إيران هي ثاني بلدان منطقة الشرق الأوسط بعد مصر من حيث عدد السكان، إذ وصل عددهم قرابة 81 مليون نسمة في آخر عملية تعداد سكاني جرت عام 2016، واليوم يمثل الاقتصاد الشغل الشاغل لهؤلاء الإيرانيين جميعًا، حاكمين أو محكومين، فيعتبره الطيفان الأولوية الداخلية القصوى في الوقت الراهن، وللتغلب على أزمات الاقتصاد في إيران، أوجد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي مصطلح الاقتصاد المقاوم، للتغلب على العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية، ودخلت هذه التسمية القاموس الاقتصادي الإيراني، بعد طرحها من قبل علي خامنئي في خطاب له في أغسطس 2012، في مواجهة الحرب الاقتصادية على إيران ووصول العقوبات إلى ذروتها بعد حظر نفطها، معرفًا نظرية الاقتصاد المقاوم بأنها نمط ملهم من النظام الاقتصادي الإسلامي، ثم بعد عامين طرح عشر ركائز لبرنامج الاقتصاد المقاوم وخطوطه العريضة، مطالبًا حكومة الرئيس روحاني الالتزام بها وتطبيقها، ورغم أن هذه النظرية طُرحت لتجاوز الحالة الطارئة التي أوجدتها الأزمة الاقتصادية، فإنها تصلح أيضًا في حالات عادية، لبناء اقتصاد قوي متين لا يتضرر كثيرًا في مواجهة الأزمات والمخاطر الخارجية.
يعد الفساد ثاني أكبر معوقات تحسن الاقتصاد الإيراني بعد الركود، ويؤكد ذلك رئيس غرفة تجارة وصناعة ومعادن إيران غلام حسين شافعي، الذي صرح أن الاقتصاد الإيراني يعاني من مشكلتين أساسيتين هما: الفساد والركود، ويجب محاربة جذور الفساد بكل الطرق، ويرجع الخبراء الاقتصاديون سبب تفشي الفساد إلى عدم الانضباط المالي وسيطرة الحرس الثوري الإيراني على أغلب القطاعات الاقتصادية في إيران وعدم تبني رؤية جادة في مكافحة الفساد، إلى جانب ضلوع عدد كبير من قيادات الدولة بملفات فساد كبيرة، إضافة إلى أن الفساد المالي والإداري تحول إلى أداة بيد النظام الإيراني لشراء الولاءات، كما أنه أصبح ثقافة عامة في إيران، لذا أصبح من الصعب السيطرة عليه، إذ وصل إلى درجة أن بعض المتابعين حذروا من خطورة سيطرته على مجمل النظام السياسي.
وهو ما نبه إليه المحلل السياسي شهريار كيا، الذي أكد أن عجز السلطات الإيرانية عن مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها، نتيجة فساد متأصل في بنية النظام الإيراني، مؤكدًا أن الاتفاق النووي لا يمكنه معالجة الأزمة التي تهدد بسقوط النظام، مشيرًا إلى أن الجهة الوحيدة التي استفادت إلى حد كبير من الثورة الاقتصادية الناجمة عن رفع العقوبات والإفراج عن الأصول المجمدة، هي النخبة الحاكمة في النظام السياسي والحرس الثوري.
الموجة الثالثة من التظاهرات
لا يخفى على أحد بأن ما تشهده المدن الإيرانية اليوم ليس بالحالة الجديدة أو نتيجة حالة التعقيد السياسي الموجود في البيئة الإقليمية المحيطة بإيران، إذ شهدت إيران مظاهرات احتجاجية في ديسمبر 2017 وأخرى في أغسطس 2018، وجميعها نابعة من رحم المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المواطن الإيراني جراء العقوبات الأمريكية المفروضة على الاقتصاد الإيراني منذ انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي عام 2018، إذ شملت هذه العقوبات مجمل قطاعات الاقتصاد الإيراني كالطاقة والحديد والبتروكيماويات وغيرها، إلى جانب قطاع المصارف والتحويلات المالية، وهو ما جعل المواطن الإيراني يئن تحت طائلة هذه العقوبات، على اعتبار أنه المتضرر الوحيد منها، في ظل حالة عدم مبالاة من النظام السياسي الذي يسعى إلى تسخير كل مقدرات الدولة الإيرانية في خدمة المشروع الإستراتيجي الإيراني، والعمل على ديمومة محور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة.
اليوم تسبب قرار الحكومة الإيرانية برفع أسعار البنزين في إطلاق شرارة الاحتجاجات بمناطق متفرقة في البلاد، إذ أعلنت السلطات الإيرانية فجأة رفع أسعار الوقود بنسبة 50%، وفرضت حصصًا مقننة للوقود، ما أثار غضب عدد كبير من الإيرانيين في خضم اقتصاد مترنح بالفعل، كما أظهرت مقاطع فيديو لقطات لمحتجين إيرانيين وهم يشعلون النار في الإطارات ويقطعون طرق رئيسية، وتظاهرات في مدن كبرى من بينها العاصمة طهران وتبريز وأصفهان والأحواز.
يقول رئيس مدير المركز الأحوازي للإعلام والدراسات الإستراتيجية حسن راضي إن الناس تفاجأوا بخطوة السلطات، كما أنها جاءت عكس ما كانوا يتمنوه، مضيفًا “الإيرانيون كانوا يأملون من الحكومة اتخاذ خطوات تساعد على تحسين الأوضاع المعاشية المتردية، لكنها على العكس من ذلك رفعت أسعار البنزين وزادت من معاناتهم”.
عرقنة إيران
شكل اندلاع التظاهرات الشعبية في العراق منذ بداية شهر أكتوبر الماضي، إحدى المحددات التي تخوف منها صانع القرار في إيران، من إمكانية انتقال عدوى التظاهرات من العراق إلى الداخل الإيراني، وهو ما حذر منه سعيد حجاريان الملقب بـ”منظر التيار الإصلاحي” في إيران، حيث حذر من تفكك إيران من خلال ما وصفه بانفصال القوميات غير الفارسية، مطالبًا الحكومة باتخاذ تدابير جدية لمنع حدوث ذلك، واتهم حجاريان في مقابلة مع موقع “إنصاف نيوز” المقرب من الإصلاحيين، أمريكا وحلفاءها في المنطقة بأنها تسعى وراء تقسيم إيران، قائلًا: “هناك خطة لعرقنة إيران من خلال إيجاد مناطق حظر جوي، إحداها للأكراد في الشمال والثانية لعرب الأهواز في الجنوب”.
وأشار الموقع إلى أنه أجرى المقابلة بمناسبة تزايد الهتافات القومية التي تُطلق في ملاعب الأهواز وتبريز مركز إقليم أذربيجان، ومظاهرات الأهواز التي أُنزلت خلالها الأعلام الإيرانية، واعتبرها مؤشرات خطيرة لانتشار النزعة الانفصالية لدى أبناء القوميات، بعد تصاعد شرارة الاحتجاجات في العراق.
لا يخفى على أحد بأن العراق شكل الرئة التي تنفس من خلالها النظام الإيراني بعد دخول العقوبات النفطية الأمريكية حيز التنفيذ من بداية العام الحاليّ، إذ عملت إيران وعبر تعاونها مع العديد من الأحزاب والجماعات المسلحة في العراق، على تسخير بعض الموانئ النفطية في جنوب العراق لتهريب النفط الإيراني الخام، هذا فضلًا عن استغلالها لطريق بري يمر عبر العراق إلى داخل الأراضي السورية لتصدير البضائع والمنتجات الإيرانية، وهو ما جعل رئيس منظمة التجارة التابعة لوزارة الصناعة والتجارة والمناجم الإيرانية حميد زادبوم، إلى القول بأن الحكومة العراقية لم تفرض رسومًا تمييزية على واردات السلع الإيرانية، وأضاف زادبوم في حديث نشرته وكالة الأنباء الإيرانية في 14 من نوفمبر 2019 “الحكومة العراقية لم تفرض أي رسوم تمييزية ضد التجارة والسلع الإيرانية، إذ إن القيود على واردات السلع إلى العراق، لا تشمل إيران فقط بل هي قيود عامة”.
وفي هذا الإطار يمكن القول إن أحد الأسباب الرئيسة في انطلاق شرارة التظاهرات في إيران اليوم، هو ما قام به المتظاهرون في مدينة البصرة الأيام القليلة الماضية، عندما عرقلوا عمل ميناء أم قصر وميناء المقلع وميناء أبو فلوس الذي يعمل خارج سلطة الدولة منذ عام 2014، وكان يستخدم منذ فترة طويلة في عمليات تهريب النفط الإيراني للتحايل على العقوبات النفطية المفروضة على إيران، فعملية عرقلة سير عمل هذه الموانئ جاءت لقطع شريان اقتصادي يغذي إيران اقتصاديًا، فـ50 يومًا من التظاهرات في العراق، أدت إلى إجبار السلطات في إيران على رفع أسعار المحروقات بنسبة تزيد على 50%، فماذا لو استمرت التظاهرات للفترة ذاتها لنتخيل ماذا سيحصل.
ماذا ينتظر إيران الثورة؟
إن إنهاء النفوذ الإيراني هو المستهدف الرئيس من المظاهرات التي تشهدها بغداد وباقي المدن العراقية في الوقت الراهن، بعد سكون الساحة اللبنانية قليلًا، وهو ما دفع إيران إلى رمي كل ثقلها من أجل احتواء هذه المظاهرات، مما يعكس طبيعة المخاوف الإيرانية من أن تؤدي هذه المظاهرات إلى تداعيات سلبية على مجمل المشروع الإقليمي الإيراني، أو أن تشكل عنصر قوة للتصعيد الشعبي الذي تشهده الساحة الداخلية الإيرانية المنتفضة، خصوصًا أنها تحدث في بلد يعد من ركائز النفوذ الإستراتيجي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، فإلى جانب الاستحقاقات الإقليمية التي يمكن أن تنتظر النفوذ الإيراني في المنطقة، يبرز استحقاق آخر وهو مستقبل محور المقاومة الذي تقوده إيران، إذ عبر العديد من المسؤولين في الحرس الثوري الإيراني بأن إيران ستقف بوجه أي تظاهرات قد تشكل خطرًا على مستقبل مشروع المقاومة في المنطقة، وهو تصريح يعكس مدى الانغماس الإيراني الأمني في هذه التظاهرات، فليس من الممكن تجاوز إيران من معادلة تغير الطبقة السياسية في العراق، كونها لعبت دورًا كبيرًا في تهيئة جزء منها، وهو ما يجعل هذه المظاهرات تحمل الكثير من التحديات التي من الممكن أن تكون بانتظارها.
ويأتي تصريح مستشار الرئيس الإيراني حسام الدين آشنا بقوله: “الانتهازيون في الداخل والخارج ارتكبوا خطأ إستراتيجيًا مرة أخرى”، مؤكدًا “إيران ليست العراق ولا لبنان والسفارة الأمريكية أغلقت منذ سنوات”، مشيرًا “إننا لن نسمح للإعلام المأجور بأن يحدد مصيرنا”، في استشعار إيراني على ما يبدو لحجم التحديات الكبرى التي بدأ يعيشها النظام السياسي في إيران، فهو يدرك تمامًا أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تترك فرصة واحدة لهذا النظام للتحرك بحرية، كما أن روسيا الحليف الإستراتيجي لها بدأت تدير بوصلتها الاقتصادية نحو العراق، هو ما كشفته زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الشهر الماضي لبغداد، كما أن الأزمة الخليجية بدت مهيأة للانفراج بعد نجاح المبادرة الكويتية في ترطيب الأجواء السياسية المشحونة بين أطراف الأزمة، ما يعني أن إيران اليوم أمام اختبارات صعبة، قد تضعها في حسابات ضيقة ستنعكس سلبًا على مشروعها السياسي والإستراتيجي في الشرق الأوسط.