ترجمة وتحرير: نون بوست
في مطلع شهر حزيران/ يونيو 2018، أطلقت القوات الإسرائيلية النار على المسعفة الفلسطينية رزان النجار البالغة من العمر 21 سنة حينما كانت تسعف الجرحى خلال مسيرة العودة الكبرى، وهي احتجاجات غير مسلحة بدأت قبل ذلك بشهرين على طول حدود قطاع غزة مع “إسرائيل”، ومازالت مستمرة إلى يومنا هذا.
كما كان متوقعا، اعتبر المسؤولون الإسرائيليون المتظاهرين، بما في ذلك الأطفال والنساء المسنات والأشخاص المعوقين، أتباعا لحركة حماس وزعموا أنها أرسلتهم في محاولة بائسة لتدمير “إسرائيل” بواسطة الطائرات الورقية والمناطيد الحارقة وغيرها من الوسائل المرعبة الأخرى. وكما هو الحال في كل مرة يخرج فيها الفلسطينيون للمطالبة بحقهم في الكرامة، استغلت “إسرائيل” مسيرة العودة الكبرى لارتكاب مذبحة جماعية، حيث قُتل في يوم واحد من شهر أيار/ مايو 2018 حوالي 59 متظاهرا، بما في ذلك الأطفال.
في حالة رزان النجار وغيرها من المسعفين المستهدفين من قبل القناصة الإسرائيليين، تمكّنت “إسرائيل” من التخلص من جميع الأعمال الوحشية وجرائم الحرب بطريقة سحرية اعتمدت على ذريعة المنطق الذي يعتبر الأطباء الفلسطينيين مجرد “دروعً بشرية” لحماس. ومن هذا المنطلق، تعتبر هذه اللعبة عادلة إلى حد ما بالنسبة لـ”إسرائيل”.
للحصول على ترياق للدعاية الإجرامية الإسرائيلية التي تحيط بمسيرة العودة الكبرى، يعتبر فيلم “غزة تناضل من أجل الحرية” – وهو فيلم جديد لآبي مارتن من إنتاج شركة “أمباير فايلز” – نقطة انطلاق جيدة. من خلال لقطات أُخذت لرزان النجار ومقابلات أُجريت مع أفراد أسرتها وزملائها، أصبح من الواضح أنه، بعيدا عن ذريعة “الدرع البشري”، كانت جريمتها الحقيقية في الواقع أنها إنسانا.
آلة القتل الإسرائيلية
تروي والدة رزان النجار كيف كانت ابنتها تشعر بتأثر شديد حينما قُتل متظاهر أصم يدعى أبو سبلة، حيث قالت: “عندما أطلقوا النار على هذا المتظاهر، سقط بين ذراعيها، فأمسكته بين يديها. خرج دماغه بالكامل من رأسه ليستقر بين يديها”. من الواضح أن الإنسانية ليست شيئًا يمكن أن يعزى إلى أي عنصر من عناصر آلة القتل الإسرائيلية، كما هو واضح بشكل خاص في اللقطات التي سجلها الجنود الإسرائيليون من خلال مقطع فيديو يظهر مدى ابتهاجهم وشعورهم بالغبطة وهم يطلقون النار على طفل فلسطيني عبر السياج الحدودي ويصرخون: “يا له من مقطع فيديو! نعم! ذلك السافل”.
تضمّن الفيلم رجلا يبلغ من العمر 29 سنة بترت ساقاه إثر غارة جوية إسرائيلية جدت في سنة 2008. وبعد مرور عقد من الزمان، أرداه القناصة الإسرائيليون قتيلا بينما كان جالسا على كرسيه المتحرك خلال الاحتجاجات
كانت النجار إحدى بطلات فيلم “غزة تناضل من أجل الحرية”، لكن هذا الفيلم يتناول الكثير من المواضيع الأخرى. تصف مارتن بإسهاب انتهاكات “إسرائيل” للقانون الدولي، حيث قدمت تفاصيل حول الضحايا الفلسطينيين الذين يعتبرون في كثير من الأحيان “أضرارا جانبية”، أو الأسوأ من ذلك، “إرهابيين”.
فعلى سبيل المثال، تضمّن الفيلم رجلا يبلغ من العمر 29 سنة بترت ساقاه إثر غارة جوية إسرائيلية جدت في سنة 2008. وبعد مرور عقد من الزمان، أرداه القناصة الإسرائيليون قتيلا بينما كان جالسا على كرسيه المتحرك خلال الاحتجاجات. فضلا عن ذلك، يوجد رجل آخر أطلق عليه الإسرائيليون الرصاص بينما كان يدخن سيجارة، وقد كان ملفوفا في علم فلسطين، إلى جانب طفل يبلغ من العمر سنتين، وامرأة مسنة ذات 71 سنة، وصحفيين وأطباء، وتطول القائمة.
المسيرة الكبرى
نقل تقرير صادر عن لجنة مستقلة تابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، عن صحفي دولي كان يغطي أخبار مسيرة العودة الكبرى، يصف المشهد الذي حدث في 14 أيار/ مايو 2018: “كل بضع دقائق … تسمع صوت طلقة نارية وترى شخصًا يسقط قتيلا. ومن ثم تسمع طلقة أخرى وشخصا آخر يسقط قتيلا. استمر الأمر لساعات … كان الأمر سرياليا ولا نهاية له. بعد ذلك، أصبح طبيعيا، كان يحدث في كثير من الأحيان. رصاصة، شخص يسقط، أشخاص يحملون الجثة … لقد غطيت الحروب في سوريا واليمن وليبيا. لم أر أبدا شيئا من هذا القبيل. إطلاق نار منهجي بطيء. كان الأمر صادما للغاية”.
كما توضح مارتن في فيلمها، كان الواقع نادرا ما يؤثر على التغطية الإعلامية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني في الولايات المتحدة، التي تدعم الجيش الإسرائيلي بلا هوادة وتسهل الجرائم الوحشية التي ترتكبها “إسرائيل”. توضح مجموعة من مقاطع الفيديو التي نشرتها شبكة “سي إن إن” و”فوكس نيوز” ومنافذ إعلامية أخرى كيف كانت وسائل الإعلام الأمريكية بوقا للسياسة الإسرائيلية، وتنقل رؤية مروعة من مسيرة العودة الكبرى تعتبر المشاركين فيها جيشا هائلا من الإرهابيين محملين بالمتفجرات ويهرعون إلى الحدود الإسرائيلية.
رجل فلسطيني ملطخ بدماء قريبه، يتلقى التعازي في مستشفى الشفاء في مدينة غزة في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر.
في مقطع نشرته شبكة “سي إن إن”، أعطي وزير التعليم الإسرائيلي السابق نفتالي بنت منصة للتعبير عن رأيه حيث قال: “حماس تقوم بعملية إبادة جماعية ذاتية واسعة النطاق”، بينما أقسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في منصة أخرى أن حماس مهتمة بتحصيل أكبر عدد ممكن من “القتلى عن بعد” من المدنيين الفلسطينيين.
إن أقل ما يُستخلص هو أن تقييم “الإبادة الجماعية الذاتية” مثير للفضول، متأت من تصريح أدلى به الشريك السياسي القديم لأيليت شكد، وزير العدل الإسرائيلي السابق الذي سبق أن دعا حرفيا إلى الإبادة الجماعية للفلسطينيين. بالنسبة لتصورات نتنياهو، ربما يمكن لـ”إسرائيل” أن تحبط مؤامرة حماس الخبيثة في المهد بمجرد الامتناع عن ذبح الفلسطينيين بشكل منتظم.
البداية
سَطع نجم فيلم مارتن بالفعل عندما صوّر السياق الدرامي لاحتجاجات غزة والنضال الفلسطيني بشكل عام، وهو سياق تسعى “إسرائيل” ورفيقتها الولايات المتحدة الأمريكية دائما إلى إخفائه بهدف إظهار روايات ساذجة ومصطنعة عن العنف الفلسطيني وإبراز “إسرائيل” في دور الضحية التي تقوم بمجرد “الدفاع عن نفسها”.
تعود مارتن لتسرد البدايات، وتضعنا في الإطار العام: من الاستيطان الإسرائيلي الذي سُلّط على الأراضي الفلسطينية منذ سنة 1948 والذي اتسم بعدة ممارسات شنيعة على غرار القتل الجماعي والتطهير العرقي والطرد القسري والدمار، وصولا إلى الاحتلال العسكري الإسرائيلي لغزة الذي عُرف بـ “الانسحاب”، والحصار والتخفيض المتكرر لمساحات شاسعة من الأراضي، ودفن الأنقاض وهلم جرا.
تبيّن أن إشكول قد تكهن بالفعل بما سيحصل. كما روت مارتن في الفيلم: “حتى الأمم المتحدة أفادت بأن قطاع غزة سيكون غير صالح للسكن بسبب نقص المياه فقط، بحلول سنة 2020”
وفي مكان يشار إليه عادة باسم “معتقل الهواء الطلق”، حيث يتألف غالبية السكان من اللاجئين الذين مُنعوا من العودة إلى ديارهم في ما يُعرف الآن باسم “إسرائيل”، ليس من الصعب فهم السبب وراء شعور الناس بأنهم مرغمون على الاحتجاج. في هذا الصدد، تعرض مارتن أيضا مقاطع كاشفة تتحدث عن الآباء المؤسسين لـ”إسرائيل” بهدف تأطير سياقها التاريخي.
فعلى سبيل المثال، أدلى رئيس الوزراء دافيد بن غوريون بتصريح قائلا: “ينبغي أن نطرد العرب ونأخذ أماكنهم”. كما قال رئيس الوزراء ليفي إشكول، الذي لطالما حلم في ستينيات القرن الماضي بتطهير قطاع غزة من الفلسطينيين: “ربما إذا لم نمنحهم ما يكفي من المياه فلن يكون لديهم خيار آخر، لأن البساتين سوف تذبل وتموت”.
عدو الإنسانية
تبيّن أن إشكول قد تكهن بالفعل بما سيحصل. كما روت مارتن في الفيلم: “حتى الأمم المتحدة أفادت بأن قطاع غزة سيكون غير صالح للسكن بسبب نقص المياه فقط، بحلول سنة 2020”. وتابعت المخرجة قائلة إن “97 في المئة من المياه العذبة في غزة سامة وغير صالحة للشرب. كما دمرت القنابل الإسرائيلية الغالبية العظمى من محطات تحلية المياه في غزة التي تنتج المياه العذبة، حيث لم يعد بإمكانها العمل. أما إصلاحها فيتطلب استيراد مواد محظورة بموجب الحصار، ناهيك عن أن أكثر من 25 بالمئة من جميع الأمراض في غزة ناتجة مباشرة عن تلوث المياه”.
وتجدر الإشارة إلى أن مارتن نفسها مُنعت من دخول غزة من قبل الحكومة الإسرائيلية، لذلك اعتمدت على فريق من الصحفيين هناك لتصوير وإجراء المقابلات. ربما مثّل هذا أفضل ترتيب في نهاية المطاف، حيث جعل الفلسطينيين يروون قصصهم الخاصة.
صُورت بعض المشاهد بشكل رائع للغاية حتى تلك التي انتشر فيها الركام والحطام في كل مكان، أو تلك التي احتوت على لقطات إطلاق “إسرائيل” لقنابل الغاز على المحتجين لدرجة أنني اضطُررتُ في بعض الأحيان إلى إيقاف تصوير الفيلم بصفة مؤقتة، لألقي نظرة تأمل عما إذا كنت مذنبة بشكل من الأشكال في الاستشراق المرضي والهوس بتصوير كل أشكال التدمير وتعذيب النفس.
لحسن الحظ، إن فيلم “تناضل غزة من أجل الحرية” تجنب الوقوع في فخ رؤية النضال الفلسطيني من الزاوية الرومنطيقية. توثّق مارتن قصص أشخاص يبحثون عن الكرامة والحقوق الأساسية، وينتهي الفيلم بمناشدة للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضد “إسرائيل”؛ خاصة أنها دولة “تتمتع حتى الآن بحماية كاملة من الإمبراطورية الأمريكية، وفي مأمن من المساءلة من قبل آلة الحرب”. في نهاية المطاف، نحن لا نحتاج إلى إنقاذ غزة لمجرد أنها تناضل من أجل الحرية؛ بل نحتاج إلى أن ندرك أن “إسرائيل” ومؤيديها الإمبرياليين هم حقا أعداء الإنسانية نفسها.
المصدر: ميدل إيست آي