سجال أقرب للمشادة، وقع بين عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، والأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله، بعد زعم الأخير أن دول الخليج أصبحت تتحمل دون غيرها، مسؤولية الأمن القومي العربي في غياب الدول الكبرى بالمنطقة، وحدد بالاسم مصر والعراق وسوريا، ليفجر هذا النقاش عدة أسئلة تجسد خصوصية اللحظة، فمن يحمي من؟ وهل بالفعل الخليج هو الذي يحمى الآن البلدان العربية؟!
استعراض زائف للقوة
في جلسة بعنوان “منطقة الخليج.. القدرات والاحتمالات” ضمن ملتقى أبو ظبي الإستراتيجي السادس، وفي حديث يحمل الكثير من التعالي وعدم الموضوعية، زعم الإماراتي الدكتور عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية، أن دول الخليج العربي مكتملة ـ لم يشطب قطر ـ هي القوة المؤهلة لقيادة هذه المنطقة.
بحسب عبد الله، دول الخليج هي التي تتولى الآن مسؤولية الأمن القومي، نيابة عن 16 دولة عربية، وصفها بأنها في حالة يرثى لها، وخاصة بعد التراجع المصري والعراقي والسوري، ومن هنا فالقرن الـ21 وعلى الأقل في نصفه الأول، هو قرن خليجي ومركز الثقل العربي الجديد، بكل معايير القوة ومصادر النفوذ، وبالتالي، فلا يحق وـ الحديث لا يزال لعبد الله ـ ولا يجب على كائن من كان أن يستكثر على الخليج اللجوء أحيانًا إلى قوى خارجية كما تلجأ أوروبا وكوريا واليابان، ليستعين بها، على نقاط ضعفهم لمواجهة التحديات الأمنية العربية.
حديث الوصاية العجيب للأكاديمي الإماراتي، لم يحتمل الكثير من الوقت، ليجد الرد المناسب عليه في نفس الزمان والمكان، خاصة في وجود شخصية بحجم عمرو موسى له خبرته الطويلة ومسؤولياته التي تقلدها على مدار حياته، وتجعله على علم ودراية وفهم موضوعي لطبائع الأشياء، ومنها قوة البلدان العربية التي استهان بها عبد الخالق.
قال موسى، إن حديث عبد الخالق، بعيد كل البُعد عن التحليل الواقعي، ويصل إلى حد الخطورة، فمثل هذه التحليلات قد تثير النعرات القومية وستؤدي دون شك إلى اضطرابات كبيرة، بما قد يقوض الأمن القومي العربي بالفعل، فضلاً عن أنها ليست صحيحة، إذا نظرنا إلى الدور الخليجي في المنطقة، بعيدًا عن قوة المال، ودعا عمرو موسى الأكاديمي الإماراتي لقراءة إعلان دمشق المبرم عام 1991 الذي يصلح كوثيقة للتأسيس عليها، لمعرفة ما حدود الأمن القومي العربي.
من عبد الخالق عبد الله؟
حديث أستاذ العلوم السياسية الإماراتي يدعونا أولًا للبحث في خلفيات الرجل، قبل الدخول في تفاصيل الأمن القومي العربي، ولماذا الفهم الخليجي دائمًا لهذا المفهوم “قاصر” ولا يتعدى حدود التسليح والأمن، ولن تستغرق كثيرًا، لمعرفة من هو، ولماذا يراهن على قدرته في اللعب على حبال الكلمات، لتمرير أفكاره البراجماتية حتى التطرف، وفي تسويغه للمفاهيم الخليجية للأمن القومي العربي.
عبد الخالق من أقرب المستشارين للشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، وربما هذا التقارب يجعل شطحات أستاذ السياسة “قومي النزعة” كثيرًا ما تخونه وتخرج بعيدًا عن مرمى الهدف والسياق الذي يرغب من خلاله، التفخيم في الذات الخليجية والقائمين على شؤون الحكم فيها.
وسبق للسلطات الإماراتية اعتقاله، بحسب تأكيدات منظمة العفو الدولية، قبل عامين، على خلفية تغريدات له على حسابه في “تويتر”، تسببت في إغضاب القيادة السياسية المصرية، بعدما نقل عن صناع قرار خليجيين، قولهم في غرف مغلقة، إن مصر أصبحت عبئًا عليهم، وإنها لم تستجب كليًا لمطالبهم بإصلاحات اقتصادية جذرية.
https://twitter.com/Abdulkhaleq_UAE/status/812725972386672640
معارك عبد الخالق الكثيرة، ليست فقط مع البلدان العربية الكبرى، بل وحتى الخليجية ـ التي لا تدور في فلك منطقه السياسي ـ لذلك فافتكاساته الموجهة دائمًا ليست سياسية فقط، حيث سبق له تقمص دور الناقد الأدبي لهدم رواية الأديبة العُمانية جوخة الحارثية “سيدات القمر” الفائزة بجائزة مان بوكر العالمية للعام 2019، ووصفها بـ”البايخة” وهو ما عرضه لانتقادات قاسية للإفتاء بما ليس له به علم.
https://twitter.com/Abdulkhaleq_UAE/status/1145755686485319680
بالعودة للسياسة، لا يمكن القول إن أزمة الأكاديمي الإماراتي النفسية مقتصرة على مصر فقط، بل سبق له الدخول في سجالات أقرب للاستنطاع السياسي مع صائب عريقات، بسبب اعتراض الأخير على ترويج عبد الخالق لما يسمى بصفقة القرن، بطريقة تجعله وكأنه حامل رسائل من السلطة الإماراتية، وهو المعبر الرسمي عنها.
والتطبيع في قاموس الأكاديمي الإماراتي، ليس له ثمن أخلاقي أو سياسي، ولا يساوي في نظره إلا قيمته المالية، من استثمارات بالضفة الغربية وغزة، ومساعدات لكل من مصر والأردن ولبنان، حال القبول بالصفقة التي ترتكز على مبدأ إزالة الحدود بين “إسرائيل” وفلسطيين، وفق ما أسماها “حقائق ومعطيات 2019”.
https://twitter.com/Abdulkhaleq_UAE/status/1101023746461233152
الصيغة الترويجية لأفكار ومعطيات 2019، للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، على لسان أستاذ العلوم السياسية المزعوم، ربما تجعل المنطق يسخر من عبث اللحظة، فإن كان ـ وهو في عز قوته ـ كما يدعي، لا يعرف حلاً لأزمات الأمن القومي العربي في أهم قضية يمكن أن يجتمع عليها العرب، إلا الانحياز التام للرؤية الإسرائيلية الجديدة للمنطقة، عن أي أمن قومي يتحدث، وأي قوة التي يملكها، التي تدون مواقفه الحاليّة بأرشيف المستقبل، سياسيًا وإخلاقيًا وإنسانيًا، وبالتأكيد لن نقول عسكريًا، بالمقارنة مع مصر والعراق وسوريا، وهي الدول التي حددها بالاسم، ليبقى في ذاكرة التاريخ، كما دونت هذه البلدان من مواقفها ودماء أبنائها.
ربما كان القدر رحيمًا بالقضية الفلسطينية، ليضع الأكاديمي الإماراتي، وجهًا لوجه مع عمرو موسى، حتى يقضي على غطرسته المفتعلة بكل حسم وقوة، لعله يسترجع تاريخ موسى وحده ويعرف كيف تكون السياسة والمواجهات السياسية أمام مرأى ومسمع العالم بأكمله.
حدود الأمن العربي التي لا يعرفها الخليج
مفهوم الأمن القومي العربي، دائمًا محل تعقيد شديد، كما هو كل شيء في المنطقة العربية، فرغم استخدامه بشكل مكثف في الخطابات السياسية وعلى المنصات الخطابية، على شاكلة ـ ملتقى أبو ظبي الإستراتيجي السادس ـ الذي أفحمنا فيه الأكاديمي الإماراتي بتعريفات جديدة، فإننا لم نعرف يومًا، وخاصة في الفترة الحاليّة، التي يدعي فيها حماية الخليج، للأمن القومي العربي منفردًا، محاولات جادة لتحديد جذور وأبعاد المصطلح والمصطلحات المتداخلة معه.
يعود ظهور مفهوم الأمن القومي إلى معاهدة ويستفاليا عام 1648 التي أرست نظامًا جديدًا في أوروبا الوسطى، على أساس سيادة الدول، وكان من أهم مبادئها الولاء القومي الذي رسخ الملكيات القومية في أوروبا، واستمر على ذلك حتى عام 1947، ومع تأسيس الولايات المتحدة مجلس الأمن القومي الأمريكي وتنظيم السلوك الخارجي للبلاد وفقًا لهذا المفهوم، تبنته معظم دول العالم، حسب ظروفها الخاصة ووفق مصالحها.
فكرة القومية تسللت إلى العرب من أوروبا، في بدايات القرن الـ20 ومع الإصلاحات الثقافية والتعليمية، برزت نخب مثقفه، تأثرت بشدة بالفكر الأوروبي الحديث
والأمن وفق أبسط تعريفاته هو أحد الاحتياجات الرئيسية للإنسان، بجانب المسكن والملبس والمشرب، بل ويتفوق على هذه الحقوق، باعتباره من أهم الضروريات، وما ينطبق على الفرد هنا، يصلح بالضرورة للأمم والشعوب المختلفة، خاصة مع تطور المفهوم ليواكب تطورات المجتمعات عبر التاريخ الإنساني، وصولاً إلى عصرنا الحاليّ.
فكرة القومية تسللت إلى العرب من أوروبا، في بدايات القرن الـ20 ومع الإصلاحات الثقافية والتعليمية، برزت نخب مثقفه، تأثرت بشدة بالفكر الأوروبي الحديث، في كيفية إدارة الدول، وشكلت جمعيات قومية سرية، حاولت نشر الفكر القومي، بالولايات العربية العثمانية، للمطالبة بالاعتراف بالقومية العربية، في إطار الدولة العثمانية.
انتشرت الأفكار القومية سريعًا، وكانت شروح عبد الرحمن الكواكبي، وهو من رواد النهضة العربية ومفكريها، في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي وصاحب كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” أشهر الكتب العربية التي ناقشت ظاهرة الاستبداد السياسي، تؤكد على أن العرب أمة واحدة لها ثقافتها وتاريخها.
وبعيدًا عن الاستطراد في الحديث عن تاريخ قضية الأمن العربي التي تحتاج إلى مجلدات، لتناول إشكالياتها وتقعيداتها، لا يمكن القول إن مصالح 22 دولة عربية، تجمعها سلة واحدة، بل إن جامعة الدول العربية نفسها، أكثر ما يعبر عن استقلالية كل دولة بمصالحها، ولم يُعرف من قرارات الجامعة على مدار تاريخها، إلا المحاولات اليائسة غالبًا، للتنسيق بين السياسات العربية المختلفة والمتعارضة والمتناقضة دائمًا.
هذا الصراع وتضارب المصالح، جعل البلدان العربية تلجأ لإعادة إنتاج منظمات إقليمية، تمثل مصالح متجانسة، على شاكلة مجلس التعاون الخليجي الذي حيد مصالح وأمن دول الخليج، عن ما يسمى بالأمن القومي العربي، وكذلك بلدان المغرب العربي الذين أسسوا الاتحاد المغاربي، لحسم خلافاتهم الحدودية، للابتعاد عن ابتزاز بعض بلدان المنطقة وانحيازاتهم لدول على حساب غيرها.
هذه القوة المزعومة التي لا تصدق مكانتها الجديدة، جعلت نعرات القومية ترتفع حدتها عند بعض الأطراف المحسوبة على السلطة، على شاكلة عبد الخالق عبد الله
مصالح الخليج وليس كل العرب، هي التي أوصلت اليمن الآن حد تفتيت الدولة والانفصال إلى شمال وجنوب، وخلقت أزمات إنسانية يتبرأ من دعمها العالم بأكمله، وفقًا لحسابات مذهبية عفا عليها الزمن، دون أدنى مكسب سياسي أو إستراتيجي أو حتى عسكري في المقابل على الأرض، ونفس المواقف بأشكال وآليات أخرى، تكررت في بلدان عربية أخرى، وخاصة بعد ثورات الربيع العربي الذي كان أحد أهم أسباب تحوله عن مساره والإيقاع به في شباك التنظيمات الإرهابية المتطرفة، التدخلات الإقليمية والخليجية على وجه الخصوص.
هذه القوة المزعومة التي لا تصدق مكانتها الجديدة، جعلت نعرات القومية ترتفع حدتها عند بعض الأطراف المحسوبة على السلطة على شاكلة عبد الخالق عبد الله الذي تملك منه الغرور بدرجة غير مسبوقة، فكاد يدخل بلاده في أزمة سياسة مع أقوى حليف تاريخي لها “السعودية”، حيث اعتبر الإمارات وليس المملكة، الرمز الدولي الأهم بالمنطقة، بعدما نجحت في فرض سياساتها وأجبرت المملكة على مهادنتها والرضوخ لتوجهاتها في كيفية إدارة الأزمة اليمنية.
القدرات العسكرية المتطورة للخليج حاليًّا، التي يستند عليها أستاذ العلوم السياسية الإماراتي في استعراض عضلاته، لا تنفي حتى هذه اللحظة، أنه لا توجد دولة خليجية قادرة على الحفاظ على توازن عسكري مع الدول الإقليمية الكبرى، لا يوجد حاليًّا في المنطقة من يملك هذه القدرات إلا مصر التي يحتل جيشها، الترتيب الثاني عشر عالميًا، ويتصدر تصنيف دول الشرق الأوسط وإفريقيا، وفقًا لموقع Global fire.
وتحتل الجزائر الترتيب الثاني عربيًا، والمركز الثالث والعشرين عالميًا، وتليها السعودية في المركز السادس والعشرين عالميًا، بينما تحتل باقي الدول العربية مراكز متأخرة في التصنيف بما فيها الإمارات، وبالتالي تفضيل أقوى قوتين عسكريتين عربيتين في الوقت الحاليّ، عدم الزج بقواتهما المسلحة في صراعات إقليمية والانشغال بحماية الأمن القومي الخاص بهما، لا يعني مطلقًا أن البلدان الخليجية أصبحت الحامي للعرب، إلا لو اعتمدنا مبدأ الاستعراض دون منطق، حينها فقط، سيصبح ما يتوهمه عبد الخالق، منطقيًا ومعقولًا!