ترجمة وتحرير نون بوست
كتب ماثيو رادبورن وكليفورد ستوت
يبدو أن هذا الأمر قد يحدث في أي مكان وأي وقت، فمن لندن وحتى هونغ كونغ قد تندلع الاضطرابات فجأة في المدن المسالمة وعلى نطاق واسع وربما لفترة طويلة، لكن ما الدور الذي يلعبه علم النفس في ذلك؟ وهل يمكنه أن يفسر كيف ولماذا ومتى تتجه الجموع إلى العنف؟
يحكي لنا فيلم “الجوكر” قصة تحول المريض النفسي آرثر فليك إلى ممثل كوميدي شرير وفاشل وكيف يلهم ثورة شعبية مشاغبة، في الفيلم يبدو الوضع مهيأ تمامًا للشغب، فمدينة جوثام عبارة عن كتلة من الفوضى وعدم المساواة والفساد واليأس الكامل.
لكن هل تحتج الجموع لهذا السبب؟ أو هل تتصرف مثل الغوغاء الطائشين؟ يرى المعلق التليفزيوني أديتيا فاتس أن الفيلم يعكس آراء فيلسوف القرن الـ17 توماس هوبز الذي قال إن المجتمع لديه دافع تجاه الفوضى والدمار.
في الفيلم يظهر فليك كشخص يطلق العنان للنزعات الفطرية للبشر عندما يقتل 3 مصرفيين شباب أغنياء ثم يقتل مقدم برامج على الهواء، بعد ذلك يرتدي آلاف المشاغبين قناع المهرجين ويقومون بأعمال شغب ونهب وقتل، ويبدو أنهم استلهموا ذلك من أفعال فليك.
إنه تمثيل بسيط وشائع للجماهير العنيفة في العالم الحقيقي، لكن هل يعكس ذلك بدقة تفسير علم النفس الحقيقي للسلوك المشاغب؟ هناك 3 تفسيرات نظرية كلاسيكية للجماهير التي تدور في الخيال الشعبي: الأولى نظرية “الحشد المجنون” التي تقول إن الافراد يفقدون إحساسهم بذاتهم وعقلانيتهم وسط الجموع، ويفعلون أشياء لا يفعلونها عادة كأفراد.
أما الثانية فهي نظرية “العنف الجمعي” الذي ينتج من التقاء أفراد سيئين أو مجرمين لتهيئة ميولهم العنيفة الشخصية معًا في نفس المكان، أما النظرية الثالثة في مزيج من الأولى والثانية التي تظهر في سردية الجوكر وهي أن “الشرير يقود المجنون”، يقول كتاب “Mad Mobs and Englishmen” إن الأشرار وعديمي الضمير – وعادة ما يكونون من الغرباء أو الأعداء – يستفيدون من سذاجة المجموعة لاستخدامهم كأداة للدمار.
ما الذي يحدث حقًا؟
رغم تكرار تلك التفسيرات كثيرًا في وسائل الإعلام، فإنها لا تفسر ما يحدث بالفعل في أثناء الشغب، هذا النقص التفسيري يعني أن علم النفس الاجتماعي المعاصر يرفض تلك التفسيرات الكلاسيكية لأنها غير كافية وخطيرة، كما أنها فشلت في تفسير العوامل التي تدفع لتلك المواجهة.
في الواقع، عندما يمارس الناس الشغب فإن سلوكهم الجمعي لا يكون طائشًا أبدًا، قد يكون إجراميًا لكنه متماسك ومنظم وله معنى وقصد واعٍ، ولمعالجة أسباب هذا العنف يجب أن نفهمه أولًا.
على عكس التوقعات، هناك بالفعل حدود وقيود مهمة تتعلق بـ”ما الذي يحدث” و”ما ومن يصبح مؤثرًا، تقول الأبحاث ونظريات الجماهير الحديثة إن الحدود السلوكية لأفعال الجماهير ترتبط بالطرق المهمة لقيود الهوية الاجتماعية.
عند النظر إلى تحليل ستيف ريتشر لأعمال شغب سانت بول في بريستول بإنجلترا، يرى ريتشر أن أفعال الجموع يقودها إحساس جماعي مشترك للأفراد بالهوية الاجتماعية كأعضاء في مجتمع سانت بول، هذه الهوية يعرّفها جزئيًا معارضة موحدة ضد الشرطة (المعتدين) الذين يظهرون كمهاجمين للمجتمع من خلال هجومهم على مقهى “بلاك آند وايت” الذي يعد مركزًا محليًا مهمًا.
الأشخاص في الفوضى يتصرفون وفقًا لهوياتهم الاجتماعية المفترضة ولا يتصرفون برعونة وكأنهم يخضعون لعقل جمعي غير منطقي
يُظهر ريتشر كيف تضع هذه الهوية الجمعية قيود مهمة على ما يحدث في أثناء الشغب وأين يحدث، في البداية، هناك قيود واضحة على المؤسسات التي تشكل هدفًا مشروعًا حيث يتم مهاجمة المخالفين لهوية سانت بول (الشرطة غالبًا)، وهناك حدود جغرافية محددة فالشرطة تتعرض للهجوم فقط في أثناء وجودها داخل حدود سانت بول ويتوقف الهجوم بمجرد رحيلها.
العدوى السلوكية
توضح دراسة سانت بول أن الأشخاص في الفوضى يتصرفون وفقًا لهوياتهم الاجتماعية المفترضة ولا يتصرفون برعونة وكأنهم يخضعون لعقل جمعي غير منطقي، فعلى سبيل المثال، وصف الجموع إلقاء الحجارة على ضباط الشرطة كأنه فعل طبيعي وشائع، فقد رموا ببعض الحجارة ثم أغلق الناس الطريق وبدأ الجميع في القيام بذلك، كانت هناك هجمات أخرى منعزلة وفردية تم استنكارها على نطاق واسع، فعندما تحطم زجاج حافلة بعد إلقاء حجارة عليه هتف الجميع “أغبياء”.
لكن لماذا تنتشر تصرفات الأفراد العنيفة بشكل كبير وتؤثر على الآخرين وتحرضهم على الشغب؟
تقول نظريات الجماهير الكلاسيكية – مثل سردية الجوكر – إنه بمجرد التعرض لسلوك الآخرين فإن المراقبين لذلك السلوك يتصرفون مثله تمامًا، وفقًا لهذه الطريقة في التفكير فإن السلوك يتنشر من خلال عملية “عدوى” وينتقل بشكل تلقائي من شخص إلى آخر، هذا يعني أن مشاهدة الجوكر وهو يقتل أحدهم على الهواء مباشرة قد يفسر لماذا اتجه الآخرون للعنف في شوارع جوثام.
لكن مفهوم العدوى السلوكية لا يمكنه أن يفسر بدقة الأنماط والحدود الواضحة للسلوك الذي ينتشر والذي لا ينتشر، فعلى سبيل المثال، لماذا اجتاحت أعمال الشغب في إنجلترا عام 2011 – التي أعقبت إطلاق الشرطة النار على مارك دوغان – لندن وبعض المدن ولم تنتشر في الأخرى؟
ترتبط الإجابة بكيفية وضع الناس قواعد المجموعة (فالناس يتأثرون بشكل أكبر بزملائهم داخل المجموعة عن خارجها) وإلى أي مدى تتماشى تلك التصرفات مع قواعد المجموعة السائدة، عند انتشار الشغب في إنجلترا في أغسطس 2011 قال الباحثون إن الأشخاص المعروفين بمعاداتهم للشرطة انتشروا في الشوارع وتم تمكينهم لاحقًا من خلال تفاعلات محلية مع السلطات ومع بعضهم البعض، لم تكن أهدافهم اللاحقة عشوائية لكنها كانت تركز على الشرطة ورموز الثروة ومنافد بيع التجزئة اللمملوكة للشركات الكبرى.
في ضوء ذلك، فإن أفعال الجوكر لم تُستلهم من المدينة الفاسدة لتوماس هوبز “Hobbesian dystopia” لكن يمكن فهمها بشكل أفضل كحركة شغب عفوية مضادة للثروة ظهرت نتيجة الظلم وعدم المساواة، ووفقًا للأبحاث المتعلقة بالشغب في فروع العلم الأخرى مثل علم النفس الاجتماعي والتاريخ وعلم الإجرام، فإن انتشار الاضطرابات اللاحقة كان بعيدًا تمامًا عن العشوائية.
في مدينة جوثام كان الأشخاص “المعادون للثروة” فقط هم من يخضعون لتأثير الجموع في أثناء الشغب، وهذه الأفعال المتوافقة مع الهوية (مهاجمة رموز الثروة) هي فقط المقبولة لدى جنود الجوكر، ومع تطور الشغب فإن عدم تمكين السلطات الظاهر في منطقة واحدة سيؤدي إلى قيام المعادين للثروة في المناطق الأخرى من المدينة بالاحتشاد في الشوارع وتحدي عدوهم المشترك.
بالطبع فالجوكر لا يوجد في الحياة الحقيقية لكن سرده للعنف العشوائي وعدوى العنف شائع كإحدى تفسيرات الحياة الحقيقية، وخلف المشهد مع قراءة أقرب لأعمال الشغب يمكن لعلم النفس الاجتماعي أن يساعد في كسر خرافة الغوغاء غير العقلانيين ويبدأ في تفسير كيف يمكن للمدينة الخيالية – وعدد لا نهائي من المدن الحقيقية – التحول من الهدوء إلى حشود عنيفة واسعة النطاق.
المصدر: ذي كونفرسايشن