تواصل السلطات الجزائرية الحاكمة، مساعيها الحثيثة للسيطرة على حراك الـ22 من فبراير/شباط، وتعبيد الطريق أمام مرشحها المحتمل في الانتخابات الرئاسية المقبلة، المرفوضة شعبيًا لعدة اعتبارات.
مساعٍ اتخذت أشكالًا عدة، من التضييق على المحتجين إلى ترهيبهم وتفعيل السطوة الأمنية وصولًا إلى التضييق على الصحفيين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة إنارة الرأي العام الوطني والدولي إزاء ما يحدث في البلاد.
الحراك ممنوع في الإعلام
المتأمل لواقع الإعلام العام والخاص في الجزائر، في الفترة الأخيرة، يرى أن التضييق على وسائل الإعلام في البلاد عاد بقوة، حيث أصبح مقص الرقابة يعمل بصورة أكبر مما كان عليه في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
يبدو بالبنط العريض في هذا البلد العربي أن الحراك “ممنوع على القنوات” سواء كانت خاصة أم عمومية، بحيث غابت صور المليونيات لأربعة أسابيع متتالية، وفق الصحفي الجزائري رياض المعزوزي، فحتى القنوات التي كانت تسمى قنوات الشعب كالبلاد والشروق لا تذكران الحراك أصلًا.
ويرى المعزوزي في تصريح لنون بوست، أن الإعلام في بلاده انقلب على الملايين الذين يخرجون كل جمعة مطالبين باجتثاث رموز النظام السابق، ومطالبين بتأجيل الانتخابات ورفضها في ظل العصابات، وهي صورة واضحة لتحكم الجيش والرئاسة بزمام الإعلام في الجزائر، لا يقول إلا ما تقول.
تعرض عدد من الصحفيين الجزائريين وبعض مراسلي القنوات الأجنبية، في الأسابيع الأخيرة، للضرب من الشرطة الجزائرية خلال تغطيتهم المظاهرات
هذا التحرك في الإعلام وصل إلى درجة أن تلك القنوات تركت الملايين واهتمت بعشرات المواطنين الذي خرجوا لدعم المؤسسة العسكرية ومسار الانتخابات، وهذه الصورة توضح تمامًا حجم التضييق الممارس في الإعلام.
ولاحظ الجزائريون في الأسابيع الأخيرة عزوف القنوات التليفزيونية عن تغطية المسيرات الشعبية في بث مباشر كما كانت تفعل في بدايات الحراك الشعبي كل يوم جمعة. فمنع نقل المسيرات الضخمة كل جمعة، جعل العديد من الجزائريين يلجأون إلى الإعلام الأجنبي لمتابعة الحراك، وأيضًا إلى النقل المباشر في شبكات التواصل الاجتماعي لتحركات كل المسيرات وعبر مختلف المدن والقرى.
من جهته، يقول الصحفي فاح بن حمو إن قطاع الإعلام في بلاده لم يبن على أسس صحيحة، فكل ما هو موجود يخدم السلطة، ما جعل هذه المؤسسات لا تظهر ما يقوله الحراك الشعبي وما ينادي به من مطالب وما يقترح من مبادرات، فهو يعبّر على إرادة الحاكم الفعلي للبلاد.
منع من الإشهار وحجب وغلق
الضغوط التي تمارسها السلطات على وسائل الإعلام المحلية، تتمثّل أيضًا في حرمانها من الإشهار (الإعلانات)، بشأن تعاطيها مع الحراك الشعبي والتطورات السياسية، “فقاعات التحرير خاصة تلك المتعلقة بالقنوات والجرائد الورقية التي تستفيد من الإشهار العمومي أصبحت لا تستطيع نقل كل معلومة أو حقيقة لا تتماشى وتخيل السلطة القائمة في الخروج من الأزمة”، وفق مدير موقع طريق نيوز الجزائري لمين مغنين.
يضيف محمد “تبقى بعض المواقع الإلكترونية تصارع الواقع لنقل ما يُحرف عبر الوسائل الأخرى، هذه المواقع أيضًا تُحرم من الإشهار الخاص لخوف مديري وملاك المؤسسات الخاصة من المتابعات الجبائية”.
تضييقات أمنية ضد الصحفيين في الجزائر
لم تكتف السلطات بحرمان المؤسسات الإعلامية من الإشهار، فقد حجبت السلطات الجزائرية الحاكمة بعض المواقع الإخبارية على غرار موقع “كل شيء عن الجزائر” TSA الذي حجبته منذ 12 من يونيو/حزيران الماضي، إضافة إلى موقع “ألجيري بارت” Algérie Part..
من صور التضييق الواضحة أيضًا، إغلاق قناة المغاربية التي تُبث من العاصمة البريطانية لندن، وهي التي كانت تنقل كل كبيرة وصغيرة عن الحراك الشعبي الجزائري، وكانت إدارة القناة قد أعلنت في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أنّ بثها على الأقمار الاصطناعية “يوتل سات” و”نايل سات”، توقف بقرار من “يوتل سات”.
وقبل أيام علّقت إدارة الإذاعة الحكومية الثالثة في الجزائر عمل صحافيتين من قسم الأخبار وأوقفت بث برنامج، على خلفية تناول أخبار الحراك الشعبي والناشطين ومنح مساحة للرأي الآخر في نشرات الأخبار والبرامج السياسية، وفق صحفيين جزائريين.
اعتقالات ومراقبة
إلى جانب ذلك، تعرض عدد من الصحفيين الجزائريين وبعض مراسلي القنوات الأجنبية، في الأسابيع الأخيرة، للضرب من الشرطة الجزائرية خلال تغطيتهم مظاهرات الجمعة والثلاثاء، من أجل ترهيبهم وثنيهم على تغطية الحراك الشعبي المتواصل منذ 9 أشهر.
فضلاً عن ذلك، أقدمت السلطات على اعتقال العديد من الصحفيين، ويؤكّد إعلاميون جزائريون، وجود ثلاثة صحافيين على الأقل رهن التوقيف منذ عدة أشهر بسبب كتابات على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما وضع آخرون قيد المراقبة القضائية.
هذه الإجراءات يسعى من خلالها حكام الجزائر الفعليون، لتعبيد الطريق أمام الانتخابات الرئاسية القادمة، المقرّرة في 12 من ديسمبر/كانون الأول المقبل
وكانت محكمة وادي سوف جنوب الجزائر، قد قرّرت الإثنين الماضي، إرجاء محاكمة الصحافي عادل عازب الشيخ، الذي وجّهت إليه تهمًا تتعلق بنشاطه الصحافي ونشره فيديو بشأن احتجاج عاطلين عن العمل، حتى 25 من ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وتشهد الجزائر منذ 22 من فبراير/شباط 2019، حراكًا شعبيًا بدأ برفض العهدة الخامسة وفرض ابتعاد الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة عن الحكم، وصولاً إلى المطالبة بابتعاد رموز نظام بوتفليقة عن السلطة ومحاسبتهم جميعًا على ما اقترفوه في حق البلاد طيلة سنوات حكمهم.
استنكار وتنديد
أمام هذه الانتهاكات المتكرّرة وغضب الشارع عليهم، تجمع عشرات الصحفيين الجزائريين، أمس الجمعة، رافعين أشرطة بيضاء كتب عليها “صحافي حر” للتنديد بالتهديدات والترهيب والإكراهات التي يتعرضون لها، بالإضافة إلى تأكيد دعمهم المتواصل للحراك والمحتجين.
قبل ذلك، وقّع أكثر من 300 صحافي وإعلامي من القطاعين العام والخاص نصًا قالوا فيه إنهم “يدقون ناقوس الخطر” وينددون بـ”المضايقة المنهجية لوسائل الإعلام” في بلادهم، وفي نص نُشر الإثنين عبر صفحة الائتلاف على فيسبوك تحت عنوان “من أجل إنقاذ الصحافة الجزائرية“، ندد الائتلاف بـ”الضغوطات والإكراهات التي تمنع الصحافيين من أداء واجبهم المهني وتأمين خدمة عامة إعلامية”، وطالب هؤلاء الصحافيون “النظام بوقف فرض الرقابة على وسائل الإعلام العامة والخاصة والاعتداء على الحريات الإعلامية بهدف ضمان حق المواطن في إعلام موضوعي ومحايد، كما استنكروا منع مديري وسائل الإعلام لبعض الصحافيين من تغطية الأحداث المهمة في الجزائر.
وقالوا: “الصحافة ليست جريمة وتمر الجزائر بمرحلة تاريخية يتعين على الصحافيين ووسائل الإعلام مواكبتها من خلال مزيد من المهنية التي تشكل الحرية أحد شروطها الأساسية”، منددين بـ”المضايقة الممنهجة لوسائل الإعلام العامة والخاصة”.
تواصل الاحتجاجات الرافضة للانتخابات
عبّر الصحافيون عن قلقهم من الأوضاع التي آلت إليها الصحافة في الوقت الراهن، وفي ظل “تزايد الضغوط والإكراهات فُرضت قيود على المؤسسات الصحافية وعُزل الصحافيون عن أداء واجبهم المهني وتقديم الخدمة العمومية، وفقًا للأعراف والمعايير المهنية وكراسة الأخلاقيات الصحافية”، وأوضح الموقعون على البيان أن “الجزائر تعيش مخاضًا تاريخيًا يتعين على الصحافة والصحافيين مواكبته بمهنية أكبر، التي تشكل الحرية إحدى شروطها الأساسية، وتقديم خدمة وطنية تضمن حق المواطن في الإعلام الموضوعي، من دون أن تصبح الصحافة جريمةً”.
تعبيد الطريق أمام الانتخابات
هذه الإجراءات يسعى من خلالها حكام الجزائر الفعليون، لتعبيد الطريق أمام الانتخابات الرئاسية القادمة، المقرّرة في 12 من ديسمبر/كانون الأول المقبل، في ظلّ الرفض الشعبي الكبير لها، حيث يرفض المحتجون إشراف السلطة الحاليّة الموروثة عن عهد بوتفليقة، على أي انتخابات ويطالبون بمؤسسات انتقالية بشخصيات جديدة، حيث يرددون منذ الأسابيع الأولى لحراكهم شعار “لا انتخابات مع العصابات”، ويأمل القائمون على الحكم في البلاد في انتخاب رئيس جديد بدلًا من الرئيس المؤقت الحاليّ عبد القادر بن صالح الذي يفتقد إلى الشرعية.
ويتنافس في هذه الانتخابات الرئاسية، خمسة مرشحين (بينهم بالخصوص رئيسا الوزراء السابقان علي بنفليس وعبد المجيد تبون)، سيراهن عليها النظام الحاكم في الجزائر لرصّ صفوفه، وإعادة الهيبة إليه بعد ما لحقه من “خلخلة” نتيجة الحراك الشعبي الكبير المطالب بسقوطه منذ أشهر.
جدير بالذكر أن الجزائريين أسقطوا الانتخابات التي كانت مبرمجة في 18 من أبريل/نيسان 2019، نتيجة اعتزام بوتفليقة الترشح لها، كما أسقطوا الانتخابات التي كانت مزمعة في 4 من يوليو/تموز الماضي، وكان سبب إلغائها، رفض أغلب الشخصيات الوطنية والأحزاب السياسية المشاركة فيها ومقاطعتها من طرف الحراك الشعبي.