رغم وجود فكرة العرض المرئي والتمثيل والغناء عند العرب منذ الدولة العباسية حين كان معروفًا في قصور السلاطين على أنه شكل من أشكال الترفيه الذي يحظى به سكان القصر، فإن إنتاج المسرح العربي بقي لوقت طويل قائمًا وبشكل أساسي على تقليد وترجمة المسرحيات الأجنبية كالفرنسية والروسية وتقديمها إلى الجمهور العربي حتى الفترة ما بين 1884-1909، حينها فقط بدأت ملامح المسرح العربي بالتشكل والظهور بشكل أوضح وصولًا إلى السنوات التي تسبق بدء الربيع العربي.
حينذاك، بدأت تدب الروح في المسرح العربي من جديد عبر محاولات إنعاش عديدة على يد محترفين أو هواة أحيانًا وبأشكال بدائية نظرًا لغياب الكثير من مقومات بناء المسرح، وهو ما أعاد طرح عدة أسئلة عن أهمية المسرح وتأثيره على صنع التغيير في الوطن العربي بالإضافة إلى اكتشاف مواهب كثيرة يحمل بعضها أفكارًا من شأنها تغيير نظرة الجميع تجاه المسرح.
المسرح العربي الآن
يعيش المسرح العربي الآن داخل أسوار الوطن العربي تحديدًا حالة ركود حادة، فبالإضافة إلى أن هناك تغيرًا كبيرًا في توجهات الشباب العربي نحو التليفزيون والتمثيل وملاحقة أضواء الشهرة وتعقّب كل ما هو متطور وحديث وسريع في نفس الوقت، لا سيما مع ما تتيحه منصات شبكات التواصل الاجتماعي واليوتيوب من امتلاك من يريد لـ “خشبته” الافتراضية، على أن مشكلة الاستبداد ما تزال عقد وعقبة تعترض كل صوت ونفس وأمل وأفق، تقمع الحريات وتبتر الإبداع وتسيطر على الأصوات وتخنقها، والمسرح ليس استثناءً، بداية من فرض الحصول على أذون وتأشيرات لعرض مسرحي وليس انتهاءً بإجراء تعديلات على النص يرضى السلطة، وهو مثال موجود في الكثير من البلدان العربية كسوريا ومصر والعراق وغيرها، ما جعله خارجًا عن شكله الحقيقي ودون أن يحمل أيًّا من الرسائل التي كان من المفترض له أن يكون حاضنها الأول. فنرى نصوص المسرح العربي اليوم هشة، تعتمد على العروض الراقصة والألوان البراقة، ضمن فقد واضح لمغزى القصة وعدم اعتماده على رواية قوية أو رسالة ذات قيمة.
دمرت الحروب الأخيرة في الوطن العربي أغلب المراكز الثقافية ودور الأوبرا والمسرح
فلم تعد المسرحيات تمتد لساعتين أو ثلاث، فلا النص يكفي ولا الجمهور يطيق الجلوس لساعات عديدة لمشاهدة مسرحية كما كان من قبل، كما كثر الأداء الضعيف واللغة الركيكة، فيما تُعطى الفرص لأبناء المحسوبية والوساطات وإهمال أصحاب الموهبة الحقيقية.
وعلى صعيد آخر، دمرت الحروب الأخيرة في الوطن العربي أغلب المراكز الثقافية ودور الأوبرا والمسرح إلى جانب التفات الناس إلى تحصيل قوت يومهم والبحث عن الأمن والأمان.
المسرح كمنصة حرة
لا يعدّ إصرار وزارات التربية والتعليم في بلدان الوطن العربي على عدم إدخال مادة المسرح كدرس ثابت ضمن المنهج التعليمي إصرارًا عابثًا إطلاقًا رغم ضغط مثقفين كبار باتجاه تحويله إلى مادة أساسية تعبيرية، فهناك سبب يكمن داخل فكرة المسرح نفسه هي ما لا تريده السلطات القمعية، ألا وهي النقد وصقل الآراء وهو ما يقوم عليه المسرح بشكل أساسي، فهو منصة تعبيرية ومكان يشرح فيه الناس بشكل فنيّ مشاكلهم وآرائهم تجاه السلطة والدين والسياسة.
كان لنشوء المسرح النقدي السياسي أثر كبير في حالة المسرح العربي، فتمثلت ماهيته في قدرته على طرح القضايا المصيرية ومعالجتها
وقد أُدخل المسرح على مرّ السنين الماضية في مقارنات كثيرة مع التليفزيون لطرح الفروق بينهما وقدرة الأخير على تطوير نفسه ومواكبة التطور السريع في ظل إغفال واضح لدور المسرح المختلف كونه منصة واعية تخاطب الجمهور بشكل مباشر بفضل قدرته على إشعار المشاهد بأنه جزء من القصة، وهذا ما لا يفعله التلفاز حين يبقي المشاهد كمتلقٍ فقط، ومن هذه الناحية بالضبط تكون فرصة المشاهد للتفاعل والتأثر أكبر بكثير مما هي عليه في التلفاز وهو ما يتحول إلى دافع للتغيير مهما كانت قيمته.
كما كان لنشوء المسرح النقدي السياسي أثر كبير في حالة المسرح العربي، فتمثلت ماهيته في قدرته على طرح القضايا المصيرية ومعالجتها، وتأكيد طبيعة المرحلة التي تخوضها البلدان العربية، وأتحدث هنا عن انتشاره بشكل جليّ بعد هزيمة حزيران التي لعب فيها المسرح العربي دورًا نضاليًا أعاد للناس مساحتهم للتحدث بحرية وبلهجتهم الخاصة، حتى استطاع تأدية دوره على أكمل وجه، حتى اتسم هذا المسرح بشكل خاص بالقضايا اليومية التي تشغل الناس والأحداث السياسية الساخنة، فأصبح حاجة ضرورية تثبت نفسها في محاكاة الواقع.
المسرح العربي في المهجر
“ليس المسرح فعلاً ثوريًا فقط، وليس كما يوصف عادًة بأنه أبو الفنون. بل المسرح مكان ليس من المقبول أبدًا أن نقوم بداخله بأيّ خطأ كان لأنه المنبر الذي يطالب الناس من خلاله بأن يكون كل شيئًا صحيح”، بهذه الكلمات ينهي المخرج حسام الغمري عرض مسرحية الحرافيش التي عرضت لأول مرة على مسرح بمدينة إسطنبول من أداء فرقة المسحراتية، تناولت خلالها معالجة مسرحية لرواية الأدب المصري العالمي نجيب محفوظ “الحرافيش”، وحضرها ما يقارب ألفين مهجر ومغترب عربي مقيم في المدينة.
فيما تأتي هذه المسرحية أوضح مثال واقعي على ما يشهده المسرح العربي الموجود في المهجر على وجه الخصوص الذي يأخذ أغلبه مهمة الحديث عن مشاكل وهموم الربيع العربي كواحد من الأشكال الإبداعية أو كنوع من الفنون التي توصل صوت الشعوب العربية، فقد كانت مسرحية “الحرافيش” التي شارك في بطولتها فنانون مصريون أمثال هشام عبد الله ومحمد شومان ومحمود السعداوي تحاكي الواقع السياسي الذي تعيشه المنطقة العربية بشكل عام ومصر بشكل خاص من خلال تضمن السيناريو على معانٍ ذات دلالة على الواقع.
مسرحية الحرافيش
وفي حديث لـ “نون بوست” مع الممثل محمود السعداوي الذي لعب دور واحد من رجال الفتوة في المسرحية أشار خلال حديثه إلى أن المسحراتية هي أول فرقة مسرحية عربية تقدم عروضًا في إسطنبول، وتأمل أن يكون عملها الأول “الحرافيش” باكورة انطلاقة لمسرح عربي في تركيا، فيقول: “الفن الحقيقي أصبح نادرًا في ظل قبضة الأنظمة الأمنية التي طالت معظم أنواع الفنون في البلاد العربية المختلفة وجعلتها لا تعكس إلا وجهة نظر الأنظمة التي لا تعبر عن الشعوب وأحلامها وآلامها بصورة حقيقية، بينما كان اختيار قصة الحرافيش موفقًا للغاية كونها تشتبك بشدة مع الواقع السياسي الحاليّ”.
الممثلين محمود السعداوي وهشام عبد الله
بينما تعود بنا الذاكرة قليلًا إلى سنوات الثورة السورية التي كان الأخوان ملص أولى نتاجها الفني بعد تشكيلهما “مسرح الغرفة” وهو اسم لمسرح صغير يتكون من غرفة واحدة كانت حاضنتهم الأولى قبل أن يصبحا من أبرز الممثلين المسرحيين السوريين الذين ينقلون صوت الثورة السورية من على خشبات مسارح أوروبا.
ملص اللذان كانا أيضًا ضحية من ضحايا المحسوبية والواسطات تحت حكم نظام الأسد حين قررا التقدم إلى المعهد العالي للفنون المسرحية ليتم رفض طلبهما لـ3 سنوات متتالية انضما بعدها للدراسة على حسابهما في معهد خاص لفنون المسرح تدربا فيه على يد أفضل الأساتذة المسرحيين في سوريا – على حد وصفهم -، أما اليوم فباتت خشبات مسارح فرنسا مكانًا يحملون عليه موهبتهم وروح التغيير حتى استطاعا إبهار الجمهور لعشرات المرات.
التوأم محمد وأحمد ملص في أثناء أدائهما أحد عروضهما
وفي حديث لملص مع نون بوست بشأن إيمانهما بقدرات فن المسرح على صنع التغيير كمنصة نقدية يقول محمد: “رغبتنا في بناء هذا المسرح كانت نابعة من حاجة أي فنان في العالم لمنصة يعبر بها عن مواقفه تجاه العديد من المواضيع من بينها السياسة والدين والحالة الاجتماعية، وفي الوقت الذي كنا – في الداخل السوري – بحاجة إلى منصة تعبيرية كهذه كان إنشاء مسرح “الغرفة” فكرة مثالية لشرح الحالة الإنسانية والاجتماعية للشعب السوري”.
ثم يضيف أحمد قائلًا: “في حالتنا السورية كان كل ما نحتاجه هو نقاش بأي موضوع كان لإعادة تشكيل مفهومنا الفردي والجمعي عن الديمقراطية والوطن والدين، وبرأيي ليس باستطاعة أي فن آخر أن يؤدي هذه الوظيفة كما يمكن للمسرح أن يفعل، فهو يعطي مساحةً نقديةً من خلال مناقشة معاني المحتوى المعروض وحقيقة وجوده على أرض الواقع سواء كانت قضايا تناقش السياسة أم المجتمع”.
لا شك أن المحاولات الكثيرة لفناني المهجر العرب نحو النهوض بالمسرح وإعادة الاعتبار لهذا الفن الراقي ستؤتي أكلها يومًا، وتعود الخشبة التي أخرجت أعمالًا خالدة ما تزال مشاهدها وكلماتها محفوظة في ذاكرة أجيال السبعينات والثمانينات، إلى سابق عهدها روح شابة جديدة حرة، أو هكذا نأمل.