ست سنوات مرت على العفو الأول، لنرى بعدها عفوًا ثانيًا عن مهربي الأموال إلى الخارج، عفو ترتئي من خلاله الحكومة المغربية تعبئة خزينة الدولة وإنقاذ جزء من اقتصاد بلادها وضخ العملة الأجنبية إليه ولو على حساب القضاء والعدالة، ما أثار جدلًا كبيرًا في المملكة التي يدعي حكامها محاربة الفساد.
تفاصيل العفو
فكرة العفو عن مهربي الأموال إلى الخارج، جاءت ضمن مشروع موازنة الدولة للسنة المقبلة، الموضوعة أمام أنظار البرلمان حاليًّا لمناقشتها قبل المصادقة عليها والعمل بها، وتتضمن العديد من الإجراءات التي تهدف إلى جمع المال بطرق مختلفة. وينص هذا الفصل في موازنة الدولة لسنة 2020 على “العفو عن أصحاب الأموال الخارجة من البلاد بطريقة غير شرعية، وإعفائهم من الغرامات، حال إعادة أموالهم إلى البلاد، خلال مهلة زمنية تمتد لشهور”.
وتقول السلطات المغربية إن الأمر يتعلق بـ”الأموال والعقارات الموجودة خارج المملكة، ويمتلكها مواطنون مقيمون في المغرب، واكتسبوها بطرق مشروعة، لكنهم خالفوا قوانين الصرف بالبلد، ولم يصرحوا بعمليات نقل أموالهم إلى خارج البلاد”.
كثيرًا ما يلجأ رجال أعمال مغاربة وسياسيون إلى بعض البلدان التي لا تربطها علاقة تبادل معلومات مع المغرب، لضمان سرية الحسابات وتفادي مراقبة المديرية العامة للضرائب
ينص الفصل على إعفاء المستفيد من دفع الرسوم على دخول الأموال بنسبة 5%، في حال أودع 75% من أمواله في حساب بالعملة الصعبة (نقد أجنبي)، و25% بالدرهم المغربي، ويستفيد من يختار تحويلها إلى الدرهم من إعفاء من الرسوم بنسبة أكبر.
أما بالنسبة إلى الممتلكات المنشأة بالخارج قبل 30 من سبتمبر/أيلول 2019، يمكن لأصحابها إيداع إقرار بالتسوية التلقائية ما بين أول يناير/كانون الثاني و31 من أكتوبر/تشرين الأول 2020 مقابل أداء 10% من قيمة اقتناء الممتلكات العقارية وقيمة اكتتاب أو اقتناء الأصول المالية والقيم المنقولة وغيرها من سندات رأس المال أو الديون الموجودة بالخارج.
الإفلات من العقاب
عملية العفو هذه، ستمكّن من تبرئة ذمة الأشخاص المعنيين وإعفائهم من دفع الغرامات المتعلقة بمخالفات قانون الصرف وأداء الضريبة على الدخل أو الضريبة على الشركات والغرامات والجزاءات والرسوم الإضافية المفروضة على المخالفات المنصوص عليها في المدونة العامة للضرائب، كما سيستفيد الأشخاص المعنيون من وقف أي إجراءات إدارية أو قضائية، سواء في مجال قوانين مراقبة الصرف أم القوانين الضريبية.
للاستفادة من مقتضيات هذا العفو، يجب على الأشخاص المعنيين إيداع إقرار مكتوب لدى أحد البنوك، حسب النموذج الذي تعده الإدارة، يبين طبيعة الموجودات في الخارج، إضافة إلى ضرورة جلب الأموال على شكل سيولة نقدية بالعملة والدخول الحاصلة، الناجمة عن هذه السيولة، وبيع نسبة لا تقل عن 25% منها وُجوبًا في سوق الصرف، مع إمكانية إيداع الباقي بالعملة في حسابات بنكية مغربية.
يساهم الإفلات من العقاب في انتشار الفساد
تنص قوانين الصرف في المغرب، في حالة إحالة ملف صاحب الأموال المهربة إلى القضاء، على معاقبة مهربي الأموال خارج البلاد بمبلغ يصل إلى ستة أضعاف المبلغ الذي هُرب، بالإضافة إلى عقوبة بالحبس ما بين شهر وخمس سنوات، وكثيرًا ما يلجأ رجال أعمال مغاربة وسياسيون إلى بعض البلدان التي لا تربطها علاقة تبادل معلومات مع المغرب، ولم تصادق بعد على اتفاقية التبادل الدولي التلقائي للمعلومات ذات الطابع الجبائي والمالي، لضمان سرية الحسابات وتفادي مراقبة المديرية العامة للضرائب ومكتب الصرف اللذين تربطهما اتفاقيات مع عدد من البلدان.
إنعاش خزينة الدولة
عملية العفو التي يتجه المغرب لإقرارها، ستمكن الدولة من موارد مالية مهمة على شكل ضرائب وواجبات صرف، إضافة إلى إنعاش السيولة البنكية، إذ سيكون على الذين لديهم أرصدة بنكية بالخارج توطينها ببنوك مغربية.
هذا الأمر سيمكن من إنعاش خزينة الدولة والمساهمة في تراجع العجز الذي بلغ 21.8 مليار درهم (2.3 مليار دولار) بنهاية يونيو/حزيران الماضي، مرتفعًا بنسبة 6.7% مقارنة مع العام الماضي، بسبب انخفاض الموارد العادية للخزينة 9.7%، وارتفاع النفقات 10.9%.
تواصل انتشار هذه الآفة التي تنخر المجتمع المغربي منذ سنين، ناتج عن انتشار ثقافة الإفلات من العقاب في المملكة
تسعى الحكومة المغربية إلى تقليص عجز الميزانية من 4.8% للعام الحاليّ، إلى 3.5% من الناتج الداخلي الخام في السنة المقبلة، وفق مشروع قانون المالية للسنة المقبلة، الذي أعلنه وزير المالية والاقتصاد وإصلاح الإدارة محمد بنشعبون.
وكان المغرب، قد أقر سنة 2014 قانونًا للعفو عن مهربي الأموال إلى الخارج، ومكنت تلك العملية من استعادة نحو 27.8 مليار درهم (3 مليارات دولار) خلال العام ذاته، وانقسمت هذه الأموال، بحسب الحكومة، بين سيولة نقدية تبلغ 8.5 مليار درهم (923 مليون دولار)، وممتلكات عقارية بـ9.5 مليار درهم (1.03 مليار دولار)، واستثمارات مالية (أسهم وسندات) نحو 9.8 مليار درهم (1.06 مليار دولار).
انتشار الفساد
هذا الإجراء من شأنه وفق العديد من المغاربة المساهمة في انتشار الفساد بالمملكة، ذلك أنه يتجاوز القضاء والعدالة، ويقر عفوًا عن مهربين ساهموا في تدهور اقتصاد البلاد، وتأزيم الوضع في الدولة.
وأسهم الفساد في المغرب في تكوين مجموعات مالية مرتبطة بالسلطة السياسية استحوذت على خيرات البلاد، وكانت تقارير سابقة قد أكدت أن “فئة اجتماعية قليلة مقربة من دوائر القرار السياسي في المغرب هي الوحيدة التي استفادت من الثروة التي أنتجها المملكة في العشرية الأولى للقرن الـ21، فيما لم يتم توزيع هذا الكم من الإنتاج بشكل عادل بين كل فئات المجتمع”.
وتتمثل مظاهر الفساد مثلاً في التهرب الجبائي، ويؤدي التهرب الضريبي للمقربين من السلطة وإعفاء كبار رجال الأعمال والفلاحين من دفع الضرائب مقابل فرضها على الفقراء في اتساع رقعة الفوارق الاجتماعية في المملكة.
حل المغرب في المرتبة الـ73 من أصل 180 دولة في التصنيف الدولي لمؤشر مدركات الفساد لعام 2018 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، وترتكز منظمة الشفافية الدولية في تصنيفها للدول على بيانات مرتبطة بسلوكيات الفساد كالرشوة واختلاس المال العام واستغلال السلطة لمصالح شخصية والمحسوبية في الخدمة المدنية.
يطالب المغاربة بضرورة محاربة الفساد
تواصل انتشار هذه الآفة التي تنخر المجتمع المغربي منذ سنين، ناتج عن انتشار ثقافة الإفلات من العقاب في المملكة، حيث قليلاً ما يطبق القانون على الفاسدين في المغرب، ويقتصر فقط على أبناء الشعب المطالبين بالعيش الكريم.
رغم الحديث المتكرّر للعاهل المغربي عن ضرورة مكافحة الفساد في البلاد والتصدي لهذه الظاهرة التي تكلف الدولة كلفة اقتصادية كبيرة لا يمكن لأي مجتمع تحملها، فإن الواقع يكشف زيف هذا الكلام، فالإفلات من العقاب متواصل وتقنين الفساد مستمر.
وينص القانون المغربي على عقوبات جنائية ضد مرتكبي الفساد، لكن السلطات غالبًا لا تنفذ القانون بشكل فعال، وعادة يرتكب مسؤولون ممارسات فاسدة دون عقاب يذكر، لتمكنهم من الدولة والخشية من محاسبتهم، هذا الأمر، جعل العديد من المغاربة يذهبون إلى حد اتهام السلطات الحاكمة بالتطبيع مع الفساد والفاسدين، وتخليهم عن شعارات محاربة الفساد التي ما فتؤوا يهتفون بها عند كل لقاء جماهيري أو ظهور في المؤسسات الإعلامية.