هل يحمينا الفن من بؤس العالم وبؤس الوطن أم أن الأمر برمته لا يعدو أن يكون مجرد تسريبات لمعركة تدور رحاها داخل النفس البشرية؟ هل يستحق العالم الكتابات الأدبية والأفلام السينمائية أم أن الواقع ووطأته أكبر من أن يداويه الفن الذي يعد سلوان العالم أمام رداءة الحياة ووحشتيها وصلابتها؟ كل تلك الأسئلة يجب أن تدور في ذهنك وأنت تشاهد أفلام المخرج السويسري من أصل عراقي سمير جمال الدين الذي كرس أغلب أعماله للحديث عن الإرث العراقي الباهظ الذي يلاحق أبناءه أينما حلوا وارتحلوا، فبعد مجموعة من أفلامه الوثائقية مثل “أنس بغداد” و”أوديسا عراقية” يذهب المخرج العراقي إلى نقطة أبعد قليلًا عبر فيلمه “بغداد في خيالي”.
عُرض فيلم “بغداد في خيالي” للمرة الأولى في أغسطس 2019 بمهرجان لوكارنو السينمائي الدولي في سويسرا ضمن المسابقة الرسمية وفاز بجائزة النقاد، كما عُرض أيضًا في مهرجان زيوريخ السويسري وخرج بجائزة أفضل فيلم. شارك في بطولة العمل كل من الفنان هيثم عبد الرازق والممثلة زهراء غندور وعواطف نعيم وعلي دعيم.
قصة الفيلم: حكاية العراقيين خارج وطنهم
للوهلة الأولى يبدو للمشاهد أن الفيلم يحكي عن المهاجرين العراقيين ولكن ذلك يبدو تبسيطًا شديدًا وتسطيحًا لموضوع الفيلم، فالعمل أراد مراقبة المشهد العراقي من الخارج وتوثيقه بمصداقية حتى لا تضيع الحقيقة وتتوه التفاصيل وتُسرق الأحلام، فقضية العراق بمجراها الحاليّ ليست قضية مهاجرين اختبروا الأسى والمعاناة والألم بعد مغادرة أوطانهم إما لسبب قاهر أو لآخر ولكنها قضية وطن يتعرض بشكل ممنهج للسرقة والانهيار، قصة وطن يُطمس تاريخه ولا بد أن يخوض معارك كبيرة لاسترداد نفسه وإلا فالخسارة حينها لن تكون خسارة إنسان أو مجموعة مهاجرين ولكن ستكون خسارة أمة وشعب وحضارة وتاريخ.
لغة الخطاب في الفيلم جمعت بين العربية والإنجليزية، فأبطال الفيلم يمزجون بين اللغتين حتى في حالة عدم وجود غرباء وذلك بسبب اضطراب سعيهم نحو الاندماج التام بالحياة في أوروبا
تدور معظم أحداث الفيلم داخل مقهى أبو نواس في مدينة لندن حيث يجتمع أبناء الجالية العراقية الذين تركوا وطنهم فرارًا من الضياع، فهناك شخصية توفيق الشيوعي الذي يكتب الشعر ويتابع أخبار العراق أولًا بأول على الفضائيات، وهناك زكي الكردي صاحب المقهى، أما شخصية أمل التي جسدتها زهراء غندور فنكتشف مع توالي أحداث الفيلم أنها لم تكتف بترك العراق والإقامة في لندن ولكنها أيضًا غيرت اسمها وديانتها.
لغة الخطاب في الفيلم جمعت بين العربية والإنجليزية، فأبطال الفيلم يمزجون بين اللغتين حتى في حالة عدم وجود غرباء وذلك بسبب اضطراب سعيهم نحو الاندماج التام بالحياة في أوروبا، ولكن أبطال العمل يتفاجأون بعودة ماضيهم متسللًا من خلال الرجل الواشي الذي كان يعمل مخبرًا وجاسوسًا لدى النظام العراقي، وقد أبدت الجالية العراقية، جالية مقهى أبو نواس هشاشةً وضعفًا في مواجهة هذا المتسلل، حيث نجح بكل حنكة وذكاء في تحريض جميع الشخصيات ضد بعضهم البعض لنرى في نهاية الفيلم مشهد احتراق المقهى.
مقهى أبو نواس.. الوطن العراقي المصغر
تأتي فكرة المقهى في الفيلم كمحاولة أخيرة للهروب من الماضي، فبين جدرانه الأربع تتكثف الحكايات لتكشف خيبات أمل متراكمة وأحلام مؤجلة ورغبات معلقة، وقد جسد مقهى أبو نواس وطنًا مصغرًا للجالية العراقية وكانت مهمته تتلخص في تخليص الأبطال من عبء الذاكرة وندوب الماضي، ولكن هذا الوطن المصغر كان من الهشاشة بمكان إذ تبدأ الأحداث في التصاعد والاشتباك فور ظهور الواشي الذي يفرق بين أبناء الوطن، وهنا يتركنا المخرج مع السؤال الرئيسي للفيلم، هل فكاك العراقي من إرث الألم والمعاناة ممكن أم أن النظام سيظل يلاحقهم أينما ذهبوا؟
يتذكر أبطال العمل العراق بطرق مختلفة، فتوفيق الشيوعي على سبيل المثال يستعيد العراق من خلال التعذيب داخل السجون الذي ما زالت آثاره موجودة على جسده، يُضاف إلى ذلك شعوره بالخزي لأنه قبل الخروج من السجن عبر صفقة مشبوهة راح ضحيتها أخوه وخطيبته، أما أمل فيذكرها العراق بالخوف، وبالنسبة لزكي الكردي فذاكرته عن العراق مرتبطة بأهوال ما حدث مع الأكراد، وفي المقهى يتذكر الأبطال صورة العراق المعاصر أو ما تبقى من حطامه بعد عقود الديكتاتوريات الجمهورية وصولًا إلى الغزو الأمريكي عام 2003 والحقبة التاريخية التالية لذلك.
الفيلم ببنيته السينمائية وأحداثه ومضمونه مأخوذًا بشدة بفكرة رمي الأسئلة في وجه المشاهد، فطوال الأحداث نجد أنفسنا أمام أسئلة عصية على الإجابة: ما طبيعة العلاقة بين الإنسان والمكان الأول؟ كيف نواجه انهيار مقومات العيش داخل أوطاننا؟ وهل الخروج من الوطن يعد ملاذًا آمنًا أم أن الأمر برمته محض خيال؟ يبعثر سمير جمال الدين تلك الأسئلة داخل الفيلم ويتركها معلقة في الهواء مثل شخصيات العمل التي ظلت عالقة في المساحة الفاصلة بين سرديات الماضي بآلامه الكثيرة والحاضر بإثارته المستمرة للحيرة المفرطة.
تتجسد تلك الحيرة المفرطة في محاولات الأبطال المستمرة لصنع فضاء إنساني جديد مفتوح على الآخر بكل حرية، ولكنهم على الرغم من كل المحاولات التي تكشف عن ذوات متعبة ومرهقة يصلون في نهاية الأمر إلى نتيجة مفادها أنهم فقدوا اتصالهم مع ذواتهم ولهذا فعليهم الآن دفع ثمن انهيار وغياب سلامهم الداخلي، ففي نهاية الفيلم ندرك جيدًا أن المعاناة التي خلفها العراق في أبنائه ليست نتاج حدث راهن في مكان بعينه ولكنها تحولت بمرور الزمن إلى إرث ونمط حياة يرافق الشخص أينما حل.
https://www.youtube.com/watch?v=vRrf-cwTkT4
المصور والمؤلف والمخرج سمير جمال الدين ولد في مدينة بغداد عام 1955 ثم هاجر مع أسرته إلى سويسرا ودرس الفنون في جامعة زيورخ وذلك قبل أن يبدأ العمل الفني عام 1980، في تسعينيات القرن الماضي ترأس جمال الدين شركة سويسرية أنتج من خلالها العديد من الأفلام الوثائقية مثل “أنس بغداد” و”أوديسيا عراقية”، ومن خلال أغلب أعمال المخرج سمير جمال الدين ندرك أنه ما زال عالقًا في المأزق ذاته، وهو الإرث الوطني السياسي والاجتماعي الذي يحمله معه العراقي وسط الحطام الواسع الذي على الرغم من ثقله، فإن له تأثيرًا جماليًا على شخصياته، ولهذا يمكن القول إن المخرج سمير جمال الدين أخذ على عاتقه دومًا وباستخدام عدسة السينما التقاط صورة الحطام العراقي الجميل.