قليلة هي الروايات المتنوعة والصور المؤثرة عن سحر الكرة المستديرة وانعكاساتها الاجتماعية والسياسية على المجتمعات، رغم أن اللبنة الأولى أُسست أعمدتها زمن الاستعمار حيث تنافست مجموعة من الدول الأجنبية للسيطرة على العالم العربي، وأدى إلى وقوع معظم أجزاء الأخير فريسة للاحتلال في القرن التاسع عشر، وكانت الجزائر أول دولة في المغرب العربي تقع تحت وطأة التدخل العسكري الفرنسي عام 1830.
وكغيرها من فنون المقاومة كالأدب والشعر والصحافة، نجحت كرة القدم بفضل سرعة انتشارها في بلورة حالة من التلاحم والانتماء والهوية الوطنية، وأصبح للرياضة القدرة على تغيير القناعات لدى الجماهير وبعث الأمل فيهم من أجل استعادة أوطانهم المحتلة، وكانت المباريات التي تُدار في كامل التراب الجزائري تُمثل غطاءً يُساعد المقاومين على تبادل الرسائل والمعلومات فيما بينهم قصد توحيد تحركاتهم ضد المستعمر الفرنسي.
نادي العاصمة
عام 1921 دخلت مجموعة من الشباب الجزائري بالحي الشعبي “القصبة” في اتصالات مع نظرائهم من باب الواد (حي شعبي بالعاصمة) بغرض تأسيس نادٍ جزائري لكرة القدم وتقدمت الاتصالات بشكل كبير بفضل “حمود عوف” الذي كان ينسق بين الحيين الشعبيين.
وجرى الاجتماع الذي شهد إعلان ميلاد النادي العاصمي خلف مقهى “بنا شار”، وبما أن يوم 7 من أغسطس/آب 1921 وافق المولد النبوي الشريف سُمي النادي بـ”مولودية الجزائر” رغم الاقتراحات العديدة كـ(البرق الرياضي الجزائري والهلال الجزائري والنجم الرياضي والشبيبة الرياضية)، واُختير له من الألوان الأخضر والأحمر.
يقول السياسي الجزائري من جامعة “باريس نانتير” يوسف فاتيس، إنّ اختيار المولودية للونين الأخضر والأحمر يدفع بالقول إلى أن النادي لم يكن ينوي الاكتفاء بتشكيل نادٍ بسيط لكرة القدم في المستقبل، حتى لو أن الدوافع التي كانت وراء ذلك في تلك المرحلة انحصرت في الجانب الرياضي وحسب.
وقال الكاتب الصحفي مصعب الجزائري في تصريح لـ”نون بوست” إن المولودية لم يكن مجرد فريق صغير لكرة القدم بل كان النادي المسلم الوحيد على الصعيد القاري، وساهم بشكل فعّال في تنامي الحركة الشعبية الرياضية التي شغلت بال نظام الاستعمار الفرنسي وأقضت مضجعه، مضيفًا “النادي لم يوفق في أول المواسم في الصعود إلى القسم الأعلى جراء الحصار الذي ضربته عليه الصحافة الفرنسية التي كانت تحجب النتائج ومستجدات النادي العاصمي خوفًا من ازدياد شعبيته، إضافة إلى القانون (BORDES) الذي يفرض على النوادي ضم لاعبين أجانب تفاديًا لإنشاء فرق أخرى”.
وأكد الصحافي الجزائري أن النوادي المسلمة في الجزائر تعرضت لضغوط من السلطات الفرنسية تأرجحت بين المنع تارة والترخيص بممارسة هذه الرياضة طورًا، وقد أصدر في هذا الصدد الحاكم العام للجزائر آنذاك تعليمات تمنع النوادي ذات التوجه الإثني الواحد، والمقصود بها، السكان الأصليون من النشاط.
بعد 14 سنة من ميلاده، صعد النادي إلى القسم الشرفي بعد هيمنته على موسم 1935-1936، حيث أطلقت عليه الصحافة الفرنسية اسم “المطارد التقليدي”، فقد كان يلعب دائمًا من أجل الصعود إلى القسم الأول ولقب أيضًا بالوصيف الدائم.
ومكّن الترتيب والمردود الجيد لمولودية الجزائر في هذا القسم من لعب منافسات كأس شمال إفريقيا غير أنه لم يتجاوز ثمن النهائي، فيما خاض بعض المباريات الودية ضد لوكموتيف موسكو، سريع فيينا ونادي نيس الفرنسي.
في أول موسم له في القسم الأول 1936/1937 أنهى المولودية البطولة في المرتبة الرابعة متفوقًا على فرق عريقة وكبيرة تفوقه إمكانات، ليحتل نفس المرتبة في الموسم الموالي، ويحقق التأهل لكأس شمال إفريقيا أين أُقصي في الدور الثاني على يد الفريق الجار العدو (AS St Eugène) بعد قهره (Gallia Sport d’Orléansville) في الدور السابق بنتيجة (3-0).
خلال موسم 1939-1940 (القسم الشرفي 3 مجموعات) سيطر نادي المولودية على مجموعته، ثم ألحق الهزيمة بالمجموعتين الأولى والثانية ليجد نفسه بطلاً “لموسم الحرب”، ما جعل مناصريه يخرجون إلى شوارع العاصمة، وأنهى النادي أيضًا موسم 1943-1944 في المركز الأول وتوج بطلًا لرابطة الجزائر أمام الجمعية الرياضية لسانت أوجان (باب الواد)، وهو التتويج الأخير قبيل الاستقلال، حيث سبقه تجميد نشاطات النادي العاصمي والامتناع عن المشاركة في مختلف المنافسات الرياضية مستجيبًا إلى نداء جبهة التحرير الوطني سنة 1956.
أحداث 56
يوم 11 من مارس 1956 خاض العميد على ملعب سانت أوجان (بولوغين حاليًّا) مباراة مهمة ضد الجار الغريم جمعية سانت أوجان (فريق فرنسي) وسط حضور جماهيري غفير من الجانبين، غير أنّ الجزائريين وجدوا صعوبات بالغة وتعرضوا للإهانات وللتفتيش الصارم والمهين من الشرطة وقوات الـCRS الفرنسية.
وبعد أنّ حقّق الفريق المضيف AS St Eugène الأسبقية، تمكن العميد من تعديل النتيجة في آخر لحظات اللقاء، وتفجرت المدارج فرحًا لانتصار المولودية، الأمر الذي لم يتحمله الفرنسيون فبادروا بالاعتداء على الجماهير وزاد تدخل الشرطة الوضع تعقيدًا لتنتقل المعركة إلى خارج الملعب، حيث سُجلت الكثير من الإصابات وحُطمت أكثر من 20 سيارة، وأُلقي القبض على عدد من أنصار المولودية وزج بهم في السجن أين لقي العديد منهم حتفهم بسبب التعذيب، فيما استشهد 3 لاعبين في أثناء الثورة وهم: محمد فرحاني من قادة الجبهة في الناحية الأولى وحمادي لكحل صاحب هدف التعادل وقدور بورڨيڨة عضو الجبهة الوطنية.
وعادة ما يأخذ انتصار فريق مسلم على فريق أوروبي في الملعب، دلالة أخرى مختلفة عن تلك الرياضية، وبالتالي طرح الاستعمار مسألة مراقبة النوادي والجمعيات عن طريق الجهاز الإداري والبوليسي.
بعد هذه الأحداث بيومين، قرر مسيرو المولودية الانسحاب من المنافسة لتلتحق به باقي الأندية المسلمة وفي مقدمتهم نادي اتحاد البليدة (ينشط مع العميد في القسم الأول) واتحاد الجزائر ونصر حسين داي ورائد القبة واتحاد الحراش وأولمبيك سانت أوجان وداد بلكور.
رغم أن مناصري المولودية يرون أن فريقهم الذي تأسس سنة 1921 أي قبل 5 سنوات من نشأة النادي الرياضي القسنطيني سنة 1926 هو العميد، فإن أبناء الجسور المعلقة يؤكدون أن فريقهم شيخ الأندية، ولئن ولد عام 1926، فإنه يمثل الامتداد التاريخي لجمعية “إقبال” 1898 والنجم الرياضي المسلم القسنطيني “1917”.
قسنطينة
عرف النادي بتسميته الأولى “جمعية إقبال الرياضي” التي تأسست في يونيو/حزيران 1898 بضاحية “سركينة”، ومن مؤسسيها الشيخ لفقون حاج خوجة (رئيس شرفي) وبلبيض محمد العربي (رئيس فاعل) وموسى بن معطي وبوهريد حاج إدريس وبن جلول محمد الصالح وبن زايد سي أحمد وصاولي دراجي وبن حمادي عيسى وبن أمغار جزار عمار.
استمرت جمعية “إقبال” في أداء لقاءاتها الكروية في إطار ودي حتى سنة 1914، وتاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى حين أمرت السلطات الفرنسية بالتجنيد الإجباري لكل أعضاء ومؤسسي الجمعية وأرسلتهم إلى جبهات القتال، حيث لقي العشرات منهم حتفهم فتوقفت مسيرة النادي تمامًا طيلة سنوات الحرب العالمية.
وعادت الجمعية لتمارس نشاطها الرياضي تحت اسم النجم الإسلامي ابتداءً من 1916، وبعد مسيرة قصيرة تكللت بفوز النادي بكأس شمال إفريقيا بعد فوزه بنتيجة (4-2) أمام فريق فرنسي يمثل العاصمة التونسية، تفطنت السلطات الاستعمارية لأهداف النادي وحلته نهائيًا في 1918، خوفًا من زيادة نشاطه السياسي.
بعد إنشاء “حزب نجمة شمال إفريقيا ” برئاسة مصالي الحاج وبداية تشكل الوعي السياسي والوطني المنادي بالتخلص من الاستعمار، أُعلن في 26 من يونيو 1926 ميلاد النادي القسنطيني “Csc”، من المؤسسين: موفق عبد الرحمن والحكيم زرقين ومحمد السعيد لفقون وبن شريف حسين وبوحيرد حاج إدريس وبلحيمر الصغير وبن باديس الزبير، وأسندت الرئاسة إلى الفقون محمد، وتم الاحتفاظ باللونين الأسود والأخضر.
عانى الفريق كغيره من الأندية الأهلية المسلمة من تدخل المستعمر وغطرسته عبر حملات تفتيش يومية لوثائق لاعبي النادي بطريقة استفزازية في ملعب “فانسن”، إضافة لمضايقات البوليس للمسيرين والمحبين مما تسبب في هزائم متكررة للفريق.
بعد اندلاع حرب التحرير الوطنية أصبح النادي مجبرًا وملزمًا بوقف جميع الأنشطة الرياضية، إضافة إلى تلقيه تهديدات من جميع الأطراف الاستعمارية وبالخصوص الرابطة الجهوية الفرنسية لكرة القدم، ما أجبر كل من المسيرين واللاعبين وحتى الأنصار على الالتحاق بالجبال وخدمة القضية الوطنية.
يرى مؤرخون أن نادي قسنطينة ليس مجرد فريق كرة القدم، بل هو امتداد لفكر مجتمعي وسياسي تبنى مقاربة الحفاظ على الهوية الوطنية، حيث قدّم المحيطون به تضحيات جسام تجسدت في ملحمة “49 شهيدًا” ومنهم قدور بومدوس وبلقاسم برشاش وعمر بوغابة ومسعود بوجريو وأحمد بتشين، إضافة إلى أعضاء مجموعة الـ22 التاريخية ومنها سعيد بوعلي وسليمان ملاح، وشخصيات تاريخية في فرع كرة القدم يتقدمهم بودربالة دحمان ومنصور محمد ومشري سليمان وبوفنارة فلي وحاج مخناش الصادق “كركري سليمان” وماضوي بوجمعة.
وعقب انقشاع ويلات الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها اقتصاديًا وسياسيًا، بدأت الشعوب المستعمرة وخاصة تلك الواقعة في شمال إفريقيا في إنشاء حركات وأحزاب تطالب بالاستقلال بكل السبل (ثقافيًا ونقابيًا ورياضيًا سياسيًا وبالكفاح المسلح)، والجزائر شأنها شأن الدول المحتلة برزت فيها نداءات الاستقلال من خلال جبهة التحرير حيث سطر نجوم المنتخب الوطني ملاحم خلدها التاريخ.