولة العازلة.. ولادة المصطلح
ظهر مفهوم الدولة العازلة في القرن السابع عشر، عندما بدأت القوى الأوروبية الكبرى آنذاك -مثل إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال- في استكشاف واستغلال الأراضي في القارات الأجنبية وإنشاء إمبراطورياتها عليها، ونظرًا لقربها من بعضها زادت فرص الصراع والخصام فيما بينها، ولذلك قررت القوى الحاكمة أن تترك مناطق معينة بين الإمبراطوريات لتكون بمثابة دول عازلة تحافظ على التوازن في المنطقة.
على سبيل المثال، اعتبرت في ذاك الوقت أفغانستان دولة عازلة بين الإمبراطورية الروسية في الشمال والإمبراطورية الاستعمارية البريطانية، التي تُعرف حاليًّا بالهند وباكستان، في الجنوب. لكن هذه الحالة لم تكن الأولى في التاريخ، فحتى قبائل ما قبل التاريخ تركت مناطق غير مأهولة من أجل تجنب الاحتكاك بالمجتمعات المجاورة وخفض احتمالية حدوث أي اشتباكات عنيفة فيما بينها.
وبحسب مقالة بحثية، بعنوان “الدول العازلة في السياسة العالمية”، يقول الباحثون إن مصطلح “الدولة العازلة” استخدم لأول مرة عام 1883 للإشارة إلى وضع أفغانستان بالنسبة إلى الإمبراطورية البريطانية في جنوب آسيا والإمبراطورية الروسية لأسباب أمنية، إلا أن العصر الساساني شهد ولادة هذا النظام على يد الإغريقيين والفارسيين، رغم أن التسمية لم تكن متشكلة بعد.
ملامح الدولة العازلة: ضعف اجتماعي وصراعات داخلية
بصرف النظر عن الحقبة الزمنية التي ظهر فيها هذا الكيان السياسي، فإن شكلها ووظيفتها لم تختلف كثيرًا وكانت جميعها تقريبًا تحاول تقليل التوتر بين الخصوم المتجاورة، واستمرت بدورها كنوع من الحاجز السياسي على مر السنين الماضية. وتوضيحًا لملامحها، قدم الباحثون نحو 29 تعريفًا لها، وأبرزها: “دولة ضعيفة، صغيرة الحجم، تقع بين دولتين أو أكثر من الدول القوية وتعمل على منع العدوان الدولي”.
تكون قادرة على امتصاص الاضطرابات السياسية التي تسببها القوى المجاورة، وأن تخلق توازنًا جيوسياسيًا على الصعيد الإقليمي مع الحفاظ على استقلالها وسيادتها
وبصفة عامة، اتفقت كلها على خصائص معينة، ومنها الموقع الجغرافي، بحيث تقع الدولة بين قوتين متنافستين، كما يجب أن تكون دولة أصغر وأضعف من القوتين الكبيرتين المجاورتين، بمعنى آخر، يمكن أن تكون الدولة عازلة متوسطة أو كبيرة الحجم، ولكن لا بد أن تكون القوتان المتجاورتان أكثر قوةً منها.
الشرط الثاني أن تكون قادرة على امتصاص الاضطرابات السياسية التي تسببها القوى المجاورة، وأن تخلق توازنًا جيوسياسيًا على الصعيد الإقليمي مع الحفاظ على استقلالها وسيادتها. وبأي حال، لا يمكن النظر إلى الدول الضعيفة جدًا كحاجز سياسي بين القوى المتعارضة، لأنه ببساطة سوف تتحول إلى ساحة معركة للجيران في خضم النزاعات ولن تكون قادرة على تنفيذ مهمتها كمانع للعداءات السياسية.
الانقسامات الداخلية، سواء الدينية أم السياسية، جزء من صفات الدول العازلة، يتضح ذلك في أوكرانيا
لذلك، فإن بقاء الدول العازلة يعتمد إلى حد ما على صلابتها الداخلية، أي قدرتها على إبقاء أجواء السلام والحياد بين الخصمين. إلى جانب ذلك، ينبغي أن تكون القوتان المتجاورتان في خلاف، ويجب أن تعترف كلاهما بالدولة الوسطى كدولة عازلة. على سبيل المثال، أجريت سابقًا محادثات دبلوماسية بشأن وصف أوكرانيا كدولة عازلة بين روسيا وأعضاء حلف الناتو، لكن بولندا لم تكن راضية عن هذا المقترح.
أما فيما يخص الجانب الاجتماعي، فإن الانقسامات الداخلية، سواء الدينية أو السياسية، جزء من صفات الدول العازلة، يتضح ذلك في أوكرانيا التي بينت نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2004 الانقسام فيها، بحيث دعمت المناطق الشمالية والغربية في البلاد فكرة الاندماج في المنظومة الأوروبية الأطلسية، بينما فضلت المناطق الجنوبية والشرقية العلاقة الوثيقة مع روسيا.
بشكل عام، يمكن تحديد أهم جوانب الوظيفة والسلوك الاجتماعي للدول العازلة في العناصر التالية: الضعف الاجتماعي والسياسي والفساد الإداري وانخفاض النمو الاقتصادي وتنامي القوميات والحركات الراديكالية وقمع المعارضين وميل سكان هذه الدولة إلى الانعزال عن العالم الخارجي وأحداثه.
دول تابعة وليست عازلة
أدى الانسحاب البريطاني من الهند وباكستان إلى انتهاء الخلاف مع النفوذ السوفييتي في المنطقة، وتم سحب أفغانستان إلى المجال السوفيتي وبالتالي أصبحت أفغانستان “دولة تابعة” أو كما تُسمى بالإنجليزية “Satellite State”، وهو المعنى المعاكس للدولة العازلة التي تعمل كأداة لصيانة السلام أو تأخير الحرب، فعلى النقيض تمامًا، تُستخدم الدول التابعة من إحدى القوى العظمى، إما لمهاجمة الطرف الآخر أو لحماية نفسها من هجمات العدو المحتملة، ولكن ليس للحفاظ على السلام.
ورغم دور الدول العازلة في إبقاء مسافة آمنة بين الدول المتحاربة، فإن السلطات تنظر إليها في بعض الأحيان على أنها خطر، بسبب ضعفها وحيادها، إضافة إلى احتمالية جعلها ممرًا عسكريًا لجانب من القوى العظمى المتجاورة، سواء بالاتفاق أم الإكراه، ما يجعلها تشكل تهديدًا على المنافس الآخر.
في هذا الخصوص، يشير ألكساندر رونديلي، رئيس “مؤسسة الدراسات الإستراتيجية والسياسية” في جورجيا، إلى أن الدول التابعة للاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة، أو ما تسمى عادةً بالديمقراطيات الشعبية (بولندا، الجمهورية الديمقراطية الألمانية، تشيكوسلوفاكيا، إلخ) لم تكن دولًا عازلة، لأن القوات السوفيتية تمركزت على بعض أراضيها وبالتالي اتخذت موقفًا في محيط الدفاع الروسي، كما أنهم كانوا أعضاءً في حلف وارسو، ولذلك لم تكن دولًا عازلة بين الاتحاد السوفيني وأوروبا الغربية.
تستبعد القوى العظمى فكرة الدول العازلة، كلما أمكن ذلك وتحاول سحبها إلى صفها. وبطبيعة الحال، يؤثر هذا الموقف على عمرها الافتراضي، فوفقًا للأبحاث التي أجراها باحث أمريكي، تانيشا فضل، بشأن مسألة بقاء الدول في النظام الدولي، فمن المرجح أن تموت الدول العازلة أسرع من غيرها، ومن المتوقع كذلك أن تفقد كيانها وسيادتها، وتتحالف مع إحدى القوى العظمى. وفي العراق مثال مهم على محاولة قوى عظمى جرّه إلى نزاع يقف فيه على الحياد، وهو ما سنفصّل فيه لاحقًا. وفي مثال آخر لتأثير التغيرات الجذرية في السياسات الخارجية على طبيعة الدول العازلة، فمثلًا فقدت بلجيكا صفة الدولة العازلة بعد أن كانت حاجزًا أمنيًا بين ألمانيا وفرنسا، فمع ظهور الاتحاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد ضمن القائمة.
حواجز سياسية في الوطن العربي
في أكثر من منبر إعلامي وسياسي، وُصِف العراق بأنه “ساحة معركة” بين القوى الإقليمية أو الدولية، وخاصةً الأمريكية والإيرانية، لكن الواقع العسكري والسياسي للبلاد يوحي بأنه ينبغي النظر إلى العراق على أنه “دولة عازلة”، إذ رشح النظام السياسي المُسمى بـ “النظام المُخترق” العراق لهذا الدور، لأنه من الدول التي تتأثر بدرجةٍ كبيرة بمواقف وتصورات الدول المحيطة والجهات الفاعلة الخارجية التي لديها القدرة، دائمًا، على التغلغل داخله.
اتخذ العراق موقف الدولة العازلة، في ظل الاستياء الحاد بين السعودية وإيران في المنطقة
يتضح ذلك جليًا في موقفه تجاه العلاقات السعودية الإيرانية، ففي ظل التوتر الحاد بين السعودية وإيران في المنطقة، وجد العراق نفسه مقحمًا في هذه العلاقة المضطربة، وبما أنه شهد ما يكفي من الحروب والأزمات الداخلية، فلا يمكنه بأي حال من الأحوال الانحياز إلى جانب دون الآخر والمجازفة باستقرار بلاده، خاصةً مع تصاعد التوترات بين إيران وأمريكا، حليف السعودية القوي. ولذلك، اتخذ العراق موقف الدولة العازلة التي تحاول المحافظة على الأجواء الودية بين الدول المحيطة، بحياد موزون.
لكن مؤخرًا تحاول قوى عظمى تغيير مكانة العراق كدولة عازلة، بسبب التغيّر بمواقف السياسة الخارجية الأمريكية، فمع انسحاب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، وفرضه عقوبات على إيران، وانسحابه المفاجئ من سوريا، قلت الالتزامات الأمريكية بالمنطقة، لكنها زادت الضغوط على العراق لكي تتبنى موقفًا منحازًا ضد إيران، ولا سيما حين طالبت بغداد بعدم الاستيراد من إيران، في محاولة لكبح النفوذ الإيراني في المنطقة، ومع انصياع العراق للقواعد الأمريكية، فهي تهدد مكانتها كدولة عازلة محايدة.
في مكان آخر من الوطن العربي، ظهرت لبنان في صورة الدولة العازلة، فهي أيضًا دولة ذات نظام مُختَرق وعاشت فترات متكررة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، كما عانت من حرب أهلية طائفية، عدا عن أنها تقع أساسًا في قلب التوترات والصراعات الإقليمية، إلا أن التنافس الذي يجري خارج حدودها وبالقرب منها، لم يكن بين “إسرائيل” وسوريا، كما يوحي الموقع الجغرافي، وإنما بين سوريا والسعودية.
رأت “إسرائيل” أن قيام الأردن خدم أمن “إسرائيل” في الدرجة الأولى وعزلها عن الفوضى الحاصلة في الدول العربية المجاورة، ولا سيما بعد توقيع اتفاقية السلام
لا شك، أن القضية السورية مهمة جدًا بالنسبة للسياسة اللبنانية، فبغض النظر عن جذورها ودوافعها الداخلية، إلا أنها ترتبط بها بطريقة معقدة، خصوصًا مع وجود حزب الله، كطرف لبناني، يشارك في العمليات العسكرية الداعمة لنظام بشار الأسد وجيشه، وهي الجهة التي تلقى دعمًا من إيران، العدو اللدود للسعودية. من جهة أخرى، يرى مراقبون أن لبنان عملت كدولة عازلة لأوروبا ضد تهديدات تنظيم داعش الإرهابي وأزمة اللاجئين في سوريا والعراق.
يضاف إليهما، الأردن الذي حاز على هذه الأهمية في زمن الملك حسين، فوفقًا لأفرايم هاليفي، رئيس الموساد الأسبق، قال: “إن الأردن شكل دولة مهمة لإسرائيل ولجميع دول المنطقة، فقد حاز في زمن الملك حسين على أهمية وثقل تفوقان كثيرًا حجمه وتأثيره، لكنه اعتبر دولة عازلة، ولديه حدود مهمة مع العراق وسوريا والسعودية، ما منحه هذا التأثير في حينه”. ما يعني أن الأردن استمد هذه المكانة الاستراتيجية من موقعه الجيو استراتيجي الذي جعله دولة عازلة، بمباركة من أمريكا، الحليف الرئيسي للاحتلال الإسرائيلي.
لا تختار الدول العازلة أن تكون كذلك، فهي تنشأ نتيجة لقرار سياسي أمني ووجود بيئة دولية عدائية، بمعنى أنها دول مصطنعة وموجهة بالسياسات الخارجية للدول الكبرى
إذ رأت “إسرائيل” أن قيام الأردن خدم أمن “إسرائيل” في الدرجة الأولى وعزلها عن الفوضى الحاصلة في الدول العربية المجاورة، ولا سيما بعد توقيع اتفاقية السلام، الأمر الذي وصفته دراسة أجراها، مردخاي كيدار، محاضر بقسم الدراسات العربية بجامعة بار إيلان، بـ “الإنجاز الإسرائيلي الاستراتيجي الأهم”. علمًا أن هذا المخطط، تم رسمه في مذكرة وزارة المستعمرات البريطانية التي قسمت دول العالم العربي وحددت وجود دولة ضعيفة الموارد ووظيفتها أن تكون دولة عازلة وموطنًا للفلسطينيين عند إقامة الكيان الإسرائيلي في فلسطين، في إشارة للأردن.
بالنهاية، لا تختار الدول العازلة أن تكون كذلك، فهي تنشأ نتيجة لقرار سياسي أمني ووجود بيئة دولية عدائية، بمعنى أنها دول مصطنعة وموجهة بالسياسات الخارجية للدول الكبرى التي لا تؤثر فقط على وضعها السياسي فقط، وإنما تتحكم أيضًا بمصيرها، فعادةً ما تتحمل العبء الأكبر من الهجمات المتبادلة بين القوتين المتعارضين، وتكون أولى ضحايا الحرب بين جيرانها الأقوياء.
خريطة تفاعلية: أمثلة أخرى عن الدول العازلة في العالم