رغم أجواء التفاؤل التي سعى البعض لفرضها على المشهد الاقتصادي السعودي في أعقاب انعقاد “مبادرة مستقبل الاستثمار 2019” والمسماة إعلاميًا بمؤتمر “دافوس الصحراء” الذي أقيم بالعاصمة الرياض في الفترة من 27-31 من أكتوبر الماضي، فإن المخاوف لا تزال تساور الكثيرين، سعوديين ومستثمرين أجانب، وهو ما يتوقع أن يلقي بظلاله على رؤية المملكة 2030.
النسخة الثالثة من المؤتمر الذي يهدف إلى إبراز المملكة كوجهة استثمار ديناميكية، بمشاركة رؤساء أكبر المصارف العالمية وشركات إدارة الأصول وصناديق استثمار عالمية، جاءت وسط أمواج متناقضة تتعرض لها البلاد بفعل المستجدات الإقليمية والدولية بجانب التطورات المحلية، التي تدفع الجميع لإعادة قراءة المشهد بصورة أخرى.
وبعد إسدال الستار على هذا الحدث بات من الواضح أن النسبة الأكبر من المستثمرين لا يزالون عاكفون على دراسة إيجابيات وسلبيات ضخ أموالهم في سوق غير مضمون العوائد، هذا في الوقت الذي يعانون فيه من قلق جراء المخاطر الجيوسياسية الكبرى، مثل إمكانية الحرب مع إيران، فضلاً عن الهجوم الدولي ضد المملكة بسبب ملفات سياسية وحقوقية، بجانب السياسات الداخلية التي يدير بها ولي العهد مقاليد الأمور وهو ما يجعل رؤيته التي يعقد عليها آماله في خلافة والده على المحك.
عقبات جيوسياسية
العقبة الأولى أمام تهديد رؤية ولي العهد التي تبدو بشكل واضح أنّها أداة وُضعت من أجل تحويل المملكة إلى شريك أكثر انفتاحًا وتسامحًا اجتماعيًا في الشرق الأوسط لأمريكا، أكثر من كونها أداةً لتعزيز الاقتصاد السعودي وفكِّه عن التبعية النفطية وضمان رفاهية الأجيال المستقبلية، تتمحور حول احتمالية الحرب مع إيران.
حيث بلغت التوترات أعلى مستوياتها على الإطلاق، وأظهرت طهران أنها مستعدة لمضايقة ناقلات النفط بالقرب من المملكة، والأهم من ذلك ضرب البنية التحتية للنفط داخل السعودية نفسها، هذا في الوقت الذي ارتأت فيه الرياض لنفسها عدم الرد الذي قد يشعل نطاق الصراع، وهو ما تتجنبه المملكة حاليًّا.
وفي السياق ذاته، لا تزال احتمالية توجيه ضربة عسكرية أمريكية ضد إيران واردة، حتى إن كانت بنسب ضئيلة، وذلك لعدة أسباب ربما تقليل طهران التزاماتها تجاه تخصيب اليورانيوم أو تهديدها لأمن “إسرائيل”، وفي هذه الحالة ربما تشتعل المنطقة بأسرها وهو ما يجعل تطبيق رؤية السعودية القريبة من ساحة هذا الصراع مخاطرة وفق مخيلة الكثيرين.
رغم تبريد الأزمة خلال العام الماضي ذهبت بعض الشركات إلى حد الانسحاب من صناديق الاستثمار السعودية، بينما انتظرت شركات أخرى لمعرفة ما إذا كان الغضب السياسي في الولايات المتحدة سيترجم إلى خطوات عقابية أم لا
الاستثمارات الأجنبية.. إلى أين؟
حين عقد المؤتمر في نسخته الثانية نوفمبر 2018 اعتذر الكثير من رجال الأعمال والمصرفيين عن المشاركة في ظل حملة الإدانات الدولية التي تعرضت لها المملكة بسبب مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول أكتوبر من نفس العام.
لكن رغم تبريد الأزمة خلال العام الماضي ذهبت بعض الشركات إلى حد الانسحاب من صناديق الاستثمار السعودية، بينما انتظرت شركات أخرى لمعرفة ما إذا كان الغضب السياسي في الولايات المتحدة سيترجم إلى خطوات عقابية أم لا، خاصة بعدما تركت إدارة الرئيس دونالد ترامب المستثمرين حائرين في تفسير مخاطر التعامل مع المملكة وحدهم.
المخاطرة الأولى تتمحور حول توقيت العملية، فشهر ديسمبر/كانون الأول ليس وقتًا مناسبًا لطرحٍ عام أوليّ
ومع تطور الأحداث قرر البعض سحب أمواله من السعودية، مثل وكالة “إنديفور” للمواهب في هوليوود، التي أعادت 400 مليون دولار من الاستثمارات في السعودية، فيما توقفت شركات كبرى أخرى مثل “أمازون” عن متابعة الصفقات المتفق عليها، وابتعدت إلى حد كبير عن “مبادرة مستقبل الاستثمار” لهذا العام.
ملاحظة أخرى ربما تضع الاستثمارات الأجنبية بالمملكة محل تساؤل، فمعروف أن اهتمام الشركات الأجنبية ينصب حول استثمار الثروة السعودية في عملياتها الخاصة داخل المملكة وليس خارجها، وبالتالي تبقى مخاطرة تلك الشركات برأسمالها في المشاريع السعودية محل شكّ، حيث يخشى المستثمرون الأجانب مواجهة نفس مصير رجال الأعمال السعوديين الذين اُحتجزوا في فندق خمس نجوم تحت حجة الحدّ من الفساد.
عقبات اكتتاب أرامكو
بداية لا بد من الإقرار أن السلطات السعودية تتعامل مع شركة “أرامكو” وهي أكبر شركة نفطية في العالم، على أنها الدجاجة التي تبيض ذهبًا، ومن ثم حين طرح ولي العهد رؤيته التي سعى من خلالها لتقديم أوراق اعتماده للغرب، كان ينظر لعملاق النفط السعودي على أنه الممول الأكبر لتنفيذ خطته.
في مقاله المنشور بمجلة Foreign Policy الأمريكية استعرض الباحث في شؤون منطقة الشرق الأوسط والدراسات الإفريقية في “مجلس العلاقات الخارجية” الأمريكي، ستيفن كوك، المخاطر المحتملة وراء دفع المملكة نحو الاكتتاب في أكبر شركاتها التي تعد مصدر الأمان والطمأنينة لها على مدار السنوات الماضية.
المخاطرة الأولى تتمحور حول توقيت العملية، فشهر ديسمبر/كانون الأول ليس وقتًا مناسبًا لطرحٍ عام أوليّ، فيما تتعلق المخاطرة الثانية – بحسب كوك – بالحسابات التي أجراها المستثمرون الدوليون، فقد خُطِّط أن يكون الاكتتاب العام على مرحلتين: عرض محلي وآخر دولي، ورغم النقاشات التي أخذت تدور بشأن أي بورصة دولية ستُدرج أسهم أرامكو فيها، فإن كثيرًا من المحللين لا يعتقدون حقًا أن ذلك الإدراج سيحدث أبدًا.
إذ استمر تراجع الطلب على النفط بوتيرته المتصاعدة الحاليّة فإن الوضع سيكون صعبًا أمام الرياض
ومن ثم فإنه من المحتمل أن يُسمح للمستثمرين الأجانب بالحصول على جزء فقط من المعروض من خلال سوق الأسهم في السعودية، أي سيجري التعامل معه على أنه ما يُطلق عليه خبراء الاستثمار “عرض ترويجي” لبناء طلب على أسهم الشركة، وفي حال عدم الوصول إلى السعر المأمول سيكون ولي العهد أمام خيارين: المضي قدمًا على أي حال، أو إيقاف العملية برمتها، وكلاهما سيترك الأمير في “هيئة الأحمق” بعد ذلك الترويج والإعداد الطويل لعملية الاكتتاب العام.
فيما ذهبت “بلومبيرغ” في افتتاحيتها في الـ10 من الشهر الحاليّ إلى أن الاضطرابات السياسية وأعمال الإرهاب كالتي وقعت في البقيق منتصف سبتمبر قد “تؤثر ماديًا وسلبيًا” على أرامكو وسعر السوق للأسهم، هذا بخلاف قانون العدالة الأمريكية ضد رعاة الإرهاب، المعروف باسم Jasta، فقد ينسحب من هذا القانون بندًا لمقاضاة أرامكو، على غرار المطالبة المرفوعة مؤخرًا ضد موتيفا.
وأمام هذه المخاطر التي تواجه احتمالية أن تحقق عملية الاكتتاب في أرمكو أهدافها، تحدد الحكومة السعودية حاليًّا طرقًا أخرى لتمويل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المخطَّط لها، وهذا ما ينمّ عن هشاشة التخطيط لهذه الرؤية وإطلاقها قبل أوانها، بحسب كثيرين.
تراجع الطلب على النفط
يعتمد الاقتصاد السعودي في الجزء الأكبر منه على عائدات النفط، حتى إن رؤية 2030 التي طرحها ولي العهد قبل 3 سنوات تهدف وفق ما تم إعلانه إلى تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد كلية على مصدر واحد، الأمر الذي يجعل اقتصاد البلاد عرضة للخطر حال تعرض سوق النفط لأي تحديات.
وفي قراءة سريعة لمنحنى الطلب العالمي على النفط خلال العقود الماضية يلاحظ أن المنحنى في تراجع واضح، بسبب الابتكارات والتكنولوجيات الجديدة والتغييرات الجوهرية الجارية في أسواق الطاقة العالمية، وهو ما يعني ضرورة وضع هذه الجزئية في الاعتبار حين البدء في تنفيذ رؤية المملكة.
فقد ارتفع الطلب العالمي على النفط بمعدل 4.5% سنويًا، خلال الفترة الممتدة بين 1965 إلى 1975، بينما ارتفع بمعدل 1.8% فقط سنويًا منذ سنة 2007، ما يعني أن الطلب يتراجع باستمرار، الأمر الذي يضع المملكة أمام تحديات صعبة لتسريع إصلاحاتها قبل اضمحلال عائداتها النفطية التي تغذِّي اقتصادها.
وبحسبة بسيطة، إذ استمر تراجع الطلب على النفط بوتيرته المتصاعدة الحاليّة فإن الوضع سيكون صعبًا أمام الرياض التي يجب عليها أمام هذا الأمر أن تننتهي من إصلاحاتها في غضون 5-10 سنوات وهو حيز زمني ضيق جدًا ربما يسفر عنه أخطاء كبيرة، بينما إن ظل الطلب في معدلاته الطبيعية خلال فترة 15-20 عامًا فسيكون لدى المسؤولين السعوديين حيِّز زمني واسع لتنفيذ الإصلاحات ببطء حتى سنة 2030، وعلى كل فإن الأمر يحمل مخاطرة تنعكس بشكل أو بآخر على رؤية ولي العهد.
تساؤلات بشأن القطاع الخاص
لا شك أن نجاح رؤية 2030 مرهون بشكل كبير بتوسيع القطاع الخاص وازدهاره، فهو العصب الأساسي الأول الذي من المفترض أن تعتمد عليه الخطة، لكن يبدو أن بوادر هذا الأمر لا تبشر بخير، كما ذهب الكاتب السعودي عبد الخالق علي، الذي أوضح أن القطاع الخاص يعاني من مشاكل كبيرة بعد تراجع الإنفاق الحكومي على المشاريع الحكومية والبنية التحتية.
الكاتب السعودي في مقاله أشار إلى أن مظاهر تأثر القطاع الخاص بدأت من وقت مبكر العام الماضي 2015 في قطاع الإنشاءات بتأخر صرف رواتب العمال لعدة أشهر ثم تسريح أعداد كبيرة منهم، وتفاقمت المشكلة بعد ذلك حتى توقفت كبرى شركات الإنشاءات عن صرف رواتب عمالها واقتربت بعض تلك الشركات من الإفلاس، وما زالت القضايا المرفوعة ضدها تُنظر في المحاكم.
الشركات السعودية الخاصة هي التي تكبَّدت آثار التغييرات الجذرية التي يُجريها الأمير الشاب
الأمر ذاته كشفته صحيفة الفاينناشيال تايمز من خلال تقرير ميداني لها توصلت إلى أنه بعد ثلاث سنوات من إطلاق ولي عهد السعودية، خطته لتحويل المملكة إلى دولة عصرية من خلال “رؤية السعودية 2023″، فإن الشركات السعودية تعاني بشدة، والأمور غير مستقرة، والخوف من البطش يدفع الغالبية إلى الصمت.
الصحيفة بعد استعراضها لمظاهر تلك المعاناة، أوضحت أن الشركات السعودية الخاصة هي التي تكبَّدت آثار التغييرات الجذرية التي يُجريها الأمير الشاب، وكذلك تأثَّر إنفاق الأسر بالتخفيضات الضخمة في دعم الطاقة، بالإضافة إلى فرض ضريبة القيمة المضافة.
وأضافت أنه بعد هبوط سعر النفط عام 2014، حدث عجزٌ في تسديد عشرات مليارات الدولارات من العقود الحكومية، فضلاً عن أنَّ الزيادات الكبيرة في التعريفات على العمالة الأجنبية – التي كانت تشكِّل نحو 90% من وظائف القطاع الخاص – أدَّت إلى ارتفاعٍ صاروخيٍّ في التكاليف وانخفاضٍ حادٍّ في الأرباح، وهو ما تسبَّب في رحيلٍ جماعي للمغتربين، ثم إنَّ نقص الطلب الاستهلاكي أفضى إلى تضخُّم الأسعار.