“نحن صديقان منذ أمد بعيد“.. بهذه العبارة استقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نظيره التركي رجب طيب أردوغان في البيت الأبيض، أمس الأربعاء، في زيارة اعتبرها خبراء “تجاوزًا” للتوترات التي شابت العلاقات بين البلدين خلال الآونة الأخيرة جراء تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات في الشرق الأوسط.
ترامب وخلال مؤتمر صحافي مشترك مع أردوغان، إثر انتهاء اجتماع بينهما استمر قرابة خمس وسبعين دقيقة، أعلن أنه من أشد “المعجبين” بالرئيس التركي، رغم فوضوية التصريحات التي أدلى بها خلال الأسابيع الأخيرة بحق الدولة التركية وقيادتها السياسية لا سيما بعد شراء منظمة إس 400 الروسية.
تزامن لقاء الزعيمين مع عقد الكونغرس أولى الجلسات العلنية لإجراءات عزل ترامب على هواء المحطات التليفزيونية الأمريكية، على خلفية اتهامات للرئيس تربط بين تقديم واشنطن مساعدات عسكرية أمريكية لأوكرانيا وفتحها تحقيقًا بشأن شبهة فساد تتعلق بهانتر ووالده جو بايدن، المرشح الديمقراطي المحتمل لانتخابات 2020.
شهد اللقاء الكثير من التفاهمات بشأن العديد من الملفات المشتركة بجانب تعزيز سبل التعاون المشترك على المستويات كافة، وهو ما جاء منافيًا للأجواء التي خيمت على سماء العلاقات بين البلدين خلال الفترة الأخيرة التي كان من المتوقع أن تلقي بظلالها على تلك الزيارة، وهو ما لم يحدث.
كان الرئيس الأمريكي قد أعلن قبل أسبوع أنه سيلتقي نظيره التركي في البيت الأبيض يوم 13 من نوفمبر المقبل، وهو ما أكدته الرئاسة التركية أيضًا، وأشار ترامب في تغريدة إلى “تطلعه” للقاء أردوغان الأربعاء المقبل، مشيرًا إلى إجراء “اتصال هاتفي جيد جدًا” معه.
الملف السوري
تصدر الملف السوري طاولة اللقاء بين الرئيسين، حيث أعرب ترامب عن شكره للرئيس التركي على تعاونه ومساهمته مع واشنطن لبناء شرق أوسط أكثر استقرارًا وأمنًا وازدهارًا، لافتًا إلى أن تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار في شمال شرقي سوريا مستمر على قدم وساق.
وفي الإطار ذاته دعا الرئيس الأمريكي الدول الأوروبية للمشاركة في تحمل أعباء اللاجئين السوريين الموجودين بتركيا، وأضاف أن أنقرة أنفقت عليهم 40 مليار دولار، في حين ساهمت أوروبا بـ3 مليارات فقط، مناشدًا إياها لتحمل مسؤولياتها بشكل أكبر وأن تعيد معتقلي تنظيم “داعش” إلى بلادهم.
من جانبه أكد الرئيس التركي أن بلاده تمكنت من إعادة أكثر من 365 ألف سوري إلى أراضيهم بفضل عملية نبع السلام في شمال سوريا، موضحًا أن تركيا بإمكانها إسكان مليون لاجئ بالمنطقة الآمنة بسوريا ما بين 6 أشهر وعامين، مشددًا في الوقت ذاته على أن المنطقة الآمنة في شمال سوريا يجب أن تكون تحت سيطرة تركيا.
مكافحة الإرهاب
شدّد الرئيسان على ضرورة التعاون المشترك في مجال مكافحة الإرهاب، حيث علق ترامب على جهود نظيره التركي في هذا المجال قائلاً: “أردوغان يحارب الإرهاب تمامًا مثلما نحاربه نحن”، لافتًا أن تركيا ساعدت الولايات المتحدة كثيرًا في ملف زعيم تنظيم “داعش” أبو بكر البغدادي.
وأضاف ترامب أنه “ممتن للرئيس أردوغان وشعبه على تعاونهما في مكافحة الإرهاب بشكل دائم”، فيما شدّد الرئيس التركي على ضرورة عودة المقاتلين الأجانب في تنظيم الدولة إلى دولهم، وأضاف “تركيا أكثر من حارب تنظيم الدولة واعتقلنا أكثر من ألف من مقاتلي التنظيم في الفترة الأخيرة”.
“قرار النواب بشأن المزاعم الأرمنية لا علاقة له بالحقائق التاريخية، وهو بحكم العدم بالنسبة لنا، ومخطئ من يعتقد أنه يستطيع الضغط علينا عبر قرار سياسي” الرئيس رجب طيب أردوغان
وعن الملف المثير للجدل بين البلدين والخاص بجماعة “فتح الله غولن” قال الرئيس التركي: “أكدنا خلال لقائنا مع الأمريكيين على طلبنا وتطلعنا حيال ضرورة إنهاء وجود تلك المنظمة في الولايات المتحدة”، وأعاد أردوغان التأكيد على هذه المسألة مضيفًا “منظمة غولن الإرهابية أرادت عبر محاولة انقلاب فاشلة الإطاحة بالنظام الدستوري في تركيا، صيف العام 2016″، وتابع “فهؤلاء الإرهابيون قتلوا في محاولتهم الانقلابية 251 مواطنًا تركيًا، وأصابوا 2193 آخرين، بل ووصلت بهم الجرأة إلى قصف البرلمان”.
وكانت أنقرة قد طلبت من واشنطن تسليم غولن الذي تتهمه بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، فيما يدرس الجانب الأمريكي هذا الأمر وفق ما أعلنته الخارجية هناك، لإنهاء هذه المسألة التي تمثل أحد الأركان الأساسية في توتير العلاقات بين البلدين خلال السنوات الثلاثة الأخيرة على وجه التحديد.
أزمة صواريخ إس 400
فرضت مسألة شراء تركيا لصواريخ إس 400 من روسيا قبل فترة نفسها على جدول أعمال اللقاء، لا سيما بعد رد الفعل الذي وصف بـ”المتهور” من الجانب الأمريكي وهو ما جسدته تصريحات ترامب نفسه والعقوبات التي حاولت واشنطن فرضها على أنقرة، الأمر الذي رفضه الجانب التركي بشدة.
وتعليقًا على هذا الملف، قال ترامب: “المسألة تولّد تحديات خطيرة جدًا بالنسبة لنا، وآمل في أن نتمكن من حل هذه المشكلة” مضيفًا أنه والرئيس أردوغان طلبا من كبار مسؤولي البلدين “العمل فورًا على حل تلك المسألة”.
وقد تصاعدت حدة التوتر بين البلدين بعد تزايد ضغط واشنطن على أنقرة بسبب شرائها منظومة الدفاع الصاروخية، حيث شدد باتريك شاناهان، القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي في رسالة لنظيره التركي، خلوصي أكار، على الوقف الفوري لأي تدريب جديد لطيارين أتراك على مقاتلات إف-35.
فيما أمهلت أمريكا تركيا حتى نهاية شهر يوليو/تموز الماضي، للتخلي عن الصفقة التي ترى أن شراءها يشكل تهديدًا لمقاتلات إف-35 الأمريكية التي تعتزم تركيا شراءها أيضًا، وتقول إن أنقرة لا يمكنها الحصول على المنظومتين معًا، فيما حذرت وكيلة وزارة الدفاع الأمريكية، ألين لورد: “إذا لم تلغ تركيا بحلول 31 من يوليو/تموز شراء نظام إس-400، سيتوقف تدريب الطيارين الأتراك في الولايات المتحدة على طائرات إف-35 (الشبح)، وستلغى الاتفاقات مع الشركات التركية المتعاقد معها لتصنيع أجزاء الطائرة الحربية إف-35”.
مذابح الأرمن
وفي تصريحات أدلى بها الرئيس التركي، خلال مشاركته في “برنامج اللغة والتاريخ والثقافة لعام 2019” الذي نظمه مركز الديانة الأمريكي بولاية ميريلاند، التابع لرئاسة الشؤون الدينية التركية، على هامش الزيارة، اعتبر أن اعتراف مجلس النواب الأمريكي بما يسمى مذابح الأرمن “يضر بعلاقاتنا مع واشنطن”.
وأوضح أردوغان لنظيره الأمريكي أن التمادي في هذا التوجه من شأنه أن يصعد حدة التوتر بين البلدين في الوقت الذي تحتاج فيه العلاقات إلى مزيد من الهدوء والاستقرار لمواجهة التحديات المشتركة، مضيفًا “قرار النواب بشأن المزاعم الأرمنية لا علاقة له بالحقائق التاريخية، وهو بحكم العدم بالنسبة لنا، ومخطئ من يعتقد أنه يستطيع الضغط علينا عبر قرار سياسي”.
وفي كلمته التي ألقاها أمام أبناء الجالية التركية وأمريكيين من أصول تركية وممثلي الجماعات الإسلامية بالولايات المتحدة، قال أردوغان: “أثق بأن مجلس الشيوخ الأمريكي لن يقع بنفس خطأ مجلس النواب الخاص بقراره المتعلق بمزاعم الإبادة الأرمنية”، في إشارة إلى الاعتراف بتلك المزاعم التي تسيء لتركيا وتاريخها.
يرى البعض أن زيارة أردوغان للولايات المتحدة ساهمت بشكل كبير في إذابة جليد العلاقات المتوترة بين البلدين منذ فترة
التعاون الاقتصادي
رغم دسامة جدول الأعمال بالملفات السياسية الساخنة، فإن الملف الاقتصادي كان حاضرًا بقوة، حيث أعرب الطرفان عن أملهما في تعزيز حجم التعاون المشترك بينهما خلال الفترة القادمة، في إشارة إلى محاولة توسيع حجم التجارة الثنائية بين البلدين لتصل 100 مليار دولار.
وفي هذا الشأن قال ترامب: “حققنا تقدمًا هائلًا في هذا الأمر، نشجع تركيا على فتح أسواقها بشكل أكبر، وهم يقومون بذلك بالفعل”، مضيفًا “هدفنا توسيع التجارة بين الولايات المتحدة وتركيا، وخفض العجز التجاري بينهما”، فيما قال البيت الأبيض في بيان مطول عقب الاجتماع: “تركيا لديها إمكانات هائلة كشريك تجاري للولايات المتحدة”.
البيان لفت إلى أن حجم الاستثمار الأمريكي في تركيا، العام الماضي، بلغ 4.7 مليار دولار، وهذا يمثل زيادة 9% عن السنة التي سبقتها، في حين وصل حجم الاستثمار التركي في الولايات المتحدة 2.4 مليار دولار في 2018، آملاً مضاعفة هذه الأرقام خلال السنوات القادمة.
وكان رئيس المجلس التنفيذي للمجلس التركي الأمريكي، جيمس جونز، قد قال في تصريحات سابقة له مطلع هذا العام أن حجم التجارة بين تركيا والولايات المتحدة سيصل إلى 75 مليار دولار مع توقيع اتفاقية التجارة الحرة وإلغاء االقواعد التنظيمية والتعريفات الجمركية.
وأضاف جونز خلال مقابلة مع صحيفة حرييت التركية: “أعتقد أنه يمكننا القيام بالكثير، سواء وصلنا بالتبادل التجاري إلى 75 مليار دولار أم لا، ولكن هناك بعض الأشياء التي يمكننا القيام بها لتعزيز التبادل التجاري، مثل التعريفات والسياسات التجارية واللوائح التي لم تعد مفيدة”.
وفي المجمل يرى البعض أن زيارة أردوغان للولايات المتحدة ساهمت بشكل كبير في إذابة جليد العلاقات المتوترة بين البلدين منذ فترة، وتعد تتويجًا للتفاهمات الأخيرة لا سيما بشأن عملية “نبع السلام”، إلا أنه من السابق لأوانه الحكم عليها الآن، خاصة في ظل ما يتمتع به ترامب من عقلية السمسار التي تجعله صاحب مزاج متقلب بين الحين والآخر، وتبقى الأيام القادمة هي المحك الحقيقي لتقييم مدى نجاح الزيارة.