لا يستقيم الحديث عن نشأة كرة القدم وتشكّل الأندية العربية في زمن الاستعمار والاحتلال الأجنبي دون الوقوف عند ميلاد المنتخب الوطني الجزائري (ثعالب الصحراء حاليًّا) الذي كان لتأسيسه بعد اجتماعي وسياسي استهدف بالأساس مقاومة الفرنسيين ونقل معاناتهم للعالم من خلال الساحرة المستديرة.
عادة تتأسس منتخبات كرة القدم في العالم عقب استقلال الدول، لكن منتخب الجزائر كان مختلفًا وخلق الاستثناء، فقد تشكّل لمساعدة الحركة الوطنية (جبهة التحرير) على نيل الاستقلال والتخلص من سطوة الاستعمار (1830-1962) الذي عمل على محو شخصية الجزائري وأصولها وثوابتها واستبدالها بأخرى إفرنجية.
وكانت كرة القدم في منطقة المغرب العربي تُلعب بين الدول تحت رعاية ومراقبة المستعمر الفرنسي (كأس شمال إفريقيا) ووفق قوانينه باعتباره دولة الحماية لكل من المغرب وتونس، وصاحب حق في الجزائر بوصفها جزءًا منه (الجزائر الفرنسية).
الرياضة صناعة ثورة
اقترن بروز النواة الأولى للمنتخب الوطني الجزائري مع بداية تشكل المقاومة الشعبية في البلاد منذ تأسيس “مجموعة الـ22” و”لجنة التسعة”، إلى إعلان تشكيل “جبهة التحرير الوطني” في 22 من يونيو /حزيران عام 1954، لتشق الثورة الجزائرية في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني طريقها في البلاد يتقدمه جناح عسكري يحمل الكفاح المسلح طريقًا للنضال والاستقلال، عرف باسم “جيش التحرير الوطني”.
وفي الـ20 من أغسطس لعام 1956، اجتمع أعضاء من المنظمة الجزائرية السرية، بدعوة من عبان رمضان أحد ضباط الصف في الجيش الجزائري، في بلاد القبائل بجبال أطلس لعشرة أيام (مؤتمر الصومام)، ناقشوا خلالها كيفية استمرار الثورة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي وتدعيمها، ليتم الاستقرار على فكرة إنشاء منتخب وطني يُمثل الجزائريين في المحافل الدولية وينقل مطالب الشعب المتمثلة في الانعتاق من الاستعمار الفرنسي، ورأت الـFLN أنّه يمكن استغلال الرياضة كأداة للنضال لما تتمتع به كرة القدم من شعبية واسعة على المستوى العالمي لبلوغ استقلال البلاد، فالرياضة مثلها مثل النشاطات المسلحة والنقابية والطلابية والثقافية، وتم تكليف اللاعب المحترف في الدوري الفرنسي محمد بومزراق بجمع اللاعبين وترحيلهم إلى تونس، من أجل تشكيل منتخب جبهة التحرير.
وكانت جبهة التحرير الجزائرية منتشرة في فرنسا أيضًا، وتعمل خلاياها على تجميع الاشتراكات دوريًا من اللاعبين الجزائريين لدعم الثورة المسلحة، بنسبة 15% من رواتبهم.
لاعبون ونداء الوطن
قبل يومين من مباراة ودية تحضيرية لمونديال 1958، جمعت بين المنتخبين الفرنسي والسويسري، كان يفترض أن يشارك بها مصطفى زيتوني (نادي موناكو) في الدفاع ورشيد مخلوفي (سانت إيتيان) في المركز رقم 10، اختفى تسعة لاعبين جزائريين فجأة، هربوا من فرنسا عبر الحدود السويسرية والإيطالية باتجاه تونس، فيما التحقت بهم مجموعة أخرى من اللاعبين في 1959 و1960.
ورغم تحريات الشرطة ونقاط التفتيش المنتشرة على الحدود، تمكنت مجموعات أخرى من اللحاق بهم في مكان تجمع أول منتخب جزائري لكرة القدم، تحت إشراف المدرب الشاب وقتها، مختار عريبي الذي كان يدرب فريق أفينيون الفرنسي، فيما اعتقلت الشرطة لاعبين اثنين هما: حسان شاربي ومحمد معوش وهما يحاولان الهروب، وسجنا عامًا كاملًا، ليلتحقا بعدها بزملائهما في تونس.
وكشف اللاعب الجزائري السابق في نادي رامس الفرنسي محمد معوش في تصريحات صحفية أنّه جاب مدنًا فرنسية رفقة زوجته خديجة للاتصال باللاعبين الجزائريين المحترفين هناك، وإخطارهم بأن جبهة وجيش التحرير الوطنيَين يطلبان منهم الفرار من فرنسا إلى تونس، وتأسيس فريق وطني خدمة للثورة الجزائرية.
من جهتها، قالت خديجة عموش في تصريح لـ”هيئة الإذاعة البريطانية” (BBC) إنها كانت مسؤولة عن الاتصال باللاعبين، سواء قبل أو أثناء اللعب، متابعةً: “كنت أتحدث معهم على انفراد، وقد وافقوا جميعًا، ثم سلمتهم وثيقة سفر مزورة تمكنوا بفضلها من الهرب سرًا من فرنسا”، مضيفةً “لقد شعر الفرنسيون بالإهانة كرويًا مثلما شعروا بها سياسيًا”.
باعوا النجومية
يرى مؤرخون أن جرائم المستعمر الفرنسي في حق الشعب الجزائري من قتل وتشريد وتعذيب خلفت ندوبًا لا تُمحى في ذاكرة المواطنين بتلك الحقبة، ولم يكن الرياضيون المغتربون في ذلك الوقت بمعزل عن الأحداث، فاختاروا ترك مشوارهم الاحترافي الواعد ورفضوا الانضمام للمنتخب الفرنسي رغم الإغراءات المادية وحياة الرفاهية والشهرة.
قال اللاعب رشيد مخلوفي (مواليد سطيف) إن مجازر 8 من مايو 1945 التي قتل فيها عشرات الآلاف من الجزائريين المدنيين، بقيت عالقة في ذهنه منذ أن كان طفلاً لم يتجاوز التسع سنوات، لذلك لم يتردد لحظة واحدة في تلبية نداء الواجب والالتحاق بالثورة مضحيًا بأمجاد الكرة وشهرتها التي كانت تحت قدميه، حيث نال رشيد مخلوفي مع منتخب فرنسا العسكري لكرة القدم كأس العالم للمنتخبات العسكرية في صائفة 1957.
من جانبه، وصف الصحافي جاك فندرو في تصريح صحفي اللاعب عبد العزبز بن تيفور بنجم كرة القدم الفرنسية في الخمسينيات، فيما كان زيتوني ومخلوفي زيدان وبلاتيني ذلك العصر، وقال إن هروبهم السرّي كان ضربة قاسية لفرنسا تأتي في سياق المعارك العسكرية.
بدوره، قال اللاعب معوش في تصريح نقله موقع “humanite“: “بالعودة في الزمان، يمكنني القول إنه لم يندم أي منا، لقد كنا ثوريين وحاربنا من أجل استقلال الجزائر”.
أما زيتوني فكان قاب قوسين أن ينضم إلى النادي الأشهر في العالم (ريال مدريد)، ففي مباراة دارت في مارس/آذار 1958 على ملعب حديقة الأمراء بباريس أمام المنتخب الإسباني، كُلّف الجزائري بمراقبة الفائز بالكرة الذهبية لأحسن لاعب في العالم، ألفريدو دي ستيفانو، فتمكن من شل حركته تمامًا طوال المباراة، ولم يترك له فرصة واحدة للتحرك، ما أثار إعجاب رئيس ريال مدريد التاريخي، سانتياغو برنابيو، الذي يحمل ملعب الفريق الملكي اسمه اليوم، ولشدة انبهار الأخير بلاعب المنتخب الفرنسي رقم 5 تقدم نحوه في نهاية المباراة، وعرض عليه الانضمام إلى فريقه، قائلًا: “لا بد أن تلعب في أحسن فريق في العالم، إنه ريال مدريد، هل نوقع العقد؟”.
اللاعب الجزائري رد على أسطورة ريال مدريد بـ”أشكرك على العرض، ولكنني سألعب قريبًا في أحسن فريق بالعالم”، وكانت تلك آخر مباراة يلعبها زيتوني مع المنتخب الفرنسي، بعد أن أعطى وعدًا لزملائه بالهروب من فرنسا إلى تونس لتشكيل فريق جبهة التحرير.
ضربة عسكرية رياضية
أذهل خبر هروب اللاعبين الجزائريين السلطات الفرنسية بعد انتشاره الواسع في وسائل الإعلام، وتحدثت صحيفة ليكيب الرياضية ومجلة باري ماتش مطولًا عن هذا الهروب الجماعي المفاجئ، وغياب مصطفى زيتوني عن دفاع المنتخب الفرنسي، واختفاء رشيد مخلوفي النجم الصاعد للكرة الفرنسية، بعد أن استدعاهم المدرب بول نيكولا لتدعيم (الديوك) في كأس العالم 1958، وشملت الدعوة أيضًا عبد العزيز بن تيفور مهاجم موناكو ومحمد معوش مهاجم فريق ريمس.
وعلّقت صحيفة ليكيب على الحادثة قائلةً: “الرياضة أداة رائعة للتقريب بين الأفراد، إنهم يتعلمون في الملاعب كيف يتعرفون ويتفاهمون بأفضل صورة، لكن من العبث أن نعتقد بأنهم من الممكن أن يكونوا في مأمن من تأثير التيارات السياسية أو الاقتصادية الكبرى المولدة للنزاعات العالمية الحاليّة، جبهة التحرير المسؤولة عن الحدث المفاجئ الذي جرى ظهيرة يوم الإثنين استوحت طريقة الهروب من فيدل كاسترو المتمرد الكوبي الذي قام، كما نتذكر، باختطاف بطل العالم للسيارات مانوال فانجيو، لقد تصرفت بنفس الطريقة، لا شيء يمكن فعلًا أن يؤثر في الأذهان بقدر الانسحاب المفاجئ لزيتوني ورفاقه عشية مناقشة البرلمان، ومباراة دولية كبرى في كرة القدم”.
مضيفةً “من غير الُمجد أن ننكر الدوي الذي سيحدثه هذا التصرف، العدوى قد تتوسع، في ذهننا بعض الأسماء الكبيرة لرياضة ألعاب القوى مثل عامر وبراقشي وميمون، وفي الملاكمة مثل حليمي وحامية، بل وفي السباحة مثل خمون باعتباره عنصرًا من الدرجة الأولى”.
تدخل الفيفا ومواجهة العرب
على إثر الحادثة، سارع الاتحاد الفرنسي لكرة القدم إلى تقديم شكوى لـ”الفيفا” برئاسة آرثر دريوري يطالب فيها بمنع ما أسماهم “هؤلاء اللاعبين المتمردين” من ممارسة النشاط الرياضي في أيّ فريق، وقررت المنظمة منع فريق “جبهة التحرير” من المشاركة في أي منافسة دولية، وقد تفاعلت أغلب الاتحادات الكروية في الدول الأوروبية إيجابيًا مع شكوى باريس، فيما فُسخت عقود اللاعبين مع الفرق الفرنسية التي كانوا يلعبون بها.
ولم تكتف “الفيفا” بمنع الجزائريين من المشاركة الدولية، بل هددت أيضًا أي دولة تستقبل هذا الفريق الذي “ليست له سيادة” بالعقوبة، فيما تحدت كل من يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا والمجر وبلغاريا والصين وفيتنام الشمالية والمغرب وتونس وليبيا الحظر وتمسكوا باستضافة الجزائر، واستقبلوا فريق “جبهة التحرير”، ونظمت له مباريات قاربت الـ90 مباراةً، حتى الاعتراف الدولي بالجزائر المستقلة عام 1962، واعتماد الفيفا فريقها الوطني عام 1963.
ورُفع العلم الجزائري لأول مرة في العراق، حيث ارتفع النشيد الوطني “قسمًا” لأول مرة أيضًا قبل المباراة التي أقيمت في فبراير/شباط 1959 في بغداد، ودُعي حينها السفير الفرنسي للحضور ولكنه غادر قبل بداية المباراة احتجاجًا على وجود فريق جبهة التحرير.
وامتلك اللاعبون الجزائريون نفس الروح القتالية داخل المستطيل الأخضر، فكان منتخبا قويًا، فاز على تونس عدة مرات وكذلك المغرب والمجر ويوغسلافيا (6-1) ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفيتي والأردن والعراق وفيتنام.
وأدى منتخب الـ(FLN) رسالته في التعريف بقضية بلاده العادلة في كل جولاته الرياضية، نصرة للحركة الوطنية في الداخل، واستقبل الرئيس هو شي مينه اللاعبين والكادر الفني في فيتنام، وكذلك استقبله في الصين رئيس الوزراء شو إن لاي.
إلى ذلك، كان لفريق “جبهة التحرير” دور مهم في تعريف المجتمع الدولي بالقضية الجزائرية العادلة وفضح إرهاب المستعمر في جولاته الكروية التي خاضها حول العالم، وساهم بشكل أو بآخر في استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، وقال عباس فرحات أحد الزعماء الجزائريين في جبهة التحرير عن هذا الفريق إنه “أكسب الثورة الجزائرية عشر سنوات”.